< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث الظن.

ثانياً:- إنه بقطع النظر عمّا ذكرنا في المناقشة الأولى نقول إنَّ الحكومة تتم فيما إذا كانت الآيات الناهية عن الظن تنهى نهياً تكيفياً لا نهياً ارشادياً ، يعني أنَّ قوله تعالى: ﴿ إنَّ الظن لا يغني ﴾ أو ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ هو أنه حرام ولا يجوز ، فلا تتبع الظن تكليفاً فإنَّ عليه عقوبة ، فإذا كان النهي تكليفياً فما أفاده الشيخ النائيني(قده) - بقطع النظر عن مناقشتنا الأولى - له وجاهة ، لأنَّ العمومات تقول لا تتبع الظن فإنه لا يجوز تكليفاً ونحن نحتمل أنَّ هذا الظن الحاصل من الخبر أنه حجة ، فنحتمل أنه علم ، فلا نجزم بأنه مصداق للظن ، فكلامه وجيه لأنه يصير من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية .

ولكن نقول:- ليس هو كذلك ، بل هو نهي ارشادي ، يعني يريد أن يرشدنا إلى أنَّ الظن لا يغني عن الحق شيئاً يعني هو بحكم العدم ، وليس المقصود أنه يحرم اتباعه ، فإنَّ اتباع الظن لا يحتمل أنه حرام ، بل أقصى ما هناك أنه لا يجزي لا أنه حرام ، فعلى هذا الأساس أقصى ما تقوله الآيات بهذه القرينة التي ذكرناه - وهي أن اتباع الظن ليس من المحرمات وإنما لا يجزي عن الواقع - أنَّ الظن لا يجزي عن الواقع ولا يغني عنه يعني ارشاد إلى أنه ليس بحجة ، والدليل المحتمل أنه مخصّص يقول هذا الظن حجة ، فتحصل النسبة بينهما هي نسبة العام والخاص ، فإنَّ الآيات تقول كل ظن لا يغني من الحق شيئاً فهو لا ينفع وليس بحجة في اثبات الواقع ، ولكن يأتي هذا الظن كالظن الحاصل من خبر الواحد أو من الشهرة الفتوائية الذي نحتمل حجيته لو كان هناك دليل محتمل يدل على حجيته فهذا الدليل يقول إنَّ هذا الظن بالخصوص حجة ، فذاك العام يقول كل ظن ليس بحجة وهذا يقول هذا الظن حجة فيصير المورد من الشك في التخصيص ، فلا نعلم أنَّ ذلك العام هل ورد دليل لتخصيصه أو لا - والمفروض نحن شاكّون في حجية هذا كخبر الثقة أو الشهرة الفتوائية - ، فإذا شككنا فهذا يعني أننا نشك في المخصّص ، فيوجد عندنا عام يقول كلّ شك ليس بحجة وهو لا يغني عن الحق شيئاً ولا ينفع في اثبات الواقع وهذا نهي ارشادي ، ونحتمل وجود مخصّص له يقول هذا الظن حجة ، فيصير المورد من موارد العام ونشك في وجود مخصّص له ، وكلما كان لدينا عام وشككنا في وجود مخصّص له فنتمسّك بعموم العام.فإذن ما أفاده الشيخ النائيني(قده) يتم إذا كان النهي في الآيات الكريمة نهياً تكيفياً ، أما إذا كان نهياً ارشادياً فلا يتم ويثبت عدم حجية هذا الظن المشكوك حجيته.

ولم يذكر السيد الخوئي(قده)[1] هذان الجوابان وإنما ذكر جواباً آخر فقال:- إني أسلّم بمسلك جعل العلمية ، وأسلم بأن الأمارة - كالشهرة الفتوائية - إذا كانت حجة فهي علم ، ولكنك قلت لو كانت الشهرة الفتوائية حجة فدليل حجيتها يكون حاكماً على الآيات الناهية عن اتباع الظن ، يعني يخرج هذا الظن ويقول هذا ليس بظن وإنما هو علم فهو حاكم ، ولكني لا أقبل هذه الحكومة ، وذلك لوجود قاعدة تقول ( إنَّ الحكومة لا تثبت ولا تتحقق إلا بالعلم ) ، يعني يلزم أن أجزم بأنَّ هذا حاكم فآنذاك تثبت الحكومة ، أما مجرّد احتمال أنه حاكم فلا يكفي في تحقق الحكومة ، بل يلزم أن تكون الحكومة جزمية فآنذاك تثبت الحكومة ، وحيث إنه في موردنا لا نجزم بأنَّ الشهرة الفتوائية حجة ، فلا نجزم بأنها علم ، فلا نجزم بأنَّ دليل حجيتها حاكم على العمومات الناهية عن اتباع الظن ، فإنَّ الحكومة فرع الجزم بأنَّ هذا الحاكم موجود وثابت فتتحقق الحكومة.

ومن أين أتى السيد الخوئي(قده) بهذه القاعدة ؟

قال:- توجد عندي قرينة ، وهي أنه لو شككنا في حجية شيء من الأشياء كالدعاء عند روية الهلال أنه واجب أو لا ويوجد خبر ضعيف أورث لنا احتمال الوجوب ففي مثل هذه الحالة هل نأخذ بهذا الخبر مشكوك الحجية أو لا ؟ إنه جرت سيرة الفقهاء على أنهم لا يأخذون به بل يتمسّكون بحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، فليس لدينا علم بثبوت وجوب الدعاء عند رؤية الهلال لأنَّ هذا الخبر مشكوك الحجية وليس له سند أو أنه ذكر في عوالي اللئالي بلا سند أو أنه ذكره أحد الفقهاء بلا سند مثلاً ، فهنا نتمسّك بعموم حديث ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ) ونكتب في الرسالة العملية ( لا يجب الدعاء عند رؤية الهلال ) ، ونقول في التعليقة ( ودليلنا على ذلك هو أنه لا يوجد خبر معتبر يدل على الوجوب فنتمسّك بعموم رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، والحال أنه لو كان هذا الخبر ثابتاً وكان حجة فهو علمٌ على مسلك جعل العلمية ، وبالتالي يرتفع موضوع حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ويتبدل إلى علم ، ولكن رغم هذا ترى الفقهاء يتمسّكون بحديث الرفع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنَّ شرط تحقق الحكومة الجزم بتحقق الحاكم ، يعني يلزم بأن نجزم بأنَّ هذا حجة حتى حينذاك نجزم بأنه حاكم وآنذاك تثبت الحكومة ، ومجرّد احتمال الحجية لا ينفع واحتمال الحاكم لا ينفع ، بل لابد أن تصل الحجية وتعلم بها جزماً - أو اطمئناناً - فآنذاك يتحقق وصول الحجية وآنذاك تتحقق الحكومة على عموم حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، أما مع الشك فالحكومة لا تتحقق ونبقى نتمسّك بحديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) ، وموردنا أيضاً نطبق فيه هذا الكلام فنقول إنَّ الآيات تقول ﴿ إنَّ الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ فنتمسّك بعمومها مادمنا لا نجزم بحجية هذه الأمارة المشكوكة ، فإنه لا يوجد عندنا علم ، ومادام لا يوجد عندنا علم فنتمسّك بالعموم ، وفكرة الحكومة لا تأتي ، فهي إنما تأتي بشرط أن نجزم بتحقق الحاكم ونحن لا نجزم بتحقق الحاكم.

والجواب:- نحن إذا فسّرنا الحجية بالعلم فلازم هذا على مبناك أنَّ المورد الذي نحتمل فيه حجية الظن يعني نحتمل أن لا ظن وإنما هناك علم فيصير التمسّك من تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، فأنت فسّرت الحجية هنا بالعلم فإذا احتملنا أنَّ هذه الأمارة -كالشهرة الفتوائية - حجة يعني احتملنا أنها علم ، يعني بالتالي لا نجزم بأنها ظن ، وإذا لم نجزم بأنها ظن ونحتمل أنها علم فكيف نتمسّك بالآيات الناهية عن اتباع الظن فإنَّ هذا يصير من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وهذه قضية لا تقبل التشكيك ؟!!

نعم أنت تنقض علينا بسيرة العلماء وأنهم يتمسّكون بحديث الرفع في مورد الشك في حجية الشهرة الفتوائية أو غير ذلك.

ولكن نقول في المقابل:- إنَّ هذا إن دل على شيء فإنما يدل على بطلان مسلك جعل العلمية ، وغريب من السيد الخوئي(قده) ذلك ، يعني هو فرض أنَّ مسلك جعل العلمية مفروغ عنه ولكنه أراد أن يقول إنَّ الحكومة لا تثبت من باب أنَّ شرطها الجزم بتحقق الحاكم ، ونحن نقول إنه بناءً على تفسير الحجية بالعلم فالحكومة شيء قطعي لا يدور مدار العلم ، لأنَّ الآيات تنهى عن الظن ونحن حينما نحتمل أنَّ الشهرة الفتوائية حجة يعني يحتمل أنها علم بمقاييسه ، فإذا كان علماً يكون التمسّك بعموم الآيات الناهية من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، والعلماء إنما تمسّكوا بعموم حديث الرفع في مورد الشك في حجية الشهرة الفتوائية يدل على أنَّ تفسير الحجية بالعلمية باطل وأنه هناك تفسير آخر للحجية مثلاً بمعنى المنجّزية كما فسّرها بذلك الشيخ الخراساني(قده) ، فإذا فسّرنا الحجية بالمنجّزية فما ذكره الأعلام يكون تاماً ، لأنَّ الآيات الكريمة تقول ﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ ، يعني هي تنفي الحجية ، يعني تنفي كونها منجّزة ومعذّرة ، فهي تقول إنَّ الظن ليس منجّزاً وليس معذّراً ، فإذا شككنا في أنَّ الشهرة الفتوائية حجة أو لا فلا توجد منجزية ، فإنَّ التنجيز فرع العلم ، ولا يكون الشيء منجّزاً إلا بالعلم ، فإذا شككنا في أنَّ الشهرة الفتوائية حجة أو لا فذها يعني أننا شككنا بأنها منجّزة أو ليست منجّزة ، فلا علم لنا ، فلا يثبت كونها منجّزة ، فنتمسّك آنذاك بعموم العام ، وهذا بخلاف ما إذا فسّرنا الحجية بالعلمية فإنَّ العلمية لا تدور مدار العلم والوصول ، فأنت علمت أو لم تعلم فهي إذا كانت حجة صارت علماً بشكل قهري ، بخلافها إذا فسّرناها بالمنجّزية فإنَّ المنجّزية تدور مدار العلم ، وهذا فرق بين المنجّزية وبين جعل العلمية وبين العملي.

وخلاصة الرد على السيد الخوئي(قده):- هي أنَّ ما ذكرته إن دل على شيء فهو يدل على بطلان مسلك جعل العلمية ، وأنَّ المناسب مثلاً تفسير الحجية بالمنجّزية ، وكلام الأعلام يتم لأنَّ المنجّزية لا تتحقق إلا بعد العلم والوصول بخلاف العلمية.


[1] مصباح الأصول، الخوئي، ج2، ص133.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo