< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

36/04/03

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- مراحل الحكم - مباحث الحكم.
تساؤلان في المقام:-
عرفنا فيما سبق أن للحكم مبدأين الملاك والارادة وإن كان قد يظهر من الشيخ الخراساني(قده) أنهما من مراحل الحكم ولكن قلنا المناسب أنهما من مبادئ الحكم، وعندنا سؤال يرتبط بالملاك وآخر يرتبط بالإرادة:-
أما السؤل الذي يرتبد بالملاك فهو:- إنّ الأحكام كما نعرف تابعة للمصالح والمفاسد وهذا شيءٌ متّفقٌ عليه بيننا وبين المعتزلة خلافاً للأشاعرة - وسبب خلاف الأشاعرة هو لأجل مبناهم لأنّهم ينبون على أنّه لا يوجد قبيحٌ وحسنٌ إلّا ما يصنعه الشارع فيصير حسناً فما حسَّنه الشرع وأمر به يصير حسناً وما نهى عنه يصير قبيحاً فالحسن يتولّد بعد الأمر والقبح يتولّد بعد النهي أمّا قبلاً فلا حسن ولا قبح، وبناءً على هذا لا يُحتاج إلى ملاكٍ لأنّ الملاك نحتاجه لكي لا يلزم العبث فالله عزّ وجلّ حينما يوجب شيئاً أو يحرّم شيئاً فإذا لم يكن هناك ملاكٌ فليزم العبثيّة وإذا لزم العبثيّة فأيّ مانعٍ من ذلك ؟!! - فإنهم يقولون بأنّه لا قبحَ وبهذا المبنى عطّلوا العقول.
وهناك قضيّة واضحة أخرى:- وهي أنّ الأحكام الواقعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها وليس في الجعل، يعني أنَّ الصلاة حينما وجبت فلابد من وجود مصلحةٍ في متعلّق الأمر - أي في الصلاة أي لابد وأن تنهى عن الفحشاء والمنكر - لا أنّ المصلحة قائمةٌ في جعل الوجوب.
إنّما الكلام في الأحكام الظاهريّة فهل يمكن أن نفترض أنّ المصلحة ليست في متعلّق الحكم الظاهري وإنما هي في نفس الجعل ؟
ربما يظهر من صاحب الكفاية(قده) ذلك حيث ذكر:- ( أنّ تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنه إنما يتمّ في الأحكام الواقعية بما هي واقعيّة لا بما هي فعليّة )[1]، هذه العبارة قد توحي بما اشرنا إليه، وسواء ظهر منها ذلك أو لا فقد ذهب السيد الخوئي(قده) بصراحة[2] إلى ذلك وبذلك تخلّص من شبهة ابن قبة فإنّ ابن قبة له شبهة تصاغ بصياغات متعدّدة:-
وأحدها:- إنّه يلزم من تشريع الأحكام الظاهرية اجتماع المصلحة والمفسدة كما إذا كان الحكم الواقعي يقتضي الحرمة والحكم الظاهري يقتضي الإباحة فسوف يجتمع في الشيء الواحد مصلحةٌ ومفسدةٌ ومن الواضح أنّ المصالح والمفاسد هي أمورٌ واقعيّةٌ وليست اعتباريّة فإذا كانت واقعيّة فكيف تكون هناك مصلحة ومفسدة في الشيء الواحد ؟! إنه لا يمكن ذلك.
وفي ردِّ هذه الصيغة قال السيد الخوئي(قده):- لنلتزم بأنّ ملاك الأحكام الواقعيّة قائمٌ بالمتعلّق وأما في الأحكام الظاهريّة فهو قائمٌ في أصل الجعل، فإذن لم تجتمع المصلحة والمفسدة في شيءٍ واحدٍ بل في مركزين وهذا لا محذور فيه.
ونحن في هذا الصدد نقول:-
أوّلاً:- إنّ قيام المصلحة في أصل الجعل قضيّة ليست عقلائيّة في باب الأحكام الشرعيّة عادةً، نعم هي عقلائية في غير الاحكام الشرعية، فإن معنى كون المصلحة في أصل الجعل هو أنّ المصلحة قائمة في الاعتبار - يعني اعتبر أنَّ هذا الشيء واجب - فنفس هذا الاعتبار وهذا الجعل وهذا الانشاء هو فيه مصلحة ولا توجد مصلحة في أن يفعل المكلف أو لا يفعل وإنما المصلحة هي في أن أعتبر، وهذا عادةً ليس عقلائياً ولا يتصوّر حكماً من هذا القبيل عادةً، اللهم إلّا إذا فرض أنّ الأب أراد أن يعلّم ولده على إصدار الأوامر والنواهي فيقول له اعتبر على الناس هذا الشيء ويكونون ملزمين فيعتبر الولد ذلك في نفسه ثم يصدر الأمر أو النهي وبهذا ينتهي كلّ شيء عند إصداره للأمر أو النهي لأنّ المصلحة هي في أصل اعتباره، وهذا المقدار عادةً لا يتصوّر في الأحكام العقلائيّة.
نعم هذا يتصوّر في غير الأحكام كما لو فرض أنّ شخصاً يُشِيعُ بأنه يريد أن يتزوج فالمصلحة سوف تصير في أصل الاشاعة وهذه قضيّة ثانية، أمّا في باب الأحكام فلا يتصوّر مصلحة في أصل الجعل والاشاعة.
إن قلت:- كيف تقول بالأحكام الامتحانيّة فإن المصلحة في أصل الامتحان - يعني في إصدار الأوامر والنواهي - وليست في أن يفعل المكلف أو لا يفعل ؟
قلت:- لا نسلّم أنّ المصلحة في الأوامر الامتحانيّة هي في أصل الجعل لأنّ الهدف من الامتحان هو أن يتّضح أن المكلف إنسانٌ معتدلٌ أو ليس بمعتدلٍ وهذا لا ينكشف بمجرد الاعتبار والجعل وإنما ينكشف ذلك إذا زاول المكلف العمل فإذا زاوله كما زاول إبراهيم عليه السلام حيث وضع السكّين على رقبة ولده فحينئذٍ اتضح أنّه مطيعٌ إطاعةً تامّةً، فالامتحان لا يتّضح إلّا بأن يزاول الشخص الفعل لا بمجرد جعل الحكم وتشريعه واعتباره.
والخلاصة:- ينبغي التفرقة بين باب الأحكام وبين غيرها ففي غير باب الأحكام يتصوّر المصلحة في أصل الجعل أمّا في باب الأحكام فعادةً لا يتصوّر هذا الشيء إلا إذا أراد الوالد أن يعلّم ولده أو ما شاكل ذلك وهذه حالات شاذّة نادرة وإلا فالحالات المتعارفة لا يتصوّر فيها المصلحة في أصل الاعتبار.
ثانياً:- لو سلّمنا أنّه يمكن أن نفترض المصلحة في أصل الاعتبار فنقول إنَّ مثل هذا الحكم لا يجب امتثاله لأنّ المولى لا يريد الفعل إذ لا توجد مصلحة في الفعل وإنما المصلحة في أصل الجعل وقد استوفاها بأصل الجعل فالعفل حينئذٍ ليس من المهم الاتيان به، فإنه حتى لو تعقّلنا المصلحة في أصل الجعل يلزم أن لا يجب امتثال الأحكام الظاهريّة والحال أنّه لا يحتمل أحدٌ أنّ الأحكام الظاهرية لا يجب امتثالها.
إذن نقول للسيد الخوئي(قده):- إنّه حتى لو تعقّلنا المصلحة في أصل الجعل فلازم كلامك أنّ الأحكام الظاهرية لا يجب امتثالها وهذا ما لا تقول به حتى أنت، وعلى هذا الاساس تكون فكرة أنَّ المصلحة في أصل الجعل مرفوضةٌ ولنأخذ ذلك بعين الاعتبار.
وأما التساؤل الذي يرتبط بالإرادة فحاصله:- أنّ الله عزّ وجلّ حينما شرّع وجوب الصلاة مثلاً فهل له إرادة أو ليست له إرادة لها ؟ إنّه لابد وأن نقول قد كانت له إرادة وإلا كيف أمر ؟!! فإن كانت له إرادة فنقول إمّا أن يقع الفعل من المكلف أو لا يقع وعلى كلا التقديرين يلزم الإشكال، فإن وقع الفعل من المكلف لزم أن يكون مجبوراً على ذلك الفعل فإنّه وقع لأنّ الله عزّ وجلّ أراده فيكون مجبراً عليه، وإن لم يقع الفعل لزم انفكاك الارادة الإلهيّة عن المراد.
وإن شئت قلت:- بعد أمره تعالى بالصلاة فلابد وأن تكون له إرادة إلا كيف أمر بها ؟! فإن لم يمكن انفكاك المراد لزم الجبر وإن أمكن الانفكاك لزم تخلّف الارادة الإلهيّة عن المراد، وعلى كلا التقديرين يلزم المحذور، وما هو الجواب في هذا المجال ؟
وقد يقول قائل:- إنَّ هذا يتمّ بناءً على رأي الشيخ العراقي(قده) الذي فسر الحكم بالإرادة ولا يتم على رأي الشيخ النائيني(قده).
والجواب:- إنّ هذا الاشكال واردٌ على كِلا المسلكين إذ هناك إرادةٌ حتى على رأي الشيخ النائيني(قده)، فإنّه توجد إرادة إلهيّة ولا يمكن أن يحتمل في حقّ الشيخ النائيني أنّه يقول بعدم وجود إرادة، نعم هو يجعل الارادة مبدأً لا أنّه يجعلها عين الحكم كما فعل الشيخ العراقي، فالارادة لابدّ منها ولو كمبدأ، ومادمت عنده إرادة فيأتي الإشكال عليه وهو أنّه هل يمكن التخلّف أو لا ؟ وعلى تقديرٍ يلزم الجبر وعلى تقديرٍ آخر يلزم انفكاك الإرادة الإلهيّة عن المراد، فهذا الإشكال لا محيص عنه على رأي كلا العلمين.
وقد يقول قائل:- هذا يتمّ في الارادة التكوينيّة دون الإرادة التشريعيّة كما ربما يظهر ذلك من عبارة صاحب الكفاية(قده)[3].
وجوابه:- إنّ هذا إشكالٌ تامٌّ على كِلا التقديرين فإنّه ماذا يراد من الإرادة التشريعيّة[4] ؟ معناها هو تعلّق الإرادة بعفل الغير، فمرّة أريد فعل نفسي مثل أن أريد شرب الماء فأقبض الكأس بيدي وأتناوله فهذه إرادة تكوينية يعني أنها تعلّقت بفعل نفس المريد، وأخرى تتعلق بفعل الغير مثل أن أقول لغيري جئني بالماء وهذه ما يعبّر عنها بالإرادة التشريعية، وإرادة الله عزّ وجلّ في خلق السموات والأرض هي إرادة تكوينية ولكن إرادة الصلاة نسميّها بالإرادة التشريعيّة لأنّها إرادةٌ لفعل الغير، بالتالي أنَّ الله عزّ وجلّ يريد فعل الغير فهو يريد الصلاة فعاد الإشكال وأنه هل يمكن الانفكاك أو لا ؟ فإن قلت بأنّه لا يمكن الانفكاك لزم الجبر، وإذا قلت يمكن الانفكاك فيلزم تخلّف المراد عن الإرادة فالإشكال موجودٌ على كلا التقديرين.
هذا وقد أجاب الفلاسفة على الإشكال المذكور:- بأنّ الله عزّ وجلّ وإن أراد الصلاة منّا مثلاً ولكن أرادها باختيارنا وإرادتنا فهو لم يرِد ذات الصلاة منّا بل بقيد إرادتنا واختيارنا فصار الفعل الصادر منّا اختيارياً لأنّه صدر بإرادتنا والله عزّ وجلّ أراده منّا بإرادتنا واختيارنا[5]، وقد يظهر نفس هذا الجواب من عبارة صاحب الكفاية(قده)[6]، وبنى عليه الشيخ الأصفهاني(قده) أيضاً[7].



[4] - وألفت النظر أنّ المصطلحات أحياناً يمكن أن نتفع الشخص في مقام الإعلام والردّ لكن كواقعٍ فالإشكال يرد حينئذٍ فإنه حينما نسمع بـ( أرادة تشريعية ) يعني أنّ هذه إرادة تشريع لا إرادة تكوين فيرتفع الاشكال، ولكن إذا طرحنا المصطلحات فسوف يبقى الإشكال كما هو إذ ما معنى الارادة التشريعية ؟.
[7] نهاية الدراية، الاصفهاني، ج1، ص118، سطر16، ط قديمة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo