< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

35/04/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه الثامن ( وجه تقديم الأمارات على الأصول ) / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
ولأجل أن يتضح الحال لابد من توضيح هذه المصطلحات بشكلٍ مجملٍ وبيان وجه تقدّم الدليل الوارد على المورود مثلاً، أو وجه تقدم الخاص على العام، والمصطلحات هي أربعة:-
المصطلح الأول:- التخصّص.
والمراد منه خروج بعض الأفراد من موضوع العام خروجاً حقيقياً، كما لو قيل ( أكرم العلماء ) وكان شخص ليس بعالم فإنه خارج من موضوع العام بالتخصص - أي أنه غير مشمول حقيقة -، ولا يأتي هنا السؤال وهو أنه لماذا قدّمنا هذا على هذا ؟ إذ لا يوجد دليل آخر غير الدليل العام الذي هو ( أكرم العلماء ) حتى يقال لماذا قدّمنا هذا الدليل الثاني على الأوّل بل يوجد دليل واحد وهو العام . إذن الثابت في باب التخصّص هو دليل واحد لا أكثر وبعض الأفراد خارجة من موضوعه حقيقةً . وهذا بخلافه في الأقسام الأخرى فإنه يوجد دليل آخر فيأتي التساؤل وهو أنه لماذا قدّمنا الدليل الثاني على الدليل الأوّل ؟ أما في التخصص فلا يأتي هذا التساؤل وإنما ذكرناه من باب استيعاب المصطلحات لا أكثر.
المصطلح الثاني:- الورود.
وهو أن يفترض خروج بعض الأفراد من موضوع الدليل الأوّل خروجاً حقيقياً ولكن منشأ ذلك الخروج الحقيقي هو التعبد، نظير أن يقال ( احكم على طبق الحجّة الشرعيّة )، ويأتي دليل آخر ويقول ( جعلت خبر الثقة حجّة شرعاً )، إنه بهذا يتحقق فردٌ للحجّة وهو خبر الثقة، وهو فردٌ حقيقيٌّ لأن موضوع الدليل الأوّل هو عنوان الحجّة الشرعيّة وخبر الثقة بسبب الدليل الثاني هو حجّة شرعيّة حقيقةً لا مسامحة ولا تنزيلاً ولا غير ذلك بل هو حجّة شرعيّة حقيقةً ولكن منشأ حجيّته الشرعيّة هو التعبّد والجعل الشرعي، وواضحٌ أنه كما يمكن أن نفترض أن هذا الدليل الثاني يُدخِلُ فرداً جديداً ويوسّع الدائرة يمكن أن نتصور أنه يُخرِجُ فرداً كما إذا فرض على أنه قال في الدليل الأوّل ( لا تحكم بغير الحجة ) يعني نُهِيَ عن الحكم بغير الحجّة وموضوع هذا النهي هو غير الحجّة فإذا فرض أنه جاء دليل وأثبت الحجيّة لخبر الثقة فعلى هذا الأساس سوف يخرج هذا الفرد من موضوع غير الحجّة . إذن الدليل الوارد تارةً يدخل فرداً ويوسّع من دائرة الموضوع وأخرى يخرج فرداً ويضيّق من دائرة الموضوع.
وبهذا اتضح أنّ بين التخصّص والورود جهة اشتراك وجهتان للاختلاف، أما جهة الاشتراك فهي أن خروج بعض الأفراد هو خروج حقيقيّ في كليهما، فكما أنه في التخصّص يكون خروج بعض الأفراد حقيقياً يكون الخروج في الورود حقيقياً أيضاً، وأما جهتا الامتياز والاختلاف فالأولى هي أن الخروج الحقيقي في باب التخصّص لا يحتاج إلى تعبّد ودليلٍ بينما في باب الورود يحتاج إلى تعبّدٍ ودليلٍ، وأما الجهة الثانية للاختلاف فهي أنه في باب التخصّص لا يتصوّر إلّا الخروج - أي أن بعض الأفراد تكون خارجة - أما دخول بعض الأفراد بمعنى التوسعة فهذا لا يتصوّر فيه ولكنّه يتصوّر في باب الورود.
إذن باب الورود يتصوّر بإخراج بعض الأفراد حقيقةً كما يتصوّر بادخال بعض الأفراد في موضوع العام إدخالاً حقيقياً، أما في التخصّص فلا يكون ذلك إلا بخروج بعض الأفراد حقيقةً . والفارق المهمّ بين التخصّص والورود رغم أنهما يشتركان في كون الإخراج في كليهما إخراجاً حقيقياً هو الأوّل، أي أنه في التخصّص يكون الاخراج الحقيقي بلا حاجة إلى إعمال تعبّدٍ ولو من بُعدٍ، بينما في الورود نحتاج إلى إعمال تعبّدٍ ودليلٍ آخر فلابد وأن نفترض وجود دليلٍ آخر حتى يتحقق بسببه هذا الاخراج أو الخروج الحقيقي.
وهنا يأتي التساؤل فيقال:- لماذا يُقدَّم الدليل الوارد على الدليل المورود ؟
والجواب:- ذلك باعتبار أنه لا يوجد عرفاً بل وحقيقةً أيّ تعارضٍ بينهما حتى يقال لماذا قُدّم هذا على ذاك ؟ فإن المفروض هو أن الدليل العام يقول ( أحكم بالحجّة ) يعني كلّ ما هو حجّة حقيقةً فأنت احكم على طبقه، أما أن هذا حجّة حقيقةً أو لا فهو ساكت عنه ولا يقول إن هذا حجّة حقيقةً أو لا فإن الحكم ليس ناظراً إلى موضوعه، ودليل الحكم هو متكفلٌ لإثبات الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، أما أن هذا موضوعٌ أو ليس بموضوعٍ فهذا لا يتكفّله، فهو يقول ( احكم بالحجة ) والمفروض أنه جاء الدليل الآخر وعيّن المصداق وقال هذا جعلته حجّة حقيقةً، فالعام حينئذٍ يقول مادام هذا حجّة حقيقةً فيجوز الحكم على طبقه، فالمنافاة ليست موجودة بينهما بل بينهما كمال التلاؤم، فالسؤال هنا أيضاً وأنه لماذا قُدِّمَ هذا على هذا لا معنى له لأنه هذا السؤال فرع المعارضة والمفروض أنه لا معارضة بينهما.
المصطلح الثالث:- التخصيص.
فهو عبارة عن خروج بعض الأفراد من حكم العام بعد كونها فرداً من موضوع العام، فهي فردٌ من العام ولكن المخصّص يخرجها من الحكم، كأن يقول الدليل الأوّل ( أكرم كلّ عالمٍ ) ويأتي الدليل الثاني ويقول ( هذا العالم لا تكرمه )، فهو يعترف بأنه عالم ولكن يقول لا تكرمه فهو استثناءٌ من الحكم وليس استثناءً من الموضوع، إن هذا عبارة عن التخصيص، وأمره واضح.
والسؤال هو:- لماذا يقدّم الخاص على العام، ماهي نكتة التقديم ؟
والجواب:- إنّها نكتة عرفيّة، فإن العرف يرى أن الخاص قرينة على توضيح المراد الجدّي وأن المراد الجدي من ( أكرم كلّ عالم ) ليس هو على عرضه العريض بل ما عدى هذا الفرد، فالعام مستعمل في العموم ولكن ليس بمرادٍ جدّاً، أي أن هذا المراد الاستعمالي ليس مراداً جديّاً وإنما المراد الجدّي أضيق ويختصّ بغير هذا العالم . إذن هو قرينة على تشخيص المراد الجدّي، ولكن نستدرك ونقول:- هو ليس قرينة شخصيّة وإنما هو قرينة عرفيّة نوعيّة، يعني أن العرف والعقلاء يرون أن الخاصّ قرينة على تشخيص المراد الجدّي من العام وإنما قيّدنا بكونه قرينة نوعيّة لا شخصيّة باعتبار ما سيأتي فإنه في باب الحكومة يكون الحاكم قرينة شخصيّة، يعني أن نفس المتكلّم هو بنفسه قد جعل هذا قرينة على تفسير ذاك، أما هنا في باب الخاصّ والعام فالقرينة قرينة عرفيّة عقلائيّة اجتماعيّة هي التي تدلّ على أن المتكلّم يقصد من المراد الجدّي أضيق من المراد الاستعمالي.
المصطلح الرابع:- الحكومة.
وهي أن يكون أحد الدليلين مخرجاً لبعض الأفراد - أو مدخلاً لبعض الأفراد[1] - من موضوع الدليل الآخر وبالتبع سوف يخرج هذا البعض من الحكم فإنه إذا خرج من الموضوع فسوف يخرج من الحكم جزماً . وهذا بخلافه في التخصيص فإنه فيه يكون الدليل الخاصّ مخرجاً للفرد من الحكم مباشرةً من دون أن يخرجه من الموضوع بل يقول هو من الموضوع فهو عالمٌ ولكنّي أخرجه من الحكم، إما في باب الحكومة فالإخراج يكون من الموضوع وبالتبع يكون الاخراج من الحكم، فكلاهما إذن يشتركان في الاخراج من الحكم - أي كللاهما يخرجان بعض الأفراد من الحكم - إلا أنه في باب التخصيص يكون الاخراج من الحكم مباشرةً بخلافه في الحكومة فإن الاخراج ليس مباشرة بل بالإخراج من الموضوع أوّلاً وبالملازمة سوف يخرج من الحكم، وهذا نحوٌ من أنحاء الأساليب البلاغيّة في لغة العرب فإنه بدل أن يقال ( فلان العالم لا تكرمه ) يقال ( فلان مادام لا يسير على هذا الخط فهو مهما درس ومهما فهم فهو ليس بعالم ) ولازمه أنه سوف لا يشمله الحكم . إذن التخصيص والحكومة يشتركان في شيءٍ، ويختلفان في شيئين أولهما أنه في باب التخصيص يكون الاخراج من الحكم بالمباشرة وفي باب الحكومة لا يكون بالمباشرة، وثانيها هو أنه في باب الحكومة يوجد نظر من الحاكم إلى الدليل المحكوم بينما في باب التخصيص لا يوجد نظر . ووجه الحاجة إلى النظر في باب الحكومة هو أن المفروض أن الاخراج إخراج من الموضوع وبالتالي يكون الاخراج بعد ذلك من الحكم فيلزم أن نفترض وجود الحكم في مرتبةٍ سابقةٍ وله موضوعٌ حتى يأتي هذا الحاكم ويخرج هذا الفرد من الموضوع وبالتالي يخرجه من الحكم، فالنظر قضيّة ضروريّة في باب الحكومة لأجل النكتة التي أشرنا إليها بحيث لو فرض أنه لا يوجد دليل محكوم يكون الدليل الحاكم لغواً، يعني بتعبيرٍ آخر:- إذا لم يكن عندنا ( أكرم العالم ) فالدليل الحاكم الذي يقول ( هذا ليس بعالم ) يكون لغواً إذ كونه ليس بعالمٍ أو كونه عالماً أيُّ أثرٍ له مادام لا يوجد حكمٌ ؟!! فإذن يلزم وجود حكمٍ مسبقٍ ومن دون وجوده يكون هذا لغواً . بينما في باب التخصيص فيمكن أن نفترض الخاص بلا وجود عام، فيأتي دليلٌ يقول ( لا تكرم العلماء المتصفين بكذا ) فيمكن أن يحرّم إكرامهم سواء فرض وجود دليل عام أو لا.
ويوجد فارقٌ ثالث بين التخصيص والحكومة:- وهو أن التخصيص لا يتصوّر فيه إلا التضييق، وأما في باب الحكومة فيتصوّر التضييق والتوسعة.
والسؤال:- لماذا يقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ؟
والجواب:- أجاب عن ذلك الشيخ الأصفهاني(قده)[2] ووافقه السيد الخوئي(قده)[3] بأن النكتة في ذلك هو أن الدليل المحكوم - يعني الذي يقول ( أكرم العالم ) - هو في روحه قضيّة شرطيّة - يعني إذا كان الشخص عالماً فأكرمه - فهو قضيّة حقيقة ومرجعها إلى قضيّة شرطيّة، والقضيّة الشرطية لا تتكفّل إثبات شرطها بل هي تقول ( إذا كان عالماً فاكرمه ) أما أنه عالم أو ليس بعالم - أي أن الشرط موجودٌ أو ليس بموجود – فهي ساكتة عنه، فإذا جاء دليلٌ آخر وقال ( هذه الذي لا يسير على الخط المستقيم ليس بعالم ) لا يتنافى حينئذٍ مع الدليل الأوّل لأن الدليل الأوّل لا يثبت أن هذا عالم بل يقول ( إذا كان هذا عالماً فأكرمه ) أمّا أن هذا عالم أو ليس بعالمٍ فلا يتكفله، فعندما جاء الدليل الثاني وقال ( هذا ليس بعالم ) فهو يقدّم من باب أنه يقول شيئاً لا يأباه الأوّل، ومادام لا يأباه الأوّل فيتقدّم حينئذٍ عليه من باب أن الأوّل يرضخ إليه.
يعني بتعبير آخر:- أن العلمان(قده) ذكرا نظير ما أشرنا إليه في باب الورود، فإنّا قلنا أن الدليل الوارد يُقدَّم على الدليل المورود من باب أنه يقول شيئاً لا يتعارض مع الدليل المورود لأن الدليل المورود يقول ( اُحكم بالحجّة ) أما أن هذا حجّة أو لا فهو ليس بصدده فيأتي الدليل الآخر ويقول هذا حجّة شرعاً، فإذن هو يقول شيئاً لا يأباه ذاك . إذن نفس هذه النكتة التي ذكرناها في باب الورود أرادوا أن يسحبوها إلى باب الحكومة، فهل أن ما ذكروه تامّ أو هو قابلٌ للإشكال ؟


[1] لأن الحكومة قد تكون موسّعة وقد تكون مضيقة بخلاف التخصيص فإنه دائماً يكون مضيّقاً ولا يتصور أن يكون موسّعاً.
[2] منتهى الدراية، الاصفهاني، ج3، ص144.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo