< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/02/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 87 ) يشترط في البيع أن لا يكون غررياً - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

وأما من حيث الدلالة:- فيمكن أن يقال إنَّ كلمة الغرر تأتي بمعنيين أحدهما لا ينفعنا والثاني ينفعنا، وحيث لا نجزم بأنَّ المقصود هو الثاني الذي ينفعنا فالحديث يصير مجملاً، فلا يمكن التمسك به، والمعنى الأول للغرر هو الخديعة، وهذا استعمال عرفي فيقال فلان غرّني يعني بمعنى خدعني ودلّس عليَّ، والقرآن الكريم قد استعمل مادة الغرر في هذا المعنى في غير مورد، من قبيل قوله تعالى ﴿ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[1] يعني فلا تخدعكم، وكما في قوله تعالى ﴿ فدلالها بغرور ﴾، فإبليس دلى آدم وحواء على الشجرة بغرور يعني بخديعة، وهكذا ورد في الحديث ( المغرور يرجع على من غره ) يعني إذا خدعه شخص آخر ودلس عليه يرجع على المدلس.

فإذاً مادة غرر تستعمل في معنى الخديعة والتدليس، وهذا المعنى لا ينفعنا، لأننا نتكلم فيما إذا كان المبيع أو الثمن ليس معلوماً مقداره أو وزنه، فالغرر هنا بمعنى عدم المعلومية وليس بمعنى الخديعة، أما المعنى الثاني لمادة الغرر فهو بمعنى الخطر، وربما يمثل لبيع الخطر بيع السمك في الماء والطير في الهواء، فيقال هذا من بيع الغرر يعني من بيع الخطر فإنَّه فيه مخاطرة، فمن يعلم أنك تستطيع أن تخرج هذه السمكة من الماء أو أن تمسك الطير الذي في الهواء فإن هذا فيه مخاطرة ومجازفة بالمال.

وبعد اتضاح هذين المعنيين لكلمة ( غرر ) والذي ينفعنا هو المعنى الثاني، وحيث لا مثبت له، إذ يحتمل إرادة الأول، بمعنى أنَّ ( نهى النبي عن بيع الغرر ) أي نهى عن بيع الخديعة والتدليس، وعليه فسوف يكون الحديث مجملاً، فلا يمكن التمسك به لإثبات شرطية العوضين.

إذاً الحديث ضعيف سنداً لمجهولية رواته، وكذلك ضعيف دلالةً، لأنَّ مادة الغرر مجملة، فيحتمل إرادة الخديعة دون الغرر بمعنى المخاطرة بالمال.

إن قلت: - صحيح أنَّ مادة الغرر في الحديث الشريف هي مجملة ومرددة بين الاحتمالين والنافع هو الاحتمال الثاني ولا مثبت له ولكن نقول سوف يتكون لدينا علم إجمالي بأنَّ المراد إما بمعنى الخديعة أو بمعنى المخاطرة، وحيث أنَّ العلم الاجمالي منجّز فيثبت بذلك حرمة وعدم جواز بيع الغرر بكلا المعنيين، فإذاً وصلنا إلى المطلوب غايته من طريق العلم الاجمالي.

قلت: - إنَّ العلم الإجمالي منجّز في باب التكليف الالزامي، كما لو كنا لا نعلم بأنَّ هذا الطرف حرام أو ذاك الطرف هو الحرام، أو أنَّ هذا الطرف واجب أو ذاك الطرف هو الواجب، فهنا يكون العلم الإجمالي منجزاً، كما لو لم أعلم بأنَّ هذا الطرف هو النجس أو الطرف الآخر هو النجس فلا يجوز شربه، فهنا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، أما في موردنا فهو بمعنى الخديعة حرام وبمعنى المخاطرة باطل لا أنه حرام، يعني إذا بعنا وكان المبيع ليس معلوماً فصحيح أنها مخاطرة ولكن لا يحتمل فقيه أنه حرام وإنما غاية ما في الأمر أن يقال هو باطل، فإذاً على التقدير الأول - وهو تقدير إرادة الخديعة - يكون حكماً إلزامياً، وأما على التقدير الثاني لا يكون حكماً إلزامياً وإنما أقصى ما هنا هو البطلان، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجزاً.

وبهذا ننهي حديثنا عن الوجهين الأولين لإثبات بطلان بيع الغرر، ويشترك في هذين الوجهين - كما قلنا - حالة الجهالة بالمبيع وحالة الجهالة بالثمن ولا يختص بحالة الجهالة بالمبيع أو الجهالة بالثمن، وقد اتضح عدم تماميتهما.

الدليل الثالث: - الروايات، هي: -

الرواية الأولى: - صحيحة الحلبي وقد رواها الشيخ الطوسي عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: - ( في رجل اشترى من رجل طعاماً عِدلاً بكيل معلوم وأن صاحبه قال للمشتري ابتع مني [ من ][2] هذا العِدل الآخر بغير كيل فإن فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت، قال:- لا يصلح إلا بكيل، وقال:- ما كان من طعام سميت فيه كيلاً فإنه لا يصلح مجازفةً هذا مما يكره[3] من بيع الطعام ) ، ودلالة الحديث واضحة على المقصود حيث دلت على أنَّ المكيل لا يجوز بيعه إلا مع الكيل والاعتماد على الاخبار لا يجوز.

أما السند: - فالحسين بن سعيد هو الأهوازي وهو أخو الحسن بن سعيد وكلاهما ثقة، أما صفوان فهو من الثقات، وعبد الله من مسكان ثقة أيضاً، كذلك الحلبي ثقة، ولكن الشيخ الطوسي نقل الحديث عن الحسين بن سعيد والحال أنه لا ينقل عن الحسين بن سعيد مباشرة فإنَّ الحسين بن سعيد من أصحاب الأئمة عليهم السلام ويوجد فاصل كثير بينه وبين الشيخ الطوسي، ولعل الفاصل بينهما يصل قرنٍ أو أكثر، فتوجد وسائط بين الشيخ الطوسي وبين الحسين بن سعيد، ولكن لو رجعنا إلى السند الذي يروي فيه الشيخ الطوسي هذا الحديث عن الحسين بن سعيد وجدناه معتبراً، وقد روى الشيخ الطوسي هذا لحديث في التهذيب[4] ، ورواه الكليني أيضاً حيث قال:- ( عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي )[5] ، ورواه الصدوق أيضاً حيث قال:- ( وروى ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام )[6] ، ومن المعلوم أنَّ الصدوق لا يروي عن عبد الله بن مسكان فلابد ان تراجع مراجعة مشيخة من لا يحضره الفقهية، لو رجعنا إليها وجدنا طريق الصدوق إلى ابن مسكان معتبراً[7] ، وكما قلنا أنَّ طريق الشيخ الطوسي إلى الحسين بن سعيد لا مشكلة فيه، فإنه إذا كان طريقه في المشيخة[8] يتأمل فيه لكن في الفهرست[9] له طريق آخر معتبر، فإذاً هذا الحديث معتبر بجميع طرقه.


[2] وكلمة ( من ) موجودة في الوسائل فقط ولكنها ليست موجودة في مصادر الحديث.
[3] وتعبير ( يكره ) في الأحاديث قد يستعمل بمعنى عدم الجواز وفي هذا المورد هو من هذا القبيل لأنه من الأول قال الامام عليه السلام ( لا يصلح ) فهنا حينما يعلل بكونه ( هذا مما لا يصلح ) فهذه قرينة واضحة على أنَّ المراد من ( يكره ) عدم الجواز.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo