< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حرمة الاحتكار ، مسألة ( 46 ) - المكاسب المحرّمة.

الرواية الرابعة:- عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن جعفر بن محمد الأشعري عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قالك- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون )[1] ، وبناءً على دلال اللعن على التحريم تكون دالة على ذلك ، ونحن قد أشرنا إلى هذا وأنه يوجد كلام في ذلك وهذه قضية استظهارية ، ونحن كنا من المترددين على الظهور في الحرمة ، فبناءً على دلالته على الحرمة فحينئذ يقال إنَّ الرواية قالت ( والمحتكر معلون ) فهي اثبتت اللعن للمحتكر من دون تقييد المحتكر بقيد فيشمل بإطلاقه جميع أفراد المحتكر وبذلك تكون هذه الرواية دالة على حرمة أوسع من الحالتين.

ولكن يمكن أن يشكل ويقال:- إنَّ الاطلاق لأكثر من الموردين فيها محل إشكال وذلك لبيانين:-

البيان الأوّل:- إنَّ الرواية أعملت مقابلة بين الجالب وبين المحتكر فهي في صدد أن تبين أنَّ جلب الأرزاق جيد والاحتكار سيء ، أما أنَّ هذا بجميع أفراده كذلك وذاك بجميع أفراده كذلك فيمكن أن يقال إنها ليست في مقام البيان من هذه الناحية بل هي في مقام البيان في أنَّ هذه الطبيعة خير من تلك الطبيعة ، فالنظر هو إلى أنَّ هذه الطبيعة أحسن من تلك الطبيعة ، مثل ما نقول:- ( العلم خير من الجهل ) فالمقصود هنا هو المقايسة بين الطبيعتين لكن لا يُقصد بذلك أنَّ جميع أفراد العلم هي أحسن من الجهل ، فإنه قد لا يُقصد هذا المعنى والمتكلّم ليس في مقام البيان من هذه الناحية وإلا فبعض أفراد العلم قد تكون مضرة أكثر من الجهل.

البيان الثاني:- إنَّ المحتكر ليس ملعوناً دائماً وفاعلاً للمحرم دائماً فإذا فرضنا أنَّ الشخص يحتكر الطعام لكن يوجد باذل غيره مثل هذا الاحتكار ليس محرّماً وإنما هو جائز مادام الغير يعرض هذه السلعة.

فإذن ليس المقصود حينما اثبت اللعن على المحتكر هو لعن جميع الأفراد وإنما حصّة خاصة ، وما هي تلك الحصة ؟ حيث إنها مردّد بين الحالتين وبين ما زاد عليهما فنأخذ آنذاك بالقدر المتيقن من هذه الناحية تطبيقاً لقاعدة وهي ( إذا جزمنا من الخارج بأن المطلق لا يراد اطلاقه وتردّد المراد بعد عدم ارادة الاطلاق بعرضه العريض بين الدائرة الوسيعة والدائرة الضيقة فبعد عدم ارادة الاطلاق لا معين لإحدى الدائرتين في مقابل الأخرى فيحصل اجمال فنقتصر على القدر المتيقن ) وفي مقامنا القدر المتيقن هو الحالتان لا أكثر من ذلك.

أما من حيث السند:- فقد ورد فيه سهل بن زياد وهو على المبنى ، فمن أراد التوقف فيه فيكون السند محل إشكال ، وأيضاً جعفر بن محمد الأشعري لم يرد في حقه توثيق.

الرواية الخامسة:- عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه:- ( أنَّ علياً عليه السلام كان ينهى عن الحكرة في الأمصار )[2] .

وتقريب دلاتها واضح ، حيث كانت تقول كان الأمام عليه السلام ينهى عن الحكرة في الأمصار ، وحيث لم تقيد فيثبت بذلك حرمة الاحتكار بعرضه العريض.

ويشكل عليها بإشكالين:-

الاشكال الأوّل:- إنَّ كلمة ( ينهى ) على المبنى الذي بيّناه ، وهو أنَّ هذا إخبار وليس إنشاءً فيلتئم مع النهي الكراهتي ، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد النهي التحريمي.

الاشكال الثاني:- إنها قالت ( كان ينهى عن الحكرة ) يعني أنه كان ينهى عن أفراد الحكرة فإنه يحتمل أن يكون المقصود هو هذا ، وبكلمة أخرى إنه يحتمل أنَّ الصادر من أمير المؤمنين عليه السلام أنه ارتقى المنبر وقال ( أيها الناس يحرم عليكم الاحتكار ) ، وإذا كان هذا الاحتمال موجوداً - ويكفينا الاحتمال ولا نحتاج إلى جزم - فلعل المورد الذي كان ينهى عنه كان من قبيل الحالتين لأنَّ هذا نهي في واقعة وليس نهياً كلياً[3] وإنما يحتمل أنَّ النهي كان في واقعة ونحن لا نعرف تلك الواقعة ولعلّه كان النهي في المورد الذي كانت فيه الحكرة من احدى الحالتين ، فإذن لا تنفعنا الرواية من هذه الناحية ، هذا لو غضضنا النظر عن السند ، وإلا فيشكل من ناحية أبي البختري الذي هو وهب بن وهب والذي قيل عنه ما قيل ، فإذن الرواية محل إشكال سنداً ودلالة.

الرواية السادسة:- رواية نهج البلاغة: محمد بن الحسين الرضي ،في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى مالك الشتر قال ( فامنع من الاحتكار فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل واسعاً[4] [ وأسعار ] لا تجحف بالفريقين من البايع والمشتري ... فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل وعاقب في غير إسراف )[5] .

وهذه الرواية تدل على المقصود في موضعين ، الأوّل قوله عليه السلام:- ( فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منع منه ) ، والثاني قوله عليه السلام:- ( فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل وعاقب في غير إسراف ) فهذا أيضاً يدل على حرمة الاحتكار وإذا جعلنا نهي النبي صلى الله عليه وآله مورداً مستقلاً صار الموارد ثلاثة.

وهل دلالتها تامة بحيث تدل على المنع في مساحة أوسع من الحالتين ؟

إنَّ الرواية قالت:- ( فامنع من الاحتكار ) ، فيأتي ما ذكرناه وهو أنه أي احتكار هو ؟ إنه ليس بعرضه العريض ، فلو فرضنا أنَّ الشخص يحتكر السلعة لكنها موجودة في السوق فهذا نحو ليس ممنوعاً من الاحتكار منه جزماً ، وهذا قد عرفناه من الخارج ، فعلى هذا الأساس يدور الأمر بين ارادة الحالتين أو الأوسع منهما ، وحيث يحصل اجمال فنقتصر على القدر المتيقن.

والكلام يقع من حيث السند:- وقد تكلمنا عن ذلك ، وهو أنه هل سند نهج البلاغة في كلّ خطبه وفي كل كتاب فيه تام أو لا ؟ نتمكن أن نقول:- إنَّ الأمر مشكلٌ من حيث رجال السند ، فعله يصعب تحصيل خطبة أو كتاب تام من حيث السند ، والسبب هو أنَّ علماءنا كتبوا كتب الرجال للتوثيق والجرح في حق خصوص من يروي روايات الفقه ، يعني أنَّ النجاشي والطوسي صحيح أنهما وضعا الكتابين في الرجال لكنهما ناظران إلى ورايات الفقه ونادراً ما يكون الراوي مشتركاً بين الفقه وغير الفقه فهم يذكرونه من باب أنه راوٍ في الفقه أما الذي يروي في أمور خرى كالتاريخ والخطب فهما لم يضعا كتابيهما لذلك ، ولذلك نبقى في إشكال من هذه الناحية ، ولكن الذي يهوّن الخطب أن قوّة المضمون دليل على الصدور ، فإنَّ هذا الكلام الراقي الموجود في نهج البلاغة لا يحتمل صدوره من غير الامام عليه السلام ، خصوصاً إذا ضممنا مقدّمة أخرى وهي أنه لا يوجد شخص يجسر ويدّعي أنَّ هذا الكلام له أو أنه ليس لأمير المؤمنين عليه السلام وإنما هو لفلان إلا في مورد أو موردين لكن هذه قضية ثانية وإنما الطابع العام عليه هو أنه لا يوجد من يدّعي ذلك ، فعلى هذا الأساس لا إشكال في نهج البلاغة من هذه الناحية.

لكن هذه الطريقة تنفع لإثبات صحة هذا المضمون بشكل عام ، أما كل مفردة من مفرداته ، يعني أنَّ هذه الكلمة إذا كان الاستشهاد بكلمة معينة في بعض الأحيان فهذه الطريقة لا تثبت أنَّ هذه الكلمة صادرة من الامام علي السلام ، نعم هذا المضمون صادر حتماً لأنه لا يمكن أن يصدر من غير معدن العلم والطهارة ، فإذن نواجه مشكلة في هذه الطريقة ، فالتفتوا إلى ذلك.

لكن من حسن الحظ في خصوص عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر يوجد طريق معتبر للشيخ الطوسي(قده) ذكره في ترجمة الأصبغ بن نباتة حيث روى الأصبغ هذا الكتاب حيث قال:- ( أخبرنا بالعهد ابن أبي جيّد عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم والحسن بن ظريف جميعاً عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام ) [6] ، وهذا الطريق لا بأس به ، لكن توجهنا مشكلة وهي أنه لنفترض أنَّ هذا الطريق معتبر ولكن نحن نريد أن نثبت أنَّ الموجود في نهج البلاغة هو معتبر ، والشيخ الطوسي(قده) لم يذكر في كتبه هذا العهد حتى نقول هذا العهد وصل إلى الشيخ الطوسي بهذا الطريق المعتبر وإنما عنده طريق فقط ، وهذا لا ينفعنا في اثبات صحة الموجود في نهج البلاغة ، إلا أن نضم ضميمة وهي أن نقول:- لو كان هنا اختلاف بين ما وصل إلى الشيخ الطوسي(قده) وما هو الموجود في الكتب المتداولة في نهج البلاغة وغيرها بحيث يكون الاختلاف ليس في كلمة فإنَّ هذا اختلاف متداول ومتعارف وإنما الاختلاف يكون شاسعاً بحيث يؤثر على المعنى والمضمون لاشتهر بعدما كان هذا العهد من الكلام المشهور والمعتمد ويراجع كثيراً ، فلو كان هناك اختلاف بارز لاشتهر ولنبّه عليه غير واحدٍ ، ولا أقل أن يقول الشيخ الطوسي(قده) بأنَّ الذي وصل إليَّ مغايراً لذاك فإنَّ هذه قضية مهمة فالسكوت عنها يورث الاطمئنان لنا بأنه لا اختلاف من هذه الناحية[7] .


[3] كما لو كان على منبر مسجد الكوفة ونهى.
[4] هذا ما هو موجود في الوسائل ولكن الصحيح هو ما ورد في المصدر وهو كلمة ( واسعاً ).
[7] ونلفت النظر إلى قضية:- وهي أن التدقيق في الاسانيد اين نتبعها فهل نحتاجه في كل الموارد أو نحتاجه في مساحة دون أخرى ؟ نحن نحتاجه في الروايات الفقهية فإنَّ هذه احكام فنحتاج إلى مستند شرعي إذ كيف تنسب هذا الحكم إلى الشرع وتقول فرغت الذمة إذا عملت بهذا فلابد أن يكون عندك مستند حجة، فعلى هذا الأساس التدقيق في الأسانيد نحتاج إليه في الروايات الفقهية، أما الروايات غير الفقهية فالأمر فيها يختلف، مثلاً الروايات الأخلاقية عدم ملاحظة السند وإنما ملاحظة المضمون فإن كان مضموناً قوياً ولا يرد عليه إشكال من ها وهناك فخذ به ولا بأس به من دون حاجة إلى سند، وأما إذا فرض أنَّ المضمون قد يورث الاشكال ولو من بعد فلا حاجة إلى نقله وإنما خذ ما كان مضمونه جيد ومقبول، وإذا توقفت فيه فاعرضه على الآخرين، ولكن في بعض الأحيان يكون المضمون واضحاً مثل قول أمير المؤمنين عليه السلام ( إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً لقدرة عليه ) فإن هذا مضمون عالٍ لا يحتاج إلى سند، وكذلك ( خالطوا الاس مخالطة إن متم بكوا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم ) ، وسئل الصاق عليه السلام مرة ولعلي رأيت هذا في البحار حيث يقول صاحب البحار ي( شوهد بحط الشهيد الأول ولكن بلا سند ولكني لا احتاج إلى سند ) أنه سئل الصادق عليه السلام:- ( على ماذا بنيت أمرك ؟ قال:- على اربعة اشياء علمت أن الله مطلع عل فاستحييت علمت أن آخر امري الموت فاستعددت وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فاجتهدت وعملت ان رزقي لا يأكله غيري فاطمأننت ) ، هذا وما شاكله من هذا التراث الذهبي بل فوق الذهبي، وأما في باب التاريخ فحينما تريد نقل القضايا التاريخية فإن السند يصعب في القضايا التاريخية ولكن ما رأيت أن هذه القضية التاريخية قد تورث إشكالاً دعها فأنت في غنىً عنها، فما كان مضمونها جيد فأنت بيّنه أما غير ذلك فلا داعي إلى نقله فقد يكون صحيحاً ويمكن توجيهه بشكلٍ وآخر ولكن نحن في غنىً عن نقله، وأنت حينما تنقل على المنبر فالمقصود هو ما جاء في كتب التاريخ والسير ولكن حينما تنتقي فانتق القضية التي لا تورث الاشكال وهذه قضية مهمة جداً، أما بالنسبة إلى القضايا العقائدية الكلامية فالأمر كذلك فذا رأيت الرواية جيدة خذ بها وانقها مهما كان السند فإن السند ليس بمهم من قبيل ( تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيّرا ) يعني فكر في الآثار ولا تفكر في ذات الله تعالى فالتفكير في ذات الله تعالى قد يورث ما لا يحمد عقباه، أو مثلاً في رواية أخرى وهي أنه ( قيل أمير المؤمنين عليه السلام:- هل رأيت ربك ؟ فقال:- ما كنت اعبد رباً لم أره، فقيل له: -كيف رأيته ؟ قال:- لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن راته القلوب بحقائق الايمان).، فإذن اجعل الميزان دائماً في غير الروايات الفقهية أن يكون المضمون مضموناً جيداً ولا يرد عليه إشكال

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo