< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/03/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم مجهول المالك - مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

الرفع الرابع:- أجرة الفحص.

إذا فرض أنَّ الفحص عن المالك كان يحتاج إلى أجرة فهل هي على من بيده مجهول المالك أو على المالك المجهول ؟ ، وإذا قلنا هي على المالك فإما أن يخرجه نفس الذي عثر على مجهول المالك أو على مستوى الاحتياط يخرجها الولي الشرعي - أعني الحاكم الشرعي - ولكن هذه قضية جانبية ثانية ، والمهم أنَّ أجرة الفحص على من تكون ؟

يمكن أن يقال:- هي على المالك وليس على من عثر المال المجهول مالكه ، وذلك لقاعدة ( لا ضرر ) فإنَّ ثبوت الأجرة على من عثر على مجهول المالك نحوٌ من الضرر وقاعدة ( لا ضرر ) تنفي ذلك.

بل يمكن التمسّك أيضاً بقاعدة ﴿ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ﴾ ، فإنَّ من عثر على مجهول المالك هو محسنٌ ، فهو يريد أن يحافظ عليه ويريد أن يردّه إلى صاحبه ويتحفّظ عليه فهو محسنٌ وجزاؤه يلزم أن يكون هو الاحسان لا أن يؤخذ منه المال.

وقد ذكرت في أبحاث سابقة[1] أنَّ الفقهاء عادةً يتمسّكون بقاعدة ﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ وقد قلنا إنَّ هذه الآية الكريمة يشكل التمسّك بها ، فإنَّ سياقها ناظر إلى مسألة الحرب وأنه لا عقاب ولا وزر على من لم يتمكّن من الخروج إلى الحرب ، فهو مؤمن وينصح لكنه لا يتمكن من الخروج فهذا ليس عليه سبيل يعني ليس عليه عقاب ، فلاحظ الآية الكريمة حيث تقول ﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ﴾ ، فالمقصود هنا أنه لا عقوبة عليهم على عدم خروجهم فإنه يوجد عندهم عذر ، إلى أن تقول الآية ﴿... إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾ أي الذي يتمكّن وهو غنيّ ولا يخرج فهذا عليه العقاب ، فيمكن أن يقال إنَّ الآية الكريمة هي في مجالٍ آخر وليست في هذا المجال ، فالتعويض عنها بآية ﴿ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ﴾[2] لعلّه أولى.

فأجرة الفحص من المناسب أن تكون على المالك وليس على من بيده مجهول المالك ، لأنَّ وجوب الأجرة عليه هو نحو ضررٍ أو هو مخالفٌ لقاعدة ﴿ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ﴾ فيكون الوجوب عنه منفياً.

هذا وقد يقال:- يمكن اثبات الوجوب عليه بقاعدة ( مقدّمة الواجب واجبة ) ، فإنَّ الفحص واجب عليه حسب الفرض ومقدّمة الفحص هي بذل الأجرة ، فعلى هذا الأساس يكون بذل الأجرة واجباً عليه من باب ( مقدّمة الواجب واجبة ) ، وبناءً على هذا يصير الوجوب ثابتاً لا على المالك الأصلي وإنما على من عثر على مجهول المالك.

وفي الجواب نقول:- إنَّ مقدّمة الواجب أقصى ما تقول هو أنَّ المقدمة واجبة ، والمقدّمة للفحص ما هي ؟ إنها ليس اخراج الأجرة من مال الواجد ، وإنما المقدّمة هي بذل الأجرة حتى يتحقق الفحص ، أما أنَّ هذه الأجرة تكون من الواجد أو من المالك فقاعدة ( مقدمة الواجب واجبة ) حيادية من هذه الناحية ، إنما هي تقول لكي يتحقق الفحص ادفع الأجرة أما أنه من أين أدفع الأجرة فهل أدفعها من جيبي أو من جيب المالك فهي حيادية من هذه الناحية ، وهذه نكتة ظريفة.

فإذن لا يمكن التمسّك بقاعدة ( مقدّمة الواجب واجبة ) لإثبات وجوب الاخراج من الواجد.

ولو تنزلنا وقلنا أنَّ مفاد أو نتيجة قاعدة ( مقدمة الواجب واجبة ) هي الوجوب على الواجد فنقول: يمكن أن نطبق قاعدة ( نفي الضرر ) لنفي أصل وجوب الفحص ، فإنَّ وجوب الفحص يصير ضررياً في مثل هذه الحالة التي يتوقف على بذل الأجرة من كيس الواجد فيرتفع أصل وجوب الفحص بقاعدة نفي الضرر.

أجل نستدرك ونقول:- إذا فرض أنَّ الفحص بشكلٍ عام وغالباً كان يحتاج إلى أجرة لا أنه أحياناً يحتاج إليها وأحيانا لا يحتاج إليها كما هو الواقع حتى في ذلك الزمان فإنه يمكن أن تضع ورقة للتعريف في الأماكن العامة فهذا لا يحتاج إلى أجرة ، لكن لو فرضنا أنه غالباً أو دائماً كان يحتاج إلى بذل الأجرة فنفس دليل وجوب الفحص يكون دالاً بالالتزام على وجوب بذل الأجرة على الواجد ، وهذه دلالة التزامية عرفية ، ولكن عادةً ليس الأمر كذلك.

والخلاصة:- إنه لا يجب بذل الأجرة على الواجد من جهتين ، من جهة قاعدة ( لا ضرر ) ، وإذا تمسّك بقاعدة ( مقدّمة الواجب واجبة ) فقد قلنا إنَّ غاية ما تقتضيه هو أنه يلزم أن تدفع أجرة أما أنها تخرج من كيس الواجد أو من كيس الدافع فهذا ليس هو المقدّمة إنما المقدمة هي الدفع سواء كان من هذا الدفع الكيس أو من ذاك ، فهي حينئذٍ لا تقتضي الدفع من كيس الواجد ، ولو تنزّلنا وقلنا هي تقتضي الدفع من كيس الواجد فيمكن رفع أصل وجوب الفحص بقاعدة ( لا ضرر ) أجل إذا فرض أنَّ الحالة الغالبة كانت هي أنَّ الفحص يحتاج إلى بدل أجرة فلا يبعد أن يكون دليل وجوب الفحص دالاً بالالتزام على وجوب بذل الأجرة ، ولكن هذا كما قلنا قضية فرضية وليس الأمر كذلك ، هذا كلّه إذا فرض أنَّ الواجد لهذا المال لم يكن غاصباً أو سارقاً أو من هذا القبيل.

أما إذا فرض أنه كان من هذا القبيل ، كما لو كان سارقاً والآن قد ندم ولا يعرف المالك فيحتاج الفحص إلى أجرة فهنا لا يبعد أن يقال إنَّ الأجرة واجبة على الواجد ، من باب أنه يجب عليه ذلك من باب المقدّمة إلى تحقيق الفحص الواجب عليه ، وقاعدة ( لا ضرر ) لا يمكن أن تعمل هنا في الواجد وإنما تعمل في صالح المالك ، لأنَّ الواجد هو الذي صار سبباً لذلك وقاعدة ( لا ضرر ) امتنانية ، ورفع وجوب الفحص إذا استلزم الأجرة أو رفع الأجرة عنه مخالف للامتنان ، فقاعدة ( لا ضرر ) لا تعمل في صالحه بل تعمل في صالح المالك ، وفي مثل هذه الحالة يكون الواجب على الوجد اخراج الأجرة من كيسه.

هذا وربما يقال:- إنَّ هذا وجيه ولكن يمكن أن نضيف اضافة ، وهي أنَّ بعض الروايات يمكن أن يستفاد منها أنَّ من غصب يجب عليه ردّ المغصوب فمن تلك الروايات يمكن أن نستفيد أنَّ الشخص الغصب والذي بيده مجهول المالك هو الذي يجب عليه دفع الأجرة ، من قبيل صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السلام :- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقّه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتى يردّ المال الذي أخذه إلى صاحبه )[3] ، وسندها لا بأس به ولا يوجد فيه من يتأمل فيه ، فإنَّ أبي عبيد الحذّاء من الثقات[4] .

نعم الرواية رواها الشيخ الصدوق عن محمد بن موسى بن المتوكل وليس في حق هذا الرجل توثيق واضح فالمشكلة إن كانت فهي هنا وإلا فبقية رجال السند لا مشكلة فيبهم ، ولكن قد يتغلب على المشكلة من ناحية هذا الرجل باعتبار أنَّ الصدوق يكثر الرواية عنه في الفقيه ونفس اكثار الثقة عن شخصٍ وخصوصاً الصدوق لا يبعد أنه يدل على الوثاقة فإنَّ العاقل عادةً لا يكثر الرواية عن شخصٍ لم تثبت وثاقته ، نعم قد ينقل عنه روايةً أو روايتين اتفاقاً ولكن الاكثار عنه فلا ، فإذا قبلت بهذا فهذا يكون موجباً للتوثيق .

ونضمّ إلى ذلك أنَّ السيد ابن طاووس قال ( هناك اتفاق على وثاقته ) ، ولا نعلم من أين عرف هذا الاتفاق على وثاقته ، اللهم إلا أن نقول إننا لا نحتاج إلى ذلك وإنما نفس توثيق ابن طاووس يكفي ، وهذا طريق جيد لمن يبني على أنَّ توثيق المتأخرين يؤخذ به ، فإذن الرواية من حيث السند لا مشكلة فيها.

تبقى المشكلة من حيث الدلالة:- فإنه يمكن أن يقال: ماذا يراد من الاستدلال بهذه الرواية فهل يراد اثبات وجوب ردّ المال المغصوب على صاحبه أما الأجرة فمسكوت عنها ، أو يراد اثبات أنَّ الأجرة تكون على الغاصب ؟

فإذا قصد من الاستدلال بها الأوّل فيرد عليه:-

أوّلاً:- إنَّ لسان الرواية قد يصعب استفادة الوجوب التكليفي المولوي منه ، وإنما الرواية أقرب إلى الأخلاقيات والآداب والعرفان وما شاكل ذلك ، فإن تعابيرها تقول:- ( لم يزل الله معرضاً له ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتى يردّ ) ، فهذا اللسان ربما يقال هو ليس لسان الوجوب التكليفي بل الوجوب الأخلاقي والأدبي أو ما شاكل ذلك ، وهذه قضية استظهارية متروكة لك.

ثانياً:- إذا كان المقصود استفادة وجوب الردّ فلا نحتاج إلى هذه الرواية ، وإنما هنا روايات أوضح وأجلى منها ، وهي رواية زيد الشحّام المذكورة في مكان المصلي ، وقد ذكرها صاحب الوسائل(قده) وهي:- ( لا يحلّ دم ومال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه ) ، فنقول: إنَّ إبقاء هذا المال الذي أُخذ غصباً هو نحو من التصرّف فلا يحلّ إلا بطيبة نفسٍ من المالك ، فهذه الرواية واضحة في ذلك بلا حاجة إلى تلك الرواية البعيدة التي قد يكون هناك تأمل في دلالتها .

وإذا كان المقصود هو اثبات وجوب الأجرة وأنها ثابتة على الغاصب الواجد والذي هو محل كلامنا - وإلا فتلك الرواية للمطلب الأوّل فهو خارج عن محلّ كلامنا[5] - فنقول إنَّ هذه الرواية أجنبية عن ذلك ، فهي تقول يجب عليه الردّ أما أنَّ الأجرة عليه فهذا لا يثبت إلا أن تضمّ إلى ذلك المقدّمية التي ذكرناها فميا سبق من باب ( مقدّمة الواجب واجبة ) ، وقاعدة لا ضرر لا تجري هنا لنفي الوجوب.

فإذن بذكر هذه الرواية لم يذكر شيء جديد زائداً على ما ذكرناه سابقاً.

والخلاصة من كلّ ما ذكرنا:- هو أنَّ الأجرة ثابتة على صاحب المال لقاعدة نفي الضرر إلا إذا كان هذا الواجد غاصباً فالأجرة حينئذٍ تكون ثابتة عليه لأجل أنه يجب عليه الردّ ، وحديث ( لا ضرر ) لا يكون جارياً في حقّه.


[1] وهذه قضية جانبية.
[4] وهو صاحب الرواية المعروفة: ( من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ).
[5] وهذا يمكن أن تجعله تعليقاً ثالثاً على الاحتمال الأوّل.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo