< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/12/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

الصورة الأولى:- وهي ما إذا فرض أنَّ الظالم أعطى لشخص هدية وهو لا يعلم أنَّ في خزينة الدولة يوجد حرام بل ولا يعلم أنَّ هذا يشتمل على الحرام فلا أصل خزينة الدولة يعلم باشتماله على الحرام ولا هذا الشيء أيضاً يعلم بوجود الحرام فيه ، وقد حكم السيد الماتن(قده) بالجواز .

وما هو الوجه في ذلك ؟

والجواب:- المعروف بل لم ينقل خلاف في ذلك أنَّ الأخذ جائز ولا موجب للتوقف ، ويمكن أن يستدل على ذلك بروايات جوائز السلطان فإنه ( لك المهنأ وعليه الوزر ) وسنذكرها فيما بعد ، ولكن قد يضاف إلى الروايات الاجماع والأصل ، فصارت الأدلة ثلاثة ، هكذا جاء في الجواهر حيث قال ما نصّه:- ( بل في المصابيح الاجماع عليه للأصل والمعتبرة )[1] ، وإن كانت العبارة توحي هنا أنه استدل بدليلين الأصل والمعتبرة المستفيضة التي ستأتي ولم يذكر الاجماع ، ولكن الشيخ الأنصاري(قده) جعل الأدلة ثلاثة حيث قال:- ( للأصل والاجماع والأخبار الآتية )[2] ، وهكذا جاء في كلمات غير هذين العلمين ، والمهم كما قلنا هو الأخبار التي سوف تأتي ، وأما الاجماع فقد عرفنا التعليق عليه مكرراً وأنه مادام يحتمل وجود مدرك للمجمعين وهو الأصل أو الأخبار فتعود القيمة للمدرك دون نفس الاجماع وهذا مطلب واضح.

وأما الأصل فما هو المقصود منه فإنَّ الشيخ الأعظم وهكذا صاحب الجواهر لم يذكروا المقصود من الأصل ؟

والجواب:- يحتمل أن يكون المقصود من الأصل أحد أمور ثلاثة :-

الأوّل:- يحتمل أن يكون المقصود قاعدة اليد يعني لأجل اليد وعبّر عن اليد بالأصل.

الثاني:- يحتمل أن يكون المقصود من الأصل أصالة الصحة.

الثالث:- يحتمل أن يكون المقصود هو أصالة الحلّ.

والكل قابل للتأمل:-

أما الأوّل:- فمدرك اليد ودلالتها على الملك هو السيرة فإنها جرت على أنَّ من كانت له يد على شيء فهذا أمارة على أنه مالك ، يعني بالتالي يجوز أن تشتري منه وإذا أباح لك الشيء فيجوز لك أن تستفيد منه وغير ذلك ، وفي الرواية ( لولا ذلك لما قام للمسلمين سوق ) لأنه إذا أردت الذهاب إلى السوق وشراء شيء فمن قال إن الذي يبيع لك هذا الشيء هو مالك له فلعلّه مالكاً له ولعله ليس مالكاً له فهذه الاحتمالات موجودة فإنَّ الاشخاص الموجودين في السوق عادة لا نحرز أنهم مؤمنون متّقون ثقاة فيلزم من ذلك أننا لا نستطيع أن نشتري منهم شيئاً ولما قام للمسلمين سوق ، فإذن الدليل على جواز الشراء منهم هو السيرة والقدر المتيقن من السيرة ما إذا فرض أن الشخص كانت الأشياء تحت تصرفه وحوزته كما إذا كانت عنده دار بيده فترة من الزمن وكان يؤجرها فهذه دلالة على الملكية ، أو أنه توجد عنده سيارة يستعملها أو غير ذلك فهنا السيرة منعقدة على أنَّ اليد أمارة على الملكية ونتعامل معه معاملة المالك فنشتري منه ونتصرّف فيه إذا أباح وغير ذلك وهذا مقبول ، وأما إذا فرض أنه لم تكن له يد شخصية على هذا الشيء كما لو فرض أنه جاء للسلطان توّاً مال من افريقيا فكان في ذلك المال الذي اتوا به خاتم فأعطاه لي فهل هذه اليد أمارة على الملكية وهل يده أمارة على كونه مالكاً لهذا الخاتم فهنا كيف تثبت أنّ السيرة شاملة لمثل هذه اليد ؟! ، نعم لو كان عنده خاتم في يده واعطاه لي فهذا نقبل به لأنه في يده واليد أمارة الملكية أو أعطاني داره فهذا لا بأس به ، أما لو جاءه المال توّاً فهل هذا فيه أمارة على الملكية فلو وهبني إياه فهل نستطيع أن نقول إنَّ هذه اليد امارة على الملكية ؟ لا أقل لا نجزم بعدم سعة السيرة لمثل ذلك - يعني لا ثبات أنه مالك وأن يده أمارة على الملكية - ، نعم يجوز أن نأخذه ولكن من باب الأخبار التي ستأتينا أما هنا فنحن نريد أن نثبت الجواز من باب أنَّ اليد أمارة على الملكية ، ونحن نقول إنَّ اليد الآن ليست موجودة فلا يمكن أن تكون دليلاً على الملكية.

إذن هذا الدليل - أعني قاعدة اليد - أخص من المدّعى ، فإنه لا يثبت الجواز في كلّ الدائرة وإنما يثبت جواز أخذ هدايا السلطان في أمواله الشخصية التي عنده منذ فترة ولا يثبت الجواز في مثل الحالة التي أشرنا إليها.

وأما الثاني:- فهذا أيضاً يمكن الاشكال عليه بأنَّ مدرك أصل الصحة هو السيرة أيضاً ، والقدر المتيقن من انعقادها هو ما إذا كان الشخص مالكاً ثم تصرّف في ملكه ولكن لا ندري أنه تصرّف تصرّفاً شرعياً أو لا ، كما لو كان شخص عنده دار وباعها ولا ندري أنَّ البيع صحيح أو ليس بصحيح فهل هو بالعربية وبالماضوية وهل هو جامع للشرائط أو لا أو أنَّ التصرّف الذي صدر منه هو محلّل أو محرّم ؟ فمادام الشيء ملكاً له فنبني على أنه تصرّف صحيح وشرعي وليس بحرام بل هو ممضي شرعاً - يعني بالعربية وبالماضوية وغير ذلك - فنثبت الحلّية التكليفية والوضعية معاً والمدرك هو السيرة كما قلنا ، والآن الشخص إذا باع ملكه لا نأتي ونقول من الذي قال إنه باع ملكه بالبيع الصحيح ، فلابد في المرحلة الأولى أن يثبت أنه ملكه حتى نحكم بصحّة تصرفه أما إذا لم يكن الشيء ملكاً له في المرحلة السابقة فهل يمكن أن نجري أصالة الصحة لإثبات أنَّ هذا الشيء هو ملك له ؟ إنه لا يمكن الجزم بانعقاد السيرة في مثل هذه الحالة - يعني نجري أصالة الصحة لإثبات أنه ملك - بل القدر المتيقن منها ما إذا كان ملكاً وصدر تصرّف ونشك أنَّ هذا التصرّف حلال وضعاً وتكليفاً أو لا فنقول بالحلّية الوضعية والتكليفية ، أما إذا لم يثبت أنه ملك له ونريد بأصالة الصّحة اثبات أنه ملك له لم يثبت انعقاد السيرة على ذلك ، فإذن هذا الاحتمال قابل للمناقشة أيضاً.

وأما الثالث:- فيردّه:-

أوّلاً:- إنَّ الأصل المذكور يوجد عليه حاكم ، إذ منشأ الشك في حلّية تصرف السلطان هو الشك في أنه مالك أو ليس بمالك فإذا كان مالكاً فتصرفه حلال وإذا لم يكن مالكاً فتصرفه حرام فنجري أصالة عدم كونه مالكاً لأنه سابقاً لم يكن مالكاً لهذا الشيء جزماً ثم نشك هل صار مالكاً له أو لا فنجري استصحاب عدم تملكه له ، وبالتالي لا يجري أصل الحلّ لوجود الحاكم عليه.

إن قلت:- لـِمَ لم تذكر هذا الاشكال في الاحتمال الأوّل والثاني وخصصت ذكره بالاحتمال الثالث ؟

قلت:- إنَّ الاحتمال الأوّل والثاني الأصل كان أمارة ، فإنَّ قاعدة اليد أمارة وأصالة الصحة التي مدركها السيرة أمارة أيضاً والأمارة حجة في اثبات لوازمها فلا تتوقف من حيث اللوازم ، وهذا بخلافه في الاحتمال الثالث فإنَّ الأصل هو أصل الحلّ ومدركه قاعدة ( كلّ شيء لك حلال ) - أي مدركه رواية - وهو ليس بأمارة وهذا الأصل يوجد حاكم عليه في المقام إذ منشأ شكنا في أنَّ تصرّفه حلال أو ليس بحلال هو أنه مالك أو ليس بمالك فاستصحاب عدم الملكية يكون جارياً وهو حاكم على أصل الحلّية فلا تصل النوبة إلى أصل الحلية ، ولا يخفى لطفه ، فإنَّ هذا أصل مسبَّبي ويوجد أصل سببي ومع وجود الأصل السببي لا تصل النوبة إلى الأصل المسبّبي.

ثانياً:- إنَّ أصل الحلّ لنفترض أنه جرى في حق السلطان ولكن كيف نثبت أنه يجوز لي الأخذ ، فهو حلال له أما أنا الشخص الآخر الذي أعطاه لي هدية كيف تثبت لي الحلّ فإنَّ هذا أصل مثبت ، يعني بإجراء أصل الحلّ في حق السلطان تريد أن تثبت من خلاله أن أخذك لهذا المال جائز وهو ملك لك فترتّب آثار الملكية وآثار كلّ شيء وهذا أصل مثبت لا يمكن التمسّك به ، هذا كلّه إذا فرض أنه كان المقصود اجراء أصل الحلّ في حق السلطان ، وأما إذا كان المقصود اجراء هذا الأصل في حقّ الشخص المكلّف فالمكلف نشك هل يجوز له هذا الأخذ من السلطان أو لا فنتمسّك بأصل الحلّ ، فإذا كان هذا هو المقصود فيرد عليه الاشكال الأوّل من الاشكالين السابقين ، يعني نقول إنما أنا الشخص الذي أخذت من السلطان أشك في أنه يحل لي الأخذ أو لا يحل من ناحية أنَّ هذا السلطان مالك لهذا الشيء أو ليس بمالك فاستصحاب عدم الملكية في حقه يكون جارياً فلا تصل النوبة إلى أصل الحلّ في حقّي أنا الشخص الثاني ، نعم الاشكال الثاني الذي أشرنا إليه - وهو أنَّ هذا أصل مثبت – لا يأتي ولكن الاشكال الأوّل يكون جارياً.

ومن كلّ هذا اتضح أنَّ جريان الأصل بكل أشكاله الثلاثة المحتملة باطل وقابل للمناقشة ، وإنَّ الشيخ الأعظم وصاحب الجواهر قالا للأصل فقط ولم يذكرا شيئاً ولكن الأصل إذا ذكرناه فاحتمالاته ثلاثة وكلّها قابلة للمناقشة.

هذا وقد ذكر السيد الخميني(قده)[3] ما حاصله:- إنَّ منشأ الشك في حلّية الأخذ من السلطان أحد أمرين وكلاهما يمكن نفيه ، المنشأ الأوّل أننا نشك أنَّ السلطان مالك أو ليس بمالك ويمكن بالأصل اثبات أنه مالك والأصل هو قاعدة اليد فلا مشكلة من هذه الناحية ، والمنشأ الثاني للإشكال في الحلّ وعدمه هو أنَّ نفس الأخذ من السلطان هل يجوز أو لا يجوز فإنَّ يد السلطان يدٌ شيطانية ويد جائر فاحتمال الحرمة النفسيّة موجود لأنَّ هذا تقوية للظلم والسلطان فتدفع الحرمة النفسية بأصل الحلّ - ( كلّ شيء لك حلال ) - ، فإذن الشيخ الأنصاري(قده) حينما تمسّك بأصل الحلّ مقصوده هو هذا ، فهو يريد أن يدفع المنشأ الثاني - وهو احتمال الحرمة النفسيّة - فلا إشكال إذن عليه لأنه يريد أن يدفع احتمال الحرمة النفسية فقط.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo