< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

40/09/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : سورة لقمان / دروس شهر رمضان

قال تعالى: " ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾[1] ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[2] ﴿وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[3] ﴿ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾[4] ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[5] ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[6]

قد انتهينا من أربع وعشرين آية من سورة لقمان وليس امامنا مجال الا ثلاث ليال فنسعى لنختصر الكلام كي لا يبقى من الآيات شيئاً الا وتعرضنا لها ولو مختصراً ونسعي ان نكمل المكتوب من البحث فمن اراد التوسع فليراجع المكتوب في مدرسة الفقاهة[7]

في هذه المقطع من السورة المباركة أمامنا ستة آيات تركزت على معرفة الله عز وجل في جهات مختلفة:

فالأولى منها تتحدّث عن التوحيد في الخالقيّة، و الثانية تتحدث عن التوحيد في المالكية، و الثالثة تتحدث عن سعة خلق الله، و الرّابعة تتحدث عن المعاد، الخامسة تتحدث عن التوحيد في الفاعلية و شمولية قدرته. و الأخيرة استنتاجٌ من الآيات السابقة بحصر الحقانية في الله وبطلان ما دونه من المعبودات.

قوله تعالى: "وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" ضمير هم راجع الى من كفر التي ذكرت قبل آيتين، ثم ان إقرار الكفار اقرار منهم على حسب فطرتهم و عقيدتهم على انّ الاشياء كلها من خلق الله، فيلازم هذا الكلام عقلا بان الحمد محصور فيه ايضاً، لانّ الله هو خالق كل شيء بقدرته وارادته فيعود كل الخيرات اليه والحمد هو الثناء بالجميل الاختياري فهو المحمود لا غيره، فإنّك اذا مدحت أي شيء سواء كان المدح متعلق بخلق من المخلوقات او فعل من افعالها فمدحك له حمد لله أي اثنيت عليه بما فعل من الجميل بقدرته واختياره.

و للتقريب الى الذهن نقول: انت اذا رأيت سجادة جميلة و راقية في نقوشها و حياكتها، فمدحتها مدحت الحائك، شئت او أبيت، لانّ هذا فعله. ونحن عندما نري أي جمال في هذا العالم –و كلّه جمال- و حاكي عن قدرة شاملة حكيمة فمدحنا خالقه وبارئه، فبالملازمة القهرية و بما ان الفاعل قد صدر الفعل عنه باختياره، حمدناه، بل نقول فوق ذلك: وجود الجميل حاكي عن خالقه المحمود والناطق بالجمال اعترف بالحمد.

ثم قوله تعالى: "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" : هل هو امر من الله متوجها الى رسوله ليحمده؟، هذا هو المستفاد من كلام العلامة الطباطبائي في الميزان فانه بعد ذكر الآية قال: (إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا يشعرون، .... و لذلك أمره (ص) أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ»).

ولكن هناك احتمال آخر وهو ان الله امره ان يبين هذه الملازمة أي انً "الحمد لله" فالقضية خبرية وليست انشائية وهذا الاحتمال هو الاظهر وانسب لسياق الكلام، فان الله تعالى كان بصدد دعوتهم الى ترك الانداد و اخلاص العبادة لخالقهم و مدبرهم.

ثم قوله تعالى: " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ‌" بيان لعدم تفهم اكثرهم لهذه الملازمة، و لكن بعضهم يجحدونها عناداً كما قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ﴾[8]

اما قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[9] هذه الآية تبين حقيقة يشهد بها كل عقل سليم بعد الاعتراف بان الله هو خالق كل شيء فهو مالكها والملكية هنا هي الملكية التامة الحقيقية وليست اعتبارية كملكيتنا لأموالنا وليس مجرد الاختصاص كقولنا الجل للفرس وليس كإرادتنا التي نملكها بالغير وهي حادثة زائلة بل مالكية الله هي الملكية التامة الحقيقية لكل المخلوقات حدوثا و بقاءً وذاتا وافعالاً. ولعل عنوان المهيمن شامل لهذه المعاني فهو تعالى مهيمن على كل شيء.

ثم قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ صفتين لازمتين للخالقية والمالكية لإنّه خالق لكل شيء فلا يحتاج اليها و هو غني عنها و كل الجمالات والخيرات تنتهي اليه و قائم به فهو الحميد بمعنى المحمود الذي يعود اليه حمد الحامدين جميعاً.

ثم قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[10] خلاصة المعنى لو اصبحت جميع الاشجار اقلاما وجميع البحار و تنضم اليها سبعة اضعاف، حبرا لتسجيل كلمات الله نفدت الاقلام والأحبار و لم تنفد كلمات الله.

ثم لابد ان نرى ما المراد من كلمات الله؟ الكلمة كما عرفوها: لفظ مفيد مفرد وهي مركبة من حروف، والكلام لفظ مفيد بالإسناد، و كثيرا ما يطلق يستعمل الكلمة بمعنى الكلام كما هو شائع في القرآن وبما ان الكلمات هي الفاظ مفيدة لمعاني ، فقد تنسب الى الاشياء ايضاً حيث تنطق احيانا عن معاني بأوضاعها وهذا متعارف في المحاورات العرفية ايضاً، مثلا يقال للأشجار التي اصفرت اوراقها اثر تأخير السقي: ان هذه الأشجار تنادي بأعلى صوتها العطش. ويقال لمريض باد في وجهه المرض انّ لونك يحكي عن مرضك، وكم لها من نظير.

والقران قد استعمل هذا الاسلوب في البيان، فبما ان كل الاشياء آيات لله تحكي عن وجود خالق حكيم قادر عالم فالأشياء كلها كلمات الله وقد اطلق في القرآن الكلمة لعبسى ابن مريم قال تعالى: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‌ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْه﴾[11] . كما ورد في ذيل حديث رواه في المجمع عن ابي الحسن العالم عليه السلام: " نَحْنُ الْكَلِمَاتُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ فَضَائِلُنَا وَ لَا تُسْتَقْصَى"

نعم ان الانبياء و الائمة عليهم السلام هم كلمات الله العليا و كما هم آيات الله العظمى و سائر كائنات الوجود ايضاً هي كلمات الله كما هي آيات الله.

اما قوله تعالى: ﴿ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[12]

رد على استغراب البعض من انه كيف يمكن ان يبعث الله الخلق من لدن آدم عليه السلام الى نفخة الصور الاولى وهم جمع هائل جدا في لحظة واحدة عند النفخة الاخرى و يحسبهم على ما فعلوا؟ فالله تعالى اجاب عن هذه الشبهة بان الواحد والكثير امام قدرة الله و ارادته سواء ف "انّما امره اذا اراد شيءً ان يقول له كن فيكون" وهو تعالى سميع لكل مسموع وبصير لكل مبصر لا بعزب عن علمه ذرة في الارض ولا في السماء. فهذه الآية المباركة تتحدث معنا عن المعاد.

اما قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[13] فهي تتحدث عن شمول قدرة الله وارادته على كل شيء فايلاج الليل في النهار و بالعكس و حركات الشمس والقمر و كل شيء قائم به ومحتاج اليه ولو تركها الله تعالى انعدمت فليس امراً قائما بنفسه و انما سبقته ارادة فجعله متحركا بلا حاجة الى المحرك بل كل شيء قائم بالله حدوثا و بقاءً بذواتها واوصافها وافعالها. فتد هذه الآية على التوحيد الأفعالي او التوحيد في الربوبية،

. والآية الأخيرة من هذا المقطع وهي قوله تعالى: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[14] استنتاج وحصيلة لما سبق من الآيات وهو ان من يستحق العبادة هو الله وحده لا شريك له من دونه و قوله تعالى: " أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" بمنزلة التعليل للتوحيد في الذات والصفات والربوبية و العبودية. وعلوه تعالى ليس في المكان لانه ليس متمكن في اين و كبره ليس في جهات الطول والعرض والعمق و هذه الامور من صفات الاجسام وهو ليس جسماً ولا روحاً ليس كمثله شيء وهو العلي الكبير.

واختم كلامي في هذا المقطع من السورة بكلام المفسر الكبير العلامة الطبطبائي حيث قال:

و لعل قوله: («وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها بناء على أن اسم «الْعَلِيُّ» يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته، فهو مجمع الصفات السلبية و الكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.

و أن صدر الآية برهان على ذيلها و ذيلها برهان على إستجماعه تعالى الصفات الثبوتية و السلبية جميعا) وبقي علينا الآيات الاخيرة من هذه السورة نطرحها غدا ان شاء الله وهي الليلة الأخيرة من بحثنا.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo