< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

40/09/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : سورة لقمان / دروس شهر رمضان

بعد الفراغ من الآيات التي تحدثت معنا عن وصايا لقمان لابنه ندخل في حقل آخر وهو الكلام عن التوحيد الذي عشناه في الآيات الاولى من هذه السورة.

قال تعالى : ﴿ أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾[1]

ان صاحب الميزان طرح موضوعاً حول الخطاب في قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ" هل هو خطاب من النبي والمخاطب فبه المشركون؟ او الخطاب من الله والمخاطب فيه عامة الناس؟ فيرجّح الاحتمال الاول واليك نص كلامه:

(قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً» رجوع إلى ما قبل قصة لقمان و هو الدليل على أن الخطاب للمشركين و إن كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب. و عليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي ص و يتصل بقوله: «هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» و لا التفات في قوله: «أَ لَمْ تَرَوْا»).

واستدل للإحتمال الآخر بقوله: ( وعلى تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله: «أَ لَمْ تَرَوْا» التفات من سياق الغيبة الذي في قوله: «بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إلى الخطاب، و الالتفات في مثل هذه الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم و تأكد غيظه من جهل المخاطبين و تماديهم في غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة و لا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرأى منهم و مسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم و ينتزعوا عن غفلتهم......لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله: «أَ لَمْ تَرَوْا»).

الظاهر ان ما دفع العلامة بترجيح وجه الاول هو جعل الخطاب في قوله تعالى" «هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» للنبي صلى الله عليه و آله بحجة التفارق بين هذا خلق الله" فهو التكلم عن الغائب أي عن الشخص الثالث و اروني هو كلام المتكلم اي الشخص الاول. وهذا سرّ جعل هذه الآية من خطاب النبي ص.

ولنا ملاحظة في هذا الكلام بان في التفارق يكفي التفارق بالعنوان و لا بأس ان يكون الاسم الظاهر و ضمير المتكلم شخصاً واحداً، مثاله قد ترى ان رئيس يخاطب الشعب و يقول رئيسكم قدّم لكم كذا وكذا خدمة فما ذا قدمتم انتم لي؟ او تقول الاُمّ لأولادها: اُمّكم أرضعَتكم وربّتكم وتحملت الأذى والسهر لسلامتكم و راحتكم وضحّت في سبيلكم بالنفس والنفيس حتى وصلتم الى هذه الدرجة من الرشد و الكمال، فماذا قدمتم لي كأولاد؟ ومثل هذا نظائر كثيرة في المحاورات العادية و لعل في القرآن أيضاً نرى مثل هذه المحاورات، فلا داعي للقول بان الكلام السابق كان للنبي ثم نحكم بان "الم تروا" ايضا يناسب ان تكون من النبي ص.

فاذا تجاوزنا هذه المرحلة فنقول: في قوله: "هذا خلق الله" هو خطاب من الله و في الم ترو ايضا الخطاب من الله لعامة الناس.

ثم ما معنى قوله تعالى: "سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ"

اما التسخير فقال في الميزان: (التسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر و يريده كتسخير الكاتب القلم للكتابة و كما يسخر المولى عبده و المخدوم خادمه في أن يفعل باختياره و إرادته ما يختاره و يريده المولى و المخدوم).

والعالَم بجميع ما فيه من السماوات و الأرض وما فيهما مسخر لله و جميع العلل والمعاليل و جميع قوانين الكونية هي تحت قدرة الله وتعمل حسب ما ودّع الله فيه من التأثير والتأثر فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم فالمسخر هو الله ونحن المسخر له أي لصالحنا او لأجلنا وهذا مما كرم الله به الانسان. نعم بعض الاشياء في هذا العالم مسخر لنا أي جعلها الله تحت تسخيرنا فأصبحت مسخرات لنا ولكنها بالنسبة الى السماوات والارض كنقطة في بحر محيط لا يحتسب شيئاً

في المجمع فسّر "ما في السماوات" بالشمس و القمر و النجوم "وَ ما فِي الْأَرْضِ" من الحيوان و النبات و غير ذلك مما تنتفعون به و تتصرفون فيه بحسب ما تريدون) و لكن لا الشمس والقمر و لا الحيوانات والنبات تكون تحت تسخيرن نتصرف فيها و ننتفع بها بحسب ما نريد بل انما لنا ان نستفيد منها بحسب ما قرر الله لنا واقدرنا عليه في عالم التكوين

اما قوله تعالى: «وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ» أي وفر لكم «نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً» فجعل الله نعمه على قسمين في تعيين كل قسم للمفسرين اقوال وآراء، ذكر قسم منها في المجمع، فقال:

(فالظاهرة ما لا يمكنكم جحده من خلقكم و إحيائكم و أقداركم و خلق الشهوة فيكم و غيرها من ضروب النعم و الباطنة ما لا يعرفها إلا من أمعن النظر فيها)، ثم ذكر كلمات الآخرين بقوله:

(و قيل: الباطنة مصالح الدين و الدنيا مما يعلمه الله و غاب عن العباد علمه عن ابن عباس،

و في رواية الضحاك عنه: قال سألت النبي ص عنه؟ فقال: يا ابن عباس أما ما ظهر فالإسلام و ما سوى الله من خلقك و ما أفاض عليك من الرزق و أما ما بطن فستر مساوئ عملك و لم يفضحك به يا ابن عباس إن الله تعالى يقول ثلاثة جعلتهن للمؤمن و لم تكن له صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله و جعلت له ثلث ماله أكفّر به عنه خطاياه و الثالث سترت مساوئ عمله و لم أفضحه بشيء منه و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم‌.

و قيل: الظاهرة تخفيف الشرائع و الباطنة الشفاعة عن عطا،.

و قيل: الظاهرة نعم الدنيا و الباطنة نعم الآخرة،

و قيل: الظاهرة نعم الجوارح و الباطنة نعم القلب عن الربيع،

و قيل: الظاهرة ظهور الإسلام و النصر على الأعداء و الباطنة الأمداد بالملائكة عن مجاهد،

و قيل: الظاهرة حسن الصورة و امتداد القامة و تسوية الأعضاء و الباطنة المعرفة عن الضحاك،

و قيل؟ الظاهرة القرآن و الباطنة تأويله و معانيه،

و قال الباقر (ع): النعمة الظاهرة النبي ص و ما جاء به النبي من معرفة الله عز و جل و توحيده و أما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت و عقد مودتنا)

ثم بعد ذكر هذه الاقوال قال: (و لا تنافي بين هذه الأقوال و كلها نعم الله تعالى و يجوز حمل الآية على الجميع‌). وهناك كلمات اُخرى قال في الميزان:

(المراد بالنعم الظاهرة و الباطنة بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع و البصر و سائر الجوارح و الصحة و العافية و الطيبات من الرزق و النعم الغائبة عن الحس كالشعور و الإرادة و العقل.

و بناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم و كالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم و آخرتهم و الباطنة منها كما تقدم و كالمقامات المعنوية التي تنال بإخلاص العمل).

اقول: ما اظن الحاجة الى التفصيل بين المشركين وعامة الناس فان الدين بقيمه ومعارفه واحكامه الحكيمة ظاهرة لكل من تأمل فيها فإنكارهم اما للجهل واما عن العناد فليس من الخفاء في حقيقتها و لذلك هم غير معذورين في عدم اعتناقهم الدين. اما تفاصيل النعم الموجودة في الدين فليست واضحة لغير المشركين ايضاً و كذلك المقامات المعنوية فهي نعم موفورة للكل ولكن طريق الوصول اليها هو اخلاص العمل.

وفي نهاية الآية نقرأ: "و قوله: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ» في هذه الفقرة من الآية اراد الله ان يبين قبح ما يفعله المشركون أي بعد ما يرون هذه النعم الكثيرة الكبيرة بما فيها من الحجج القاطعة على وجود خالق رازق حكيم قادر فهذه النعم حجج قاطعة على وجود الله تعالى فهي تستلزم الاقرار والاعتراف به، و من جهة اخرى هي نعم كبيرة منه فتستلزم شكرها بطاعتهم لله و خضوعهم وعبادتهم له، ولكنهم رغما لهذه المتطلبات يتخذون موقف العناد والجحود.

قال في الميزان: (و المجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة، و المقابلة بين العلم و الهدى و الكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية، و بالهدى ما يفيضه الله بالوحي أو الإلهام، و بالكتاب الكتاب السماوي المنتهي إليه تعالى بالوحي النبوي و لذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها). فيمكن ان نقول يشير هذا المقطع من الآية، انّ انكارهم لله، رفض للعلم و رفض للهداة من الانبياء الادلاء ورفض للكتاب الحاوي للآيات المنيرة التي تتضح الطريق و تبين الحق من الباطل.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo