< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

40/09/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : سورة لقمان

بعد ما تحدث ربنا تعالى في الآيات السبعة الاولى عن دور القرآن في هداية المحسنين و ذكر سيرة المحسنين في حياتهم و ما يربحون من الفلاح. ثم بين حالات المعارضين نفسيا وعمليا وما ورائهم من العذاب المهين والأليم، و بعد ما دكر الفريقين للاعتبار ولاختيار الاصلح قال:

﴿"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ . خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[1]

اظنّ ان هذه الآية ارادت ان تعرض امامنا النتيجة المرجوّة من مقارنة الموالين والمعارضين حيث ينبغي ان يبعث عند المتأمل الايمان الكامل بالله واليوم الآخر وبالرسول الذي يستدل به على الصالحات وبشّرَهم بجنات النعيم، و لعل اضافة الجنات الى النعيم، اشارة الى الفرق الاساسي بينها وبين جنات الدنيا حيث انها مواطن الامتحان و محفوفة بالمكاره ولكن جنات الآخرة نعيم مطلقا كما وكيفا ثم من ناحية الزمان يؤكد فيها على الخلود، ثم يؤكد على حقانية وعد الله فلا يتخلف بإرادته وهو العزيز لا ينقصه القدرة عن الوفاء بوعده، وهو حكيم لا يوجب الجهل بعدم رغبات عباده أن يأتي لهم بما يكرهون. بخلاف نعم الدنيا فمن اراد ان ينعم علينا بجنة دنيوية اولاً لا يمكن ان تكون خالية عن المكاره، ثانياً لمحدودية قدرته لا يستطيع ان يوفر لنا ما نرغب اليه وثالثاً لجهله بما نرغب اليه وما نكرهه يخل بالنعمة.

الى هنا كان البحث عن المهتدين بالآيات النازلة من الله الى رسوله التي تشكل الكتاب ولكن بما ان تلك الانحرافات ناشئة عن عدم الاعتراف بالله وعدم معرفته رجع الى المرحلة السابقة عن القرآن لعل عباده يتنبهون فحوّل الكلام الى نوع آخر من الآيات و هي الآفاقية منها فقال:

﴿ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى‌ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ . هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [2] [3]

فبما ان المخاطب فيها نفس المخاطب في الآيات السابقة لم ير حاجة الى اتبان بالضمير الظاهر فقال: "خلق" وهذا النوع من الكلام يعقد القاري والمطالع الى الآيات السابقة.

قد ذكر الله في هذه الآية خمسة من محاور الآيات الآفاقية التي خلقها بقدرته وهي: السماوات، الأرض برواسيها، الحيوانات ، الامطار والثلوج و النباتات.

ففي الآية الآفاقية الاولى قال: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ مفردة السموات قد تاتي بصيغة المفرد عند ما تكون العناية بمقابلتها للأرض، وقد تأتي بصيغة الجمع، عندما يراد منها ذلك الكائن الذي وقع حول الكرة الارضية وله افاق قريبة الينا وبعيدة عنا بما فيها من الاجزاء السائلة و المنجمدة، فيمكن ان نعبر عنه بجهة العلو بالنسبة الينا.

قال في الامثل: (تَرَوْنَها دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة، و معنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّا أنّها غير قابلة للرؤية)، اقول: ادعاء هذه الدلالة قابل للنقاش فكما ان اثبات الشيء لاينفي ما عداه كذلك نفي الشيء لا يثبت ما عداه، ومثل هذا التعبير كثيراً ما يستعمل للنفي المطلق كما يقال: اذا نظرت في معيشتي لا ترى فيها شيئاً من النقود، بمعنى ليس عندي نقوداً، كما حجوركم في قول الله "وربائبكم اللاتي في حجوركم من النساء اللاتي دخلتم بهن" ليس قيدا واقعيا لحرمة الربائب بل هو حالة الغالبة في الربائب كما عليه فقهائنا العظام، ففي ما نحن فيه الآية الكريمة تنفي وجود اعمدة مرئية و لا تثبت اعمدة غير مرئية بل هي ساكتة عنها. ثم بعد ما ثبت قانون الجاذبة العامة و وصل العلم الى ان التجاذب بين السيارات والنجوم جعلها معلقة في السماء فالتجاذب تعتبر اعمدة غير مرئية تقوم به جميع الكرات ولذا القرآن انما نفي الاعمدة المرئية، نعم قد يستفاد من هذا الاسلوب في باب التورية. والسر في ذلك ان ائمتنا عليهم السلام لو كانوا يتكلمون عن تطور العلوم والصناعات لكانوا يتهمونهم بالتفوه بالمحالات او ان كلامهم مجرد الاوهام والاراجيف ولم يكن فائدة للإخبار بأمور لا يمكن اثباتها ولم يكن يثبت للناس في فترات قصيرة. نعم في هذا العصر نفهم ان القيد "بغير عمد ترونها" كان قيدا احترازيا، فظهرت هذه المعجزة القرآنية و كم لها نظائر لا نطيل الكلام فيها.

نعم قد كانوا يتحدثون لبعض الخواص من اصحابهم الذين قد امتحنوا قلوبهم بالإيمان، فاخبروا بما يأتي في آخر الزمان من انه يتكلم أحد في شرق الأرض فيسمع كلامه من في غربها، او تحدثوا عن اقتراب الطرق بحيث يكون الانسان صباحا في نقطة من الأرض و مساءه في منطقة بعيدة عنها جداً. او ان امام المهدي عند ما يظهر يستند الى الكعبة و يحدث فيسمعه ويراه من في مشارق الارض ومغاربها، وهذا الذي تحقق فعلا حيث تبث القنوات التلفزيونية الفضائية كلمة فيسمعها ويراها من في المشرق والمغرب.

النقطة الاخيرة التي ينبغي الاشارة اليها ان اكثر المفسرين المعاصرين اعتبروا الاعمدة غير المرئية للسيارات والنجوم بينما القرآن يتحدث معنا عن السموات فقال هنا خلق السموات بغير عمد ترونها وفي سورة الرعد قال رفع السموات بغير عمد ترونها والنجوم و السيارات هي موجودات في السموات، ولعل الذي يحتاج الى العمد ليس حصرا على الكرات بل طبقات السماء كل طبقة منها لها ميزاتها لابد من قرارها في مكانها مثلا الطبقة التي تحمل السحاب لها رتبة خاصة في الارتفاع لا تخرج من اطارها وللطبقة الأوزون التي تحفظ الارض من تسرب التيارات المضرة بالحياة، لابد ان تستقر في ارتفاع معين وغير ذلك مما هو موجود في السماء لا نعلم منها شيئاً.

كما تشبه بهذه الآيات، آيات التي وردت في مفتتح سورة الرعد قال تعالى: ﴿ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ[4] ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى‌ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ[5] ﴿ وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[6] ﴿ وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‌ بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‌ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[7]

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo