< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

38/09/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : وقفة مع اية الكرسي

﴿ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظيمُ . لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‌ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ . اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ[1]

بما نحن نعيش الايام الاخيرة من شهر رمضان شهر التوحيد والعبادة شهر التقرب إلى الله تعالى اخترنا لكم آيات الكرسي كي نتوقف معكم عنها وقفة عابرة.

افتتحت الآية باسم الجلالة وهو سواء قلنا بانه مأخوذ من ألَهَ بمعنى تاه ووَلَهَ، أو من ألَهَ بمعنى عبد، فهو اسم لذات مستجمع لجميع الصفات كمالية‌ فلفظ الله في هذه الآية مبتدأ وخبره كلمة التوحيد و وصف الله بوصفين هما الحي والقيوم و الحي قد يعرّف بالمتحرك بالإرادة، ولكن الحياة المنسوب الى ذات الله ليست بهذا المفهوم لانه تعالى ليس متحركاً لان الحركة ملازم للممكنات وهو واجب الوجود، فالحياة فيه تعالى بمعنى انه شاعر وقادر على كل شيء ومحرِّك لكل شيء. والصفة الاخرى انه قيّوم اي كل شيء قائم به لا بمعني ان الاشياء واقع عليه فانه ليس محلاً حلّت الاشياء فيه او عليه، بل قيام الاشياء به بمعني توقّف الاشياء في حدوثها وبقائها بإرادته فهي العلة المباشرة لحدوث جميع الاشياء وبقائها بعللها ومعلولاتها.

"لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ" السنة حالة النعاس والفتور قبل النوم مرحلة الركود وتعطيل الحواس لعوامل طبيعية مؤقتة تحدث في بدنه، يفقد المشاعر فيها. اي لا يقهره سنة و لا نوم الذي هو اقوي من السنة في القهر ولكن نفي التأثير فيه تعالى لانتفاء المؤثر فيه فهو ليس محلا للحوادث.

"لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ" اللام للملكية ولكن ملكيته للأشياء ليست اعتبارية كما في غيره فان من يملك شيئاً دونه لا حقيقة في الخارج الا المالك والمملوك والملكية بنهما ليست الا امرا اعتبارياً لا وجود لها الا في عالم الخيال، ولكن الله مالك لما في السماوات والارض اي كل الوجود بمعني كل الاشياء تحت قبضة تصرفه وكلها قائمة بإرادته. فلا حول ولا قوة الا به تعالى.

"مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" بعد ما ثبت انه تعالى مهيمن على كل شيء ومحيط بها وكلها قائم به فالشفاعات ايضاً ليست الا بأذنه وتحت قدرته والشفاعة هي ضم شيء الشيء لإيصال الخير اليه فيمكن لنا تعميم مفهوم الشهادة بالتكويني وهو وساطة الاسباب والعلل في تحقق مسبباتها و معاليلها فهو مسبب الاسباب ومعلل العلل فلا يؤثر سبب الا بأذنه وارادته حيث هو الذي جعلها سببا لمسبباتها وعللا لمعاليلها فالنار حارقة بإعطاء الله لها الحارقية وهكذا كل شيء في الوجود ذاتها و مؤثريتها مستمدة منه تعالى هذا في عالم التكوين. وفي عالم التشريع كذلك شفاعة الاولياء عن العصاة لا تتم الا ما شاء الله و لمن اذن له. وهذا المقطع من الآية وردت بصيغة الاستفهام التقريري حيث ان كل منت اعترف بالمعارف المذكورة في صدر الآية يعرف بانه يستحيل تتميم الشفاعة الا باذنه، وهنا ينبغي ان نقف وقفة عند هذه النقطة حيث قد نرى انّ بعض العوام عندما يطلبون الشفاعة من اولياء الله يطلبونها من رؤوف رحيم يتوسط لهم عن من هو غاضب وشديد، كما هو موجود في اوساط البشرية حيث يطلبون وسيطاً وشفيعاَ يسترحم لهم عند شخصية خشنة عصبية كي يتجاوز عن عقابهم، وهذا الامر ليس صادقا في مقام الجلالة الربانية فهو تعالى ارحم الراحمين ورؤوف بعباده ورحمة غيره من الاولياء والاصفياء قدرة في بحر رحمته فهو الذي خلق الشفعاء والهمهم الرحمة لمن يريد ان يرحمه ويعفو عنه، ولكنه تعالى قرر ان يكون اوليائه وسائط في رحمته تكريما لهم وتشجيعا لعباده ان يتمسكوا بأوليائه كي يتأسوا بهم ويتوسلوا بهديهم.

"يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْديهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ" ذكر في المجمع ثلاث وجوه خلاصتها: («يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ» يعني ما في الدنيا والآخرة (و الثاني) معناه يعلم الغيب الذي تقدمهم و الغيب الذي يأتي بعدهم (و الثالث) أن «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» عبارة عما لم يأت «وَ ما خَلْفَهُمْ» عبارة عما مضى.) ويحتمل معنى آخر وهو: يعلم ما حضر وما غاب عنهم اي يعلم كل شيء. ثم ان ضمير- هم - اما يعود الى الشفعاء فيشمل غيرهم بالأولوية ، واما يعود الى ما في السموات وما في الارض يعني كل شيء سوى الله.

واما قوله تعالى: "وَ لا يُحيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ" بما ان الله يعلم كل شيء فنفي العلم عن شيء من علمه نفي لمطلق العلم فلا يعرف الانسان شيئاً الا ما شاء الله وهو الذي يحكم به العقل، لانه يستحيل تحقق شيئ الا باذن الله تعالى وإرادته.

والكرسي في قوله تعالى: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ" كناية عن القدرة والمُلك لا مكان الاستقرار كما زعم بعض الجهلاء من أهل الظاهر فانه تعالى ليس متحيزا كي يحتاج الى مكان وما قيل بان الله جالس على كرسيه واستوعب الكرسي الا بمقدار ما يجلس عليه حبيبه محمد صلى الله عليه واله من الموضوعات الخرافية خلاف العقل والنقل. واستعمال لفظ الكرسي بمعنى القدرة امر متداول في المحاورات العرفية كما قد يقال ان الملِك الفلاني في يوم كذا جلس على كرسيه او عرشه، اي تسلّم الحكم والقدرة.

اما قوله: "وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظيمُ" اي لا يجهده ولا يتعبه ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض، وقوله وهو العلي العظيم بمنزلة العلة والعلي يفيد معنى علوه واستعلائه على كل شيء والعظيم يدل على سعة وجوده و قدرته على كل شيء ومن يكون هكذا لا معني للجهد والتعب عنده، لانه كما قال الحكيم السبزواري: (اَزِمّةُ الأمورِ طُرّاً بِيَده، والكُلّ مُستَمِدَّةٌ مِن مَدَدِه).

هذه هي الآية الكرسي والآية التي تليها تتحدث معنا عن اختيار الانسان التكويني في معتقداته فتقول: "لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ" وهو نفي الاكراه لا النهي عنه لان الذين من مقولات لا يمكن فيه الاكراه لان موطنه القلب كسائر الامور النفسية كالحب والبغض والرغبة والكراهة والعلم واليقين والشك. نعم يمكن الاكراه على التلفظ بهذه العناوين من دون عقد القلب فالتقليد في الاعتقادات ليس امرا محرماً بل امر مستحيل غير معقول نعم قد يحصل الاعتقاد من خلال البيئة او الاسرة او الوالدين ومن خلال التلقين و هو اعتقاد صادق واذا كان منطبقا على الحق فهو مقبول ولكنه ليس من مقولة التقليد بالتقليد انما مجاه الافعال فيمكن التنطق بالفاظ المعتقدات تقليدا عن الغير ولكنه ليس من الاعتقاد في شيء.

ثم بقوله تعالى: "قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" بين فضل الله على الانسان باتمام الحجة عليه منت خلال فطرته وعقله وما جاء به الانبياء والاولياء فقال: "إنّا هَدَيْناهُ السَبِيلَ إمّا شاكِراً وَإمّا كَفُوراً"

ثم بين نتيجة اتباع العبد الرشد من الغي فقال: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‌ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ" والكفر بالطاغوت هو عدم الاعتراف والاستسلام له، والطاغوت على ما فسره المفسر الكبير العلامة الطباطبائي في الميزان: (يستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام و الشياطين و الجن و أئمة الضلال من الإنسان و كل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه)، فهذا التعبير يشمل كل شيء سوى الله مما يؤثر في ارادة الانسان، ولكن ان قلنا ان الطاغوت انما يستعمل في اصحاب القدرة الخارجة عن طاعة الله من الملوك والرؤساء، أضف اليهم الشيطان الذي له سلطان على الذين يتولّونه كما هو المتبادر الى الذهن فالكلام هنا في الطاعة اي من آثر طاعة الله على الطاغوت فقد استمسك بالعروة الوثقى بل ينافي الاقرار والاعتراف بالحكومات غير الشرعية وغير مأذونة من قبل الله مع الايمان والالتزام بطاعة الله فهما نقطتان متخالفتان لا يجتمعان ولا يلتقيان ابداً فآية الكرسي شددت على التوحيد في العقيدة والتي تليها تتحدث معنا في اتخاذ خطة العمل والطاعة.

ثم في الآية الأخيرة: يبين لنا تخالف النقطتين فيقول: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِهُمْ فيها خالِدُونَ" والولي هو الذي يتولى امور المولى عليه، والانسان هو الذي قد يجعل الله على نفسه ولياً فيوكل اموره اليه ويطيعه في كل امر ونهي وقد يجعل الطاغوت على نفسه ولياً فيوكل اموره اليه ففي خط الصعود خروج من الظلمات الجهل والباطل والشقاء الى العلم والحق والسعادة وفي خط النزول بعكس ذالك كما ان الآية الكريمة تفيدنا ان من لم يؤمن بالله فهو واقع في ولاية الطاغوت شاء او أبى ولا ثالث لهما والذي كفر بالله وهو في احضان الطاغوت له حقيقة نارية لا ينقلب عما هو عليه وهو قول الله: " أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِهُمْ فيها خالِدُونَ" نستجير بالله منه هذه اطلالة سريعة على هذه الآيات المباركة، اللهم خذنا اليك واجعلنا من المؤمنين بفضلك وكرمك يا اكرم الاكرمين


[1] سورة البقرة، اية255و257.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo