< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الثامنة والعشرون

"لِلَّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‌ وَ الَّذينَ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ . أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ . الَّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْميثاقَ . وَ الَّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ . وَ الَّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . وَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ميثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ"[1]

قد انهينا الكلام حول الوفاء بالعهد و ايصال ما امر الله بوصله وحول خشية الله والخوف من سوء الحساب ثم جاءت في الآيات المبحوث عنها صفة أخرى لأولي الالباب فقال: "وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ" الصبر لم يقيد في نوعه بشيء فيشمل الصبر عند المصيبة والصبر في على الطاعة والصبر عن المعصية. ولكن قيده بابتغاء وجه الله وهو بيان لدافع الصبر وهو طلب مرضاة الله. لأن الانسان قد يصبر لمهانة نفسه ولا يجترئ على إقدام، وقد يصبر للوصول إلى بعض المنافع المادية وقد يصبر لكسب السمعة الحسنة وغيرها من الأهداف الدنيوية فلا قيمة للصبر بهذه الدوافع وقد يكون مذموماً، ولكن الصبر الذي من صفات اولي الالباب الذين أحسنوا و علموا حقانية ما نزل على رسول الله هو الصبر خالصاً لوجه الله و لاكتساب رضاه وهذا العمل الذي يصل إلى الله و "ما عِندَكم يَنفَدُ وَ ما عِندَ اللهِ باقٍ".

والصفة الأخرى هي قوله: "وَ أَقامُوا الصَّلاةَ" ولعل إقامة الصلاة غير صادقة لمجرد الاتيان بها، بل هي الالتزام بها وترويجها والاهتمام بشأنها ونشر ثقافة الصلاة في المجتمع، ولذالك عندما نريد أن نثني على أئمة اهل البيت عليهم السلام نقول: "أشهد انك قد أقمت الصلاة". وهي عمود الدين الذي قام الدين عليه وهي التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها فلا يكفي فيها مجرد صحة أدائها بل لابد ان تصل إلى مرحلة القبول حتى تكون ضمانا لسائر الأعمال.

ثم اتى بصفة أخرى فقال: "وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرّاً وَ عَلانِيَةً" هنا أودّ أن أُشير إلى نقطتين:

أحداهما : أن الانفاق أعم من الصدقة فيشمل الإنفاق على الأهل والاولاد و في سبيل توعية الناس وتثقيفهم بل كل عمل راجح،

النقطة الثانية : أن رزق الله ليس محصوراً في الماديات بل يشمل العلم والوجاهة الاجتماعية و القدرة على التكلم و فرص الحياة والعمر والسلامة وغيرها من نعم الله التي رزقنا الله اياها، ولكن أكثرها اطلاقاً هو المال والثروة. ثم تعميم الإنفاق بالسر والعلانية في صريح الكلام، تنبيه على رعاية هذا التنويع و كل بحسب الظروف المقتضيه له فهناك ظروف يحسن فيها الإسرار و ظروف يحسن فيه الإعلان فعلى من يطلب رضى الله عليه أن يُسرّ بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو إهانة أو إراقة ماء الوجه، و أن يعلن به فيما إذا كان في إعلانه تشجيع للناس على البر و المعروف كما ورد في بعض الروايات استحباب الإجهار في دفع الزكاة الواجب لأحياء ثقافة الزكاة في أوساط المسلمين. وهنا نلفت انتباهكم إلى قول الله تعالى حيث قال: "الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في‌ سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ . قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَليمٌ . يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‌ كَالَّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرينَ . وَ مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ"[2]

ومن الصفات التي ذكر لأولي الالباب قوله: "وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ" ودرء السيئة بالحسنة يتصور فيه صور:

أحدها : اذا صدرت منهم سيئة جاؤوا بحسنة تدفعها وتغطيها، قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئآت"

الثاني : أن يتوبوا بعد المعصية فيدرؤون اثر المعصية بالتوبة.

الثالث : إذا أسيئ إليهم يقابلونه بالحسنة، فيعفون عنه و يحسنون اليه. قال تعالى: "الذين اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" وقال الامام زين العابدين في دعائه: ووفقنا..... وَ أَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَ أَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَ أَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا"

الرابع : اذا أتى شخص بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به، وهذا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حسنة تردء السيئة فذلك كله من درء السيئة بالحسنة

ولا بأس أن نقول كل هذه الموارد مصداق لدرء السيئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة. وبعد ذكر هذه الصفات الحميدة لألي الالباب يبشرهم ويقول: " أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ". هناك أمر لطيف ينبغي الالتفات اليها وهو أن الفرق بين أهل الجنة والنار أن أهل الجنة لهم عقبى أي لصالحهم والمطلوب عندهم بخلاف أهل النار فعقباهم غير مرغوبة عندهم و ليست لهم بل تكون عليهم عذاب وبلاء.

و هناك نري في هذه الصفات المذكورة جاء ستة منها بصيغة المضارع وهي: "الذين يوفون، و لا ينقضون، و يصِلون، و يخشون، و يخافون، و يدرءون" وثلاثة منها جاء بصيغة الماضي وهي: "وَ الَّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً" فالسؤال ما الفارق الذي اوجب هذا الفرق والاختلاف في التعبير؟ قيل: انه لمجرد التفنن ولا يضر بالمعنى لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول، و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربتني ضربتك و إن تضربني أضربك. فالمعنى في كلا الموردين واحد وانما جاء الاختلاف للتفنن في التعبير وهذا من فنون الفصاحة في الكلام. وقيل: أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف، الاستصحاب و الاستمرار، بخلاف الصبر فان تحققه متوقف على التلبس بتلك الأوصاف التي أعتني بشأنها فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناءً بشأنهما.

و اختار صاحب الميزان لتبرير هذا الاختلاف وجها آخر وهو : (أن مجموع قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة، فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: «و الذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة» فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعية لكن قيل: «وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: «وَ يَدْرَؤُنَ» إلخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه).

وبما انه يطول الكلام نترك المناقشة في هذه الوجوه والترجيح لكم مادام الموضوع لا دخل له في العقيدة ولا في العمل.

ثم يُعرِّف عقبى الدار بتفصيلً شيِّق فيقول: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. وهنا الفات جميل من الميزان في سبب ذكر آباء وازواج وذريّات من دون سائر الأقارب فيقول: (لأن الأمهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف).

وقد ختم تلك البشارات بتحذير من الجانب المقابل كما هو ديدن القرآن في اسلوبه، فقال: وَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ميثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ"[3] وبهذا ننهي بحوثنا التفسيرية في شهر رمضان نسأل الله القبول، وتوفيق مدارسة القرآن طيلة حياتنا وجعله قائدنا إلى الجنة بفضله وكرمه فانه أكرم الاكرمين. وصلى الله على محمد وعترته الطاهرين.


[1] الرعد18-25.
[2] البقرة263-265.
[3] الرعد18-25.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo