< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الثامنة عشر

﴿هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ . رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[1]

قد تحدثنا في الليلة الماضية حول بعض مفردات الآية إلى قوله تعالى: "و أخر متشابهات" وقلنا أن الآيات التي أم الكتاب هي المرجع في الامور و منها في فَهمُ المتشابهات، لأن الأم بمعنى الاصل الذي يُرجع اليه. ثم بعد الفقرة الأولى: تطرقت الآية لتبين لنا موقع فريقين من الناس يتعاملان مع الآيات بأسلوبين مختلفين: الفريق الاول هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ والزيغ هو الميل عن الاستقامة فهؤلاء يتّبعون الآيات المتشابهة و لهم هدف خبيث، يريدون الفتنة وتأويل القرآن و الفريق الآخر هم الراسخون في العلم يأخذون بالمحكمات و يؤمنون بكل القرآن محكمه و متشابه ونقف هنا وقفة سريعة عند بعض المفردات :

1- الفتنة : عبارة عن الاضلال والانحراف عن الدين وما يخرجهم من الايمان وقد يقال لعدم استقرار الامور السياسية او الاجتماعية الفتنة يعني ما يفتتن الناس به والفتن الاجتماعية ما يوجب الاضطراب وعدم وضوح الحق والباطل فيها.

2- التأويل : عبارة عن ارجاع الآيات إلى مراده الواقعي والى معانيها الحقّة وهي خفيّة، والذين في قلوبهم مرض يستغلون الفرصة لكي يأوّلوا الآيات على ما يشتهون . والله يخبر أن علم التأويل خاص بالله تعالى ومن أخبره الله به.

3- و الراسخون في العلم : وهم الثابتون الذين لا يعتريهم ريب، هل الواو فيها عطف بالله يعني لا يعلم تأويله الا الله والا الراسخون في العلم، ويمكن أن يكون الواو للاستئناف فهم الذين يقولون آمنّا كل من عند ربنا.

4- والألباب : جمع لب و هو العقل الزكي الخالص من الشوائب، و قد وصفهم الله تعالى في آيات مختلفة بصفات جميلة، فعرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله و الإنابة إليه و اتباع أحسن القول و أنهم على الذكر الدائم:

قال تعالى: "وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى‌ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ"[2] والمراد من عبادة الطاغوت الاعتراف به والاطاعة المطلقة له وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى: "أ فرأيت من اتخذ الهه هواه". و قال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‌ جُنُوبِهِمْ" [3] و هذا الذكر الدائم و ما يتبعه من التذلل و الخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله و انتقالهم إلى المعارف الحقة، و قد قال: "وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْباب"

قوله تعالى: "رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" هذه الآية الأخيرة هي دعاء الراسخين في العلم قال في الميزان: (و هذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم، و عقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده و أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجئوا إلى ربهم، و سألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، و أن يهب لهم من لدنه رحمة تبقي لهم هذه النعمة و يعينهم على السير في صراط الهداية و السلوك في مراتب القرب)

تتميما لبحثنا نعود إلى ما اشرنا اليه فقلنا في المراد من الراسخين في العلم خلاف بين المفسرين فمنهم من يحصرهم في النبي وأهل بيته المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين فجعل الواو عطفا على الله مستدلا بالروايات التي تدل على علمهم بالتأويل وما عبر عنهم بالراسخين في العلم، ومن المفسرين من يرى أن الراسخون في الآية هؤلاء المؤمنين الذين آمنوا بالقران كله ولا يشكون في صحته و كونه من عند الله ويقولون ان الرسوخ من المولات المشككة فلها مراتب وأهل البيت هم في قمة الرسوخ ولكن هذه الآية تحصر العلم بالتأويل بالله تعالى كما نرى مثله في علم الغيب فتدل بعض آيات إن الله تعالى استأثر نفسه بعلم الغيب، ولا ينافي معي تعليمه لبعض عباده المخلصين فلا يعلم الغيب الا الله ولا يظهر على غيبه أحداً الا من ارتضى من رسول فكذلك لا يعلم تأويله الا الله ويجوز له ان يبوح بهذا العلم لأوليائه بدليل الروايات، ومما يستل لذلك ان الاية الكريمة ذكر الذين في قلوبهم زيغ، واذا حصرنا الراسخون في أهل البيت فيقع سائر الناس كلهم في حصة الذين في قلوبهم زيغ! وهذا الامر مما لا يمكن الالزام به.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الدليل بان الآية الكريمة لو طرحت قضية ثنائية فكلامكم صحيح ولكن إن قلنا بأن الآية انما أرادت بيان حال من يزيغ قلبه ثم تطرقت إلى بيان من يعرف علم التأويل وهو الله تعالى و نبيه وأهل بيته ثم يصفهم مضافا إلى علمهم بالتأويل، قولهم "آمنا به كل من عند ربنا" فعلى ذالك كلا الوجهين لهما توجيه مقبول ولا مانع لأحدهما فلابد من الرجوع إلى الروايات كي نرى مدى دلالتها:

«و أعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب الحجوب»[4] هنا مدح المولى الراسخين بقناعتهم بالعلم الاجمالي عن اقتحام السدود لكشف تفسير ما هو محجوب عنهم. فهذا ظاهر في تعميم الراسخين.

عن أبي جعفر (ع) إنه قال: كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل و التنزيل و ما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله و هو و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله‌)[5] هذه الرواية تدل على علمهم بالتأويل وأن رسول الله هو أفضل الراسخين ولكن لا تدل على حصر الراسخين فيهم.

وعن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: قول اللّه: "وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" قال: «يعني تأويل القرآن كلّه، إلّا اللّه و الراسخون في العلم، فرسول اللّه أفضل الراسخين، و قد علّمه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه» وهذا الحديث ظاهر في حصر الراسخين في الآية في النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم اجمعين.

في كتاب الاحتجاج للطبرسي (ره) عن أمير المؤمنين عليه السلام حديث طويل و فيه: "ثم ان الله جل ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبطلون من تغيير كلامه، قسم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل و قسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه و لطف حسه و صح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه الا الله و أنبياؤه و الراسخون في العلم، و انما فعل ذلك لئلا يدعى أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من علم الكتاب ما لم يجعله الله، لهم و ليقودهم الاضطرار الى الايتمار لمن ولاه أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تعززا و افتراء على الله و اغترارا بكثرة من ظاهرهم و عاونهم و عاند الله جل اسمه و رسوله صلى الله عليه و آله". هذا الحديث كذلك حاصر للراسخين في أهل البيت عليهم السلام.

النتيجة : والذي يسهل الخطب أن هذه المسألة بما أنها ليست من مقولة الاحكام الذي لابد من امتثاله فأدلة حجية الخبر لا يشمله ولا يجب التعبد بأحد الاحتمالين فيبقى الاحتمالان باقيان في الذهن من دون تعيين والعلم عند الله .


[1] آل عمران7-8.
[2] الزمر- 18.
[3] آل عمران 191.
[4] نهج البلاغةخ91 الاشباح.
[5] مجمع ج2ص701.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo