< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً }[1]
المنع يعني قسر الشخص عن القيام بعمل ما، ومن المعلوم أن هذا المعنى لا يستقيم ولا يصح بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه لا شيء يمنع الله من القيام بأي فعل، ولا شيء يعجزه، ومن هنا فليس المنع في هذه الآية المباركة بمعنى القسر على عدم إتيان الفعل، بل المراد منه عدم الداعي والباعث والمقتضي للشيء، بعبارة أخرى أننا لا نرسل الآيات لعدم حاجة إليها، ولا داعي لها.
وقبل أن نتوقف عند تفسير الآية نود أن نشير إلى أنها نزلت ردا على ما طالبت قريش من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من أن يجعل من الجبل ذهبا، أو يفجر عيناً، أو يسقط عليهم السماء إلى آخر ما هنالك، وأشار القرآن الكريم إلى ما قاموا بمطالبته من النبي الأكرم كشرط للإيمان به والتصديق بما جاء به قائلاً : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً } {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً } {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً } {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[2] فهذه بعض ما طالبوه من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. فجاءهم الرد من الله سبحانه وتعالى حيث قال : {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
ويحتمل قوله تعالى : {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، ثلاثة معاني حسب ما ذكره صاحب مجمع البيان الطبرسي عليه الرحمة.
الأول : لم نرسل بالآيات والمعجزات رغم مطالبتهم، وذلك أن سر المعجزة وإظهار آيات الله على أيدي الأنبياء إنما يكمن فيما إذا كانت المعجزات لأجل اهتداء الناس، أو لإتمام الحجة عليهم. ومن المعلوم أن كفار قريش لم يطالبوا ما أشارت إليه الآيات المباركة لأجل الاهتداء والإيمان بالله تعالى والتصديق بما جاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنما طالبوها من باب العناد واللجاجة وإزعاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاستهزاء به، ومن هنا فتلبية مطالباتهم بما شاءوا كان بدون فائدة وحكمة، وثانياً أن إتيان المعجزة بعد طلب الكفار يقتضي عذاب الاستئصال فيما إذا لم يؤمن به المطالبون، وهذا كما حدث في الأمم السالفة، حيث طالبت المعجزات من الأنبياء، وحينما جاء بها الأنبياء عليهم السلام، لم يؤمنوا به، فجاءهم عذاب الله تعالى من حيث لم يشعروا، لما كان الله تعالى لم يرد عذاب الاستئصال لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرسل بما طالبوه من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما لم يرد الله تعالى عذاب أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتشريف مقام النبي الأكرم وثانياً – أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، فأُمّته باقية، وشريعته مؤبدة ومستمرة حين قيام الساعة.
الثاني : أن معنى الآية المباركة أننا لا نرسل الآيات، ولا نظهر المعجزات على يد نبينا لعلمنا أنهم لا يؤمنون ولا يهتدون إلى سواء السبيل، ولا يتركون ضلالهم وغيهم وعنادهم، بل إنما يصرون على شركهم وإلحادهم وكفرهم، فإذا كان الأمر كذلك فإرسال الآيات حينئذ يكون عبثاً، ومن الواضح أن العبث لا يصدر من الله سبحانه وتعالى، هنا نود لفت الانتباه إلى أن المعجزة على نوعين، أحدهما : ما لا يصح معرفة النبوة إلا به، وهذا النوع ينبغي أن يظهر على يد النبي، سواء وقع منهم الإيمان أو لم يقع. والثاني : ما يكون لطفاً في الإيمان، وهذا أيضا يأتي به أنبياء الله تعالى بإذنه لطفاً منه على العباد. وما خرج من هاتين الغرضين من المعجزات وإظهار الآيات، فلا يأتي به الله سبحانه وتعالى.
الثالث : أن المعنى إننا لا نرسل الآيات ولا نظهر المعجزات، لأن آباءكم وأجدادكم سألوا مثلها، ولكن لم يؤمنوا عندما جاء بها الأنبياء، وأنتم تقلدون أسلافكم، ومقتدون على آثارهم، فكما لم يؤمنوا لا تؤمنون.
والظاهر أنه يمكن الجمع بين هذه الوجوه الثلاثة هو أن نقول إن عدم إجابة الله في الإتيان بالمعجزات وأرسال الآيات التي اقترحوها، إنما كان – أولاً – لعدم وجود المقتضي؛ لأن المعجزة تؤتى بها إما للاهتداء، وإما لإتمام الحجة، وكلا الأمرين منتفيان فيما طالبته كفار قريش من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم اقترحوا الإتيان بالمعجزات لا لأجل الهداية والإيمان بالله تعالى والتصديق بما جاء به رسول الله، بل إنما كان من باب اللجاجة والعناد والاستهزاء والإزعاج.
وقوله تعالى : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} تذكير بأن السلف الطالح وهم كانوا قوم ثمود طالبوا من النبي الصالح عليه السلام أن يأتي بالمعجزة، فحينما جاء بها في صورة الناقة، لم يؤمنوا بها بل إنما قتلوا الناقة، فجاءهم عذاب الاستئصال، وقد حكى الله تعالى قصة قوم ثمود في مواضع عديدة من القرآن الكريم، قال تعالى في سورة الأعراف : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ[3]} تحكي هذه الآيات المباركة قصة القوم الذي لم يؤمن المستكبرون منهم بعد أن رأوا المعجزات الباهرة، بل كانوا يستهزؤون بالنبي صالح عليه السلام، ويهددونه ويتحدونه بأن يأتي بالعذاب الذي كان يعدهم في صورة عدم إيمانهم بالله تعالى بعد إرسال الآيات من الله تعالى، وإظهار المعجزات بيده عليه السلام بإذن الله. فحينما عتوا عن أمر الله تعالى، وعقروا الناقة، ولم يحترموا أحكام الله تعالى بعدم الالتزام بكل ما دعا إليه النبي صالح، أخذهم عذاب الله تعالى، فكان عذاب الاستئصال، نستجير بالله تعالى من عذابه.
ملاحظتان.
الأولى : ينبغي أن يكون الإنسان باحثاً عن الحق ومنفتحاً عليه، فأينما وجده قبله بدون اللجاج، وأينما سمعه آمن به بدون الإصرار، لأن ذلك يأخذ بيد الإنسان إلى بر الأمان والنجاة والسعادة الأبدية. ومن أوصاف المؤمنين الذين أثنى الله تعالى عليهم ومدحهم في القرآن الكريم هو أن المؤمن يستمع ثم يتبع ما كان فيه صلاحه في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ } {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[4] أكد الله سبحانه وتعالى أن من يستمع القول فيتبع أحسنه، أي : يكون منفتحا على الحق أينما استمع إليه أمسك به، وأينما وجد الحق آمن به، مثل هؤلاء المستمعون هم المهتدون بهداية الله تعالى، وأصحاب العقول الذكية، والقلوب الحية، والآذان والواعية، والنفوس الخاضعة أمام عظمة الله تعالى.
الثانية : يعتقد الكثير منا بأن ابن الوالدين الفاجرين أو الفاسقين دائما يكون ولدا سيئا، ولا يتوقع منه إلا الفسق والفجور، وبالعكس إذا كان الوالدان صالحين، فيكون ولدهما صالحاً لا محالة، غير أن هذا الاعتقاد ليس في محله، لأن لا يجبر فسق الوالدين أو إيمانه بمسير حياة الولد، نعم ثمة تأثير لجنيتك والطعام على روح الإنسان، لكن هذا التأثير يكون لزيادة الدواعي الخير أو الشر، ولكن لا يجبر الإنسان على أن يكون تحت تأثيره. فثمة نماذج كثيرة وصلت إلينا من صفحات تاريخ البشر يؤكد على ما قلناه، فابن النبي نوح كان ابن النبي وفي البيت الذي ينزل عليه الملائكة ليلاً ونهاراً لكنه رغم ذلك انحرف عن سواء السبيل، واختار طريق الضلال. من جهة أخرى نجد أن حنظلة الذي اشتهر بغسيل الملائكة، كان هو وزوجته من الصلحاء والأتقياء بينما كان والد حنظلة، ووالد زوجته من منافقي اليهود.
وأما قوله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } فتأكيد على لزوم ترتب الأثر الإيجابي على نزول الآيات حتى يرسلها الله لأنه حكيم لا يفعل عبثاً، والتخويف هو الرادع عن الباطل والظلم كما أنه داعي إلى إيمان والعمل الصالح طبعا لمن كان له القلب او ألقى السمع وهو شهيد.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo