< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
قال الله تبارك وتعالى : { وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }[1]
قبل أن نتوقف عند تفسير هذه الآية المباركة نطل إطالة عابرة على بعض مفرداتها، لنستوعب معناها بشكل صحيح.
شرح المفردات.
القرية. تستعمل هذه الكلمة في ثلاثة موارد حسب ما جاء في " التحقيق في كلمات القرآن "، الأول : تطلق على التجمع البشري المتشكل. الثاني : تطلق على الأبنية والعمارات، الثالث، تراد بها التجمع البشري المتشكل مع الأبنية والعمارات، جاء في " التحقيق " : " وأمّا القرية: فعلى وزان فعلة للمرّة، بمعنى هيئة واحدة من التجمّع، أى مجتمعة واحدة متشكّلة.
وقد استعملت في القرآن الكريم في مورد الأبنية و العمارات، و في مورد الأفراد و الجماعات، و في موردهما معا : فالأوّل- كما في( : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ)- 2/ 58. (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‌ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‌ عُرُوشِها)- 2/ 259. (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ)- 29/ 31 والثاني- كما في : (وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)- 7/ 4. (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ)- 22/ و الثالث- كما في : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى‌ وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)- 46/ 27. (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‌ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا)- 28/ 59 و الفرق بين البلد و القرية و المدينة: أنّ البلد كما سبق: هو القطعة المحدودة من الأرض عامرة أو غير عامرة مطلقا. و القرية: يلاحظ فيها التجمّع سواء كان في عمارة أو في أفراد من الناس، و بينهما عموم و خصوص من وجه. و المدينة: يلاحظ فيها مفهوم الاقامة و النظم و التدبير.[2]
فأشار المؤلف إلى المعاني الثلاثة، مستدلا على أن القرآن قد استخدمها في تلك المعاني الثلاثة. كما أشار إلى الفرق بين البلد والقرية والمدينة.
هلك. أما مادة " هللك " فقد استعملت في المعاني العديدة في اللغة، وأشار الراغب الأصفهاني إلى خمسة معاني، حيث قال : هلك: الهلاك على ثلاثة أوجه: افتقاد الشيء عنك وهو عند غيرك موجود كقوله تعالى: (هلك عنى سلطانيه) وهلاك الشيء باستحالة وفساد كقوله: (ويهلك الحرث والنسل) ويقال هلك الطعام. والثالث: الموت كقوله (إن امرؤ هلك) وقال تعالى مخبرا عن الكفار (وما يهلكنا إلا الدهر) ولم يذكر الله الموت بلفظ الهلاك حيث لم يقصد الذم إلا في هذا الموضع وفى قوله: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) وذلك لفائدة يختص ذكرها بما بعد هذا الكتاب. والرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا وذلك المسمى فناء المشار إليه بقوله (كل شيء هالك إلا وجهه) ويقال للعذاب والخوف والفقر الهلاك وعلى هذا قوله (وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون - وكم أهلكنا قبلهم من قرن - وكم من قرية أهلكناها - وكأين من قرية أهلكناها - أفتهلكنا بما فعل المبطلون - أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) وقوله: (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) هو الهلاك الأكبر الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا شر كشر بعده النار "،[3]
فأشار إلى أن هذه المادة تستعمل في افتقاد الشيء عن الشخص والذي يوجد عنه الشخص الآخر، وفي استحالة الشيء أو فساده، وفي معنى الموت، وفي بطلان الشيء من العالم رأسا، وفي العذاب والخوف والفقر. والظاهر أن المراد في هذه الآية المباركة الموت.
بعد الوقوف عند بعض المفردات، ننتقل إلى معنى الآية المباركة وتفسيرها، ومن يتصفح في كتب التفسير يصل إلى أن المفسرين ذكروا المعاني العديدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على بلاغة تراكيب القرآن الكريم، ودقتها، وأنها حمال الأوجه، حيث يستنبط كل عالم معنى جديدا حسب فهمه وعلمه واستيعابه.
من الوجوه التي ذكرها المفسرون أن قرى الصالحين والمؤمنين على وجه الأرض تذوق ذائقة الموت في نفخة الصور الأولى، وأن قرى الظالمين والمفسدين في الأرض تعذب عذاباً شديداً. وقوله تعالى : (كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) يؤكد على حتمية هذا الأمر، وأنه ستحقق لا محالة بقرار حاسم من الله تعالى. كما تؤكد هذه الآية المباركة على أن هذه الدنيا فانية، وأن البشر خلق فيها لانتقال إلى دار الآخرة، لأن هذه الدنيا دار الممر، ودار التزود للحياة الأخروية، وأن دار الآخرة هي دار المقر، وهي دار الحيوان. قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الدنيا :
" ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ الْآخِرَةُ دَارُ بَقَاءٍ فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ‌ لِمَقَرِّكُمْ‌ وَ لَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ فَفِي الدُّنْيَا حَيِيتُمْ [حُبِسْتُمْ‌] وَ لِلْآخِرَةِ خُلِقْتُمْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَالسَّمِّ يَأْكُلُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ وَ قَالَ النَّاسُ مَا أَخَّرَ فَقَدِّمُوا فَضْلًا يَكُنْ لَكُمْ وَ لَا تُؤَخِّرُوا كُلًّا يَكُنْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ الْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ خَيْرَ مَالِهِ وَ الْمَغْبُوطَ مَنْ ثَقَّلَ بِالصَّدَقَاتِ وَ الْخَيْرَاتِ مَوَازِينَهُ وَ أَحْسَنَ فِي الْجَنَّةِ بِهَا مِهَادَهُ وَ طَيَّبَ عَلَى الصِّرَاطِ بِهَا مَسْلَكَه).[4]
ما أجمل هذ الوصف وأبلغه! وما أوعظه! حيث تحتوي هذه الكلمات على حقيقة هذه الحياة، وهدفها، ولها وقع عجيب في النفوس الحية، وتأثير قوي على القلوب الواعية، لو توقف صاحب البصيرة عند هذه اللكمات لتعرف على حقيقة هذه الحياة، ولتوصل إلى هدف خلق هذه الدنيا، وما فيها.
المهم أن الوجه الأول في معنى الآية أن القرى الظالمة تعذب عذاباً شديداً، وأن القرى الصالحة تذوق ذائقة الموت عند نفخة الصور الأولى. وهناك معنى آخر ذكرها صاحب الميزان رحمه الله تعالى، حيث رأي أن المراد من الإهلاك في الآية المباركة التدمير بعذاب الاستئصال، والمراد من العذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب من قحط أو غلاء، أو خراب العمارة، أو الابتلاء بالبلايا الأخرى من الحرب والفساد والأمراض، فقال :
" و الظاهر أن في الآية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: «وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن. فتكون في الآية إشارة إلى أن هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية."[5]
لكن الأرجح عندنا هو المعنى الأول وليس ما ذهب إليه صاحب الميزان رحمه الله تعالى، وذلك لأمرين، الأول : أن ما ورد في هذه الآية المباركة تفيد العموم، وذلك أن النكرة إذا وردت في سياق النفي تفيد العموم، وفي الآية كذلك. وأما وقوله تعالى : "وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها...." فكلمة - قرية- وردت مفردة نكرة، غير أنها تدل على الوحدة بخلاف ما نحن فيه فإنها تدل على العموم كقوله تعالى: "وَ إِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا" فهي في المورد الثاني تفيد العموم لأنها نكرة في سياق النفي، و في المورد الأول ليس كذلك. والثاني: أن قوله تعالى : "قبل يوم القيامة"يتحدث عن نفخة الصور الأولى قبل يوم القيامة، وعليه فالمعنى الأول أرجح وأنسب بالمقام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo