< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث حول المعاد.
قبل أن ننتقل إلى الآيات الأخرى، يجدر بنا أن نتوقف عند الشبهة الأخرى تتعلق بيوم المعاد، وتشغل هذه الشبهة أذهان كثير من الناس منا، وهي عبارة عن أنه بالنسبة إلى الخلود في الجنة لا مناقشة فيه؛ لأنه من فضل الله ورحمته الواسعة أما الخلود في النار أو البقاء لسنين طولة فيها لماذا؟، والحال أن ما قام به من المعصية، فكانت في لحظات من الزمان أو ساعات قليلة وكل ذلك صدر منه في مدة عمره التي أقصاها ثمانين سنة بعد بلوغه؟ ولابد أن يكون العقاب بمقدار ما ارتكب من المعصية فإن ارتكب المعصية ساعة فلابد أن لا يتجاوز عقابه عن الساعة وهكذا...،
والجواب عن ذلك يتضح بتأملٍ ما، فنعرف أن هذه الشبهة ليست إلا مغالطة، وهي أن الميزان في تعيين العذاب أو العقاب لا يرجع إلى زمن ارتكاب المعصية، بل إلى آثارها وعواقبها التي تمتد بعض الأحيان لمدة طويلة جداً، وكذلك يرجع إلى نية العاصي ومقدار جرأتها على المولى المتعال وهذا الأمر لا يختص بالعقاب الأخروي فقط، بل إنما يكون كذلك في القوانين البشرية، بل حتى في قوانين الطبيعة، ففي كل هذه القوانين الموجودة على الكرة الأرضية يحدد العقاب حسب آثار الجرم وعواقبها.
فمثلاً من يطلق النار على البريء، ربما لا تستغرق العملية من الزمن إلا بضع ثوان، لكن آثار إطلاق هذه النار إما القضاء على حياته للأبد، أو إعاقته كذلك في بعض أعضاء، فكان زمن ارتكاب الجريمة بضع ثوان، لكن آثارها ممتدة الى أزمنة طويلة، من هنا فالقانون البشري، لا يعاقب القاتل لبضع ثوان والتي هي زمن ارتكاب الجريمة، بل إما يحكم عليه بالإعدام أو بالسجن مؤبداً. وكذلك من يشتغل في المخدرات يعاقب عقابا صعبا ولمدة طويلة لأنه من خلال توزيع المخدرات يجلب في المجتمع آثار سلبية قد تؤدي إلى فساد مشتر في أوساط الشباب. وقس على ذلك كثير من الموبقات.
هذا ونشاهد ما يجري في قوانين الطبيعة، فمثلا من قوانينها أن ينزل الإنسان من السطح إلى الأرض بواسطة السلم، لكن ثمة من يخالف هذا القانون، و ينزل من السطح بلا واسطة لا السُلَّم ولا غيرها، فهو إما يكسر رجله أو يده أو ظهره لا سمح الله، ويكون إعاقته هذه تستمر معه إلى نهاية عمره، فهنا لا يحق له أن يقول إنني خالفت قانون الطبيعة لبضع ثوان، فلابد من أن تكون إعاقتي بهذا المقدار.
إضافة إلى ذلك أن عذاب المجرمين يوم القيامة ليس بمستوى ما يستحقونه، بل يكون أقل بكثير من ذلك، وهذا بعد أن كرر الله تعالى التأكيد على فتح باب التوبة في هذا العالم، وحتى العفو عن الكثير ما يفعله الإنسان من المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى :{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }[1] في الآية المباركة إشارة إلى أن ما نرى من المصائب والآلام والمشاكل في هذا العالم إنما لأجل تخفيف العذاب في يوم القيامة، ومع ذلك لا يؤاخذ الله تعالى بكثر ما فعلناه من المعاصي، ويقول تعالى في موضع آخر : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[2] هذه الآية تشير إلى تعامل الله الكريم والرحيم مع عباده الذين لم يرتكبوا الذنوب فحسب، بل أسرفوا في ارتكاب الجرائم، لكن رغم ذلك يفتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة والإنابة لهم، ويمنعهم من القنوط من رحمة الله تعالى الواسعة التي وسعت كل شيء، وفي الآية إشارة لطيفة تدل على حب الله تعالى لعباده حتى ولو كانوا لم يمتثلوا أوامره ونواهيه، وذلك أن الآية المباركة تبدأ بقوله تعالى ( يا عبادي ) حيث نسب العباد إلى نفسه، وهذا تشريف منه لهم وتعظيم، ثم منعهم من القنوط الذي يحمل آثار سلبية بالغة الخطورة، ثم أخبر بأن الله يغفر الذنوب كلها، ثم ختم كلامه سبحانه بأنه غفور رحيم.
مثل هذه الآيات تدعو الإنسان إلى ترك ما نهى الله تعالى عنه فوراً، والقيام بما أمر به الله تعالى، لأن الإنسان حينما يسمع مثل هذا الكلام يشعر بالخجل الكبير أمام هذا الخالق الأكبر العطوف الرحيم الذي قد دعا حتى الذين أسرفوا على أنفسهم بارتكاب المعاصي الكثيرة، لكنه دعاهم إلى الرجوع والإنابة والتوبة، اللهم بحق هذا الشهر الفضيل ارزقنا توفيق التوبة والإنابة والرجوع إلى ربنا الأكرم الرحمن الرحيم.
المهم أن العقاب لا يحدد بالزمن الذي ارتكب فيه الذنب أو المعصية، بل ينظر في تحديد العقاب إلى عواقب المعصية وآثارها، فكلما كانت آثارها خطيرة وطويلة الأمد كلما كانت عذابه شديد، ومدته طويلة، وهنا أستغل الفرصة لأؤكد على أن اهتمامنا بأمراض الجسم أكثر من اهتمامنا بأمراض الروح، فحينما نبتلي بأي مرض من الأمراض الجسدية، نبحث عن الدكتور الأفضل، ثم نستمع إليه، ونقوم بكل ما يطلب منا لأجل سلامتنا، فنترك ما نهى عنه، ونفعل ما دعا إليه، بينما لا نولي أي عناية واهتمام لأمراض الروح الخطيرة، وكذلك نلاحظ أن بعض المؤمنين لا يتفاعلون مع الخطيب أو إمام الجماعة حينما يبدأ بالدعاء، لكن حينما يصل إلى الدعاء لشفاء المرضى، نرى أنهم يرفعون أيديهم ويبتهلون ويتضرعون ليشفي لمريضهم، هذا الأمر لا بأس به، غير أنه ينبغي أن يكون أكبر همنا هو الاهتمام بأمراض الروح، والعناية بعلاجها، لنتخلص منها في هذه الدنيا، لأنه لو لم نتمكن من ذلك، سوف نعاني منها في القيامة التي كل يوم منها كألف سنة وبعض المعاناة فيها يمكن لا سمح الله يصل إلى ما لا نهاية له، و يترك علينا آثارها الوخيمة جدا.
وهنا نود أن نتبارك بذكر الرواية المباركة تدل على سعة فضل الله ومغفرته فهي تشمل كل عاصي إلا من وصل أمره إلى أن يخرج من دائرة الرحمة التي وسعت كل شيء: "رَوَى الْعَيَّاشِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَحْوَلِ عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: ( إِنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ يُعَيِّرُونَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ وَيَقُولُونَ مَا نَرَى تَوْحِيدَكُمْ‌ أَغْنَى‌ عَنْكُمْ‌ شَيْئاً وَمَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إِلَّا سَوَاءٌ قَالَ فَيَأْنَفُ لَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ اشْفَعُوا فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَقُولُ لِلنَّبِيِّينَ اشْفَعُوا فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اشْفَعُوا فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَقُولُ اللَّهُ أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اخْرُجُوا بِرَحْمَتِي فَيَخْرُجُونَ كَمَا يَخْرُجُ الْفَرَاشُ‌[3] قَالَ ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ع ثُمَّ مُدَّتِ الْعُمُدُ وَأُوصِدَتْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ وَاللَّهِ الْخُلُودُ).[4] [5]
وإلى هنا ينتهي بحثنا حول الآيات المباركة التي بدأنا تفسيرها منذ أول شهر رمضان المبارك، ثمة نكات عديدة تحتوي عليها تلك الآيات المباركة، إلا أننا نكتفي بهذا القدر لئلا نخرج عن طور البحث وأسلوبنا عن التفسير الترتيبي لسورة الاسراء. فلنتابع بحثنا فی الآيات تلي الآيات السابقة وهي :
قال الله تبارك وتعالى. {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً 53 رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً 54 وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً 55}[6]
تفسير الآيات المباركة
قوله تعالى : . {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً }، الخطاب فيها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يُشعِر أن الله تعالى أعطى الرسالة بيد أشرف الناس وأفضلهم على وجه الأرض، ثم قوله تعالى : ( لعبادي ) يوحي بالرحمة واللطف والعناية والتشريف تجاه العباد، حيث نسب العباد إلى نفسه تعالى، وفيه تشريف لهم بما لا يمكن بيانه.
أما قوله تعالى : (يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، فقد ذكر المفسرون احتمالات عديدة في المراد منه،
أولاً – أن المراد منه هو اختيار أحسن الديانات والمذاهب،
ثانياً – اختيار أحسن الكلمات والأقوال، ألا وهي كلمة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " أو قراءة القرآن، وما شابه ذلك.
ثالثاً – أن يأمر بما أمر الله تعالى به، وينهى عما نهى تعالى عنه.
رابعاً – أن يقول مثل " رحم الله تعالى عليك، غفر الله لك، سلمك الله وإلى آخر مما فیه مجاملة في الكلام.
خامساً – أن يستمع إلى الكل ثم يختار ما فيه صلاح الدينا والآخرة، ويترك ما فيه معصية الله تعالى. وهذا ما في معناه قوله تعالی: "فًبَشّرعبادِالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"
كل هذه الاحتمالات والمعاني لا بأس بها، لأنها رائعة وجيدة، إلا أن الاحتمال الأظهر والأنسب بسياق الآيات التي تليها، أن المراد من قوله تعالى (يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) اختيار الكلام الذي يوجب المحبة والألفة والانسجام والتلاحم بين أوساط المسلمين وصفوفهم وأن يكون أبلغ تأثيراً في نفوس الناس من ناحية المضمون وأسلوب البيان، والقرينة على ذلك قوله تعالى بعده : (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)، لأن هذا القول بمنزلة تعليل لقوله تعالى (يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والمراد من " النزغ " الدخول في العمل بينة الإفساد وإثارة الفتنة. فأمرنا الله تعالى أن نختار الكلام الذي يؤدي إلى التلاؤم والتلاحم بين صفوفنا؛ لأن الشيطان بالمرصاد، ويبحث عن الفرصة التي من خلالها يفسد ويثيرالفتن فيما بيننا، ثم ختم قوله تعالى بإعطاء كبرى وهي {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}.
فنقول بالاختصار إن الآية المباركة أكدت على اختيار الكلام الذي يسبب الحب والألفة بين أبناء المجمتع الإسلامي، ويجلب الخير والبركة، ليسود الأمن والإمان، والتأكيد على ذلك إنما جاء لأن الشيطان لا يريد الخير لبني آدم، ويحاول دائما أن يثير الفتن والمشاكل بين الناس، وأن يفسد بين الإخوة المتحابين في الدين، وذلك أنه يحمل العدواة والبغضاء لبني آدم، ولا يتوقع الإنسان من عدوه إلا شراً.
وكما ينبغي أن يسود الكلام الحسن بين أفراد الطائفة الواحدة، كذلك ينبغي أن يكون كلامنا مع الطوائف الآخرى أو الأديان الأخرى قائما على الاحترام المتبادل، وحسن الخلق، والكرامة، لأن التقية عبارة عن الكلام الحسن الذي يجمعنا كمسلمين، ومن هنا ندين كل القنوات التي تكفّر، وتحرِّض على قتل المسلمين، سواء كانت شيعية أم سنية، لأنها لعبة بيد الاستعمار والاستخبارات العالمية المعادية للإسلام والإنسانية، فمن واجبنا جميعا أن نقف في مقابل هولاء الخونة العملاء المنافقين، لنقطع عليهم الطريق، لكي لا ينجحوا في تفريق ضرب المسلمين وتدمير بلادنا وأوطاننا.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo