< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/07/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام الجماعة
تتمة المسألة الثامنة
قلنا في المباحث الماضية أنه هناك خلاف بين الفقهاء في وجوب المتابعة من حيث كونه تعبديا، أو كونها شرطا في صحة الصلاة، وأشرنا إلى أن في المقام أربعة أقوال، منهم من قال بأن وجوب المتابعة تعبدي، أي : الإخلال بها لا يضر بصحة الصلاة، بل يترتب عليه الإثم، ومنهم من اختار أن الإخلال بالمتابعة يبطل الصلاة، وهذا ما نسب إلى الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق وابن ادريس، ومنهم من اختار أن الإخلال يضر بصحة الجماعة دون الصلاة، وهذا ما ذهب إليه السيد الخوئي رحمه الله. ومنهم من قال بعدم بطلان الصلاة والجماعة معاً، بل اختار عدم انعقاد الجزء المتخلف عن متابعة الإمام مع الجماعة. وهذا ما اختاره المحقق الهمداني رحمه الله.
هذا محصل ما مر بنا في المباحث الماضية، و كان اختيارنا في المقام ما ذكره السيد اليزدي رحمه الله من أن : " وجوب المتابعة تعبّديّ، وليس شرطاً في الصحّة، فلو تقدّم أو تأخّر فاحشاً عمداً أثم، و لكن صلاته صحيحة[1]، نحن كذلك نقول أن وجوب المتابعة حكم تكليفي، ولا يضر الإخلال بها بصحة الصلاة، ومن هنا فإذا تقدم المأموم على الإمام، أو تأخر تأخرا فاحشاً، فلا تبطل صلاته، بل إنما ارتكب إثماً.
والدليل على وجوب المتابعة – كما مر بنا – مضافا إلى أن عنوان الجماعة يقتضي المتابعة، وجود الروايات التي وردت حول المأموم المسبوق الذي وصل متأخراً، فيكون في الركعة الأولى والإمام في الركعة الثانية، فهنا أكدت الروايات على أن المأموم ينبغي أن يتجافى عن الأرض حين تشهدِ الإمام، وينتظر حتى يتفرغ الإمام عن تشهده، وكذلك إذا كان الإمام في ركعته الأخيرة، والمأموم في الركعة الثالثة، فعليه أن لا يقوم حتى ينتهي الإمام من تشهده، وكذلك ما ورد في باب الركوع والسجود حيث أكدت الروايات على أن يعود المأموم - الذي رفع رأسه قبل الإمام – إلى الركوع أو السجود، وهذا كله يدل على وجوب متابعة الإمام.
وذكرنا أن المختار في التأخر الذي يخل بصحة صلاة الجماعة هو أن يخرج عن هيئة الجماعة، بحيث لا يقال عرفا إنه يصلي مع الجماعة، وهذا نفس ما ذكره الماتن رحمه الله، ولكن من تأخر أقل من ذلك أخل بالمتابعة وأثم، وبما أن الوجوب عند المشهور – وهو مختارنا في المقام – تعبدي فهذا لم يخل بصلاة الجماعة. إلا إذا كان التأخر لعذرٍ فلا بأس به، ومن الأعذار ما إذا كان المأموم في الركعة الثانية، والإمام في الثالثة، فالإمام يقوم بعد السجدتين، غير أن المأموم يتشهد ثم يقوم، هنا المأموم تأخر عن الإمام، لكن تأخره للعذر.
ثم وقفنا عند قول الماتن : و إن كان الأحوط الإتمام و الإعادة، و ذكرنا أن المراد من الاحتياط في المقام هو الاحتياط الاستحبابي، ومن هنا يجوز ترك هذا الاحتياط، وإن كان الإتيان به جيد، لأن الاحتياط حسن على كل حال، مع الالتفات أن هذا الاحتياط إنما يكون إذا أخل المأموم بوظيفة المنفرد، وهذا ما إذا كان المأموم في الركعة الأولى والثانية حيث لا يجب عليه القراءة، وتخلف عن الإمام، أو إذا كان في الركعة الثالثة والرابعة، وزاد ركوعا لأجل متابعة الإمام و أما إذا لم يخل بها، فلا وجه للاحتياط.
ثم قال الماتن رحمه الله : خصوصاً إذا كان التخلّف في ركنين، بل في ركن، ولعل ذكر هذه المسألة وجود الأقوال في المقام، فمثلاً قال المحدث البحراني نقلاً عن الشهيد الأول، : و لا يتحقق فوات القدوة بفوات ركن و لا أكثر عندنا.[2] فقول الشهيد الأول – حسب ما نقل عنه صاحب الحدائق – " لا يتحقق فوات القدوة بفوات ركن، ولا أكثر عندنا." يدل على أن في المقابل أقوالاً أخرى تهدف إلى تحقق فوات القدوة بفوات ركن أو ركنين أو أكثر. وقال المحدث البحراني : " وفي التذكرة توقف في بطلان القدوة بالتأخير بركن.[3] فالعلامة الحلي توقف عن الحكم ببطلان صلاة الجماعة إذا تخلف المأموم عن الإمام بركن، وهذا يعني أنه يحتمل البطلان غير أنه لم يحكم به. فقول السيد اليزدي رحمه الله :خصوصاً إذا كان التخلّف في ركنين، بل في ركن، يدل على أن في المقام احتمالا لبطلان صلاة الجماعة بالتخلف في الركنين، بل الركن،
ونحن أشرنا في خصوص هذه المسألة إلى أنه لم يرد التصريح في الروايات بأن التخلف في الركنين أو الركن يخل بصحة صلاة الجماعة، بل المعيار هو طول زمان مفرقة المأموم مع الامام فطول ركوع الإمام مثلاً أو سجدته أو قصرهما، يؤثر في عنوان القدوة وعدمها فإذا طوّل الإمام في ركوعه أو سجدته، ومع ذلك لم يتابعه المأموم، فهذا يخل بصحة الجماعة، بينما إذا كان الإمام مسرعا في القيام بأجزاء الصلاة وأركانها، فلعل التخلف في الركن أو حتى في الركنين لا يضر بصحة صلاة الجماعة. ومن هنا نستنتج أن المعيار عرفا، هو زمن التخلف والمفارقة عن الإمام، فإذا كان زمن التخلف عن الإمام زمنا طويلاً يخل بصحة الجماعة، وإذا كان قصيراً، فلا يضر، حتى ولو كان في الركنين.
أما قول الماتن : " نعم لو تقدّم أو تأخّر على وجه تذهب به هيئة الجماعة بطلت جماعته." فلا غبار عليه، ولا شك في صحته، ومن هنا فمن تأخر بحيث لا يقال إنه يصلي مع الإمام، بطلت جماعته.

المسألة التاسعة
إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً، أو لزعم رفع الإمام رأسه، وجب عليه العود والمتابعة، ولا يضرّ زيادة الركن حينئذٍ، لأنّها مغتفرة في الجماعة في نحو ذلك، و إن لم يعد أثم، وصحّت صلاته، لكن الأحوط إعادتها بعد الإتمام، بل لا يترك الاحتياط إذا رفع رأسه قبل الذكر الواجب ولم يتابع مع الفرصة لها، ولو ترك المتابعة حينئذٍ سهواً، أو لزعم عدم الفرصة لا يجب الإعادة، وإن كان الرفع قبل الذكر هذا، ولو رفع رأسه عامداً لم يجز له المتابعة، وإن تابع عمداً بطلت صلاته للزيادة العمديّة، ولو تابع سهواً فكذلك. إذا كان ركوعاً أو في كلّ من السجدتين، وأمّا في السجدة الواحدة فلا.[4]
ذكر السيد اليزدي رحمه الله فروعاٌ متعددة في المسألة التاسعة، فنود أن نتوقف وقفة موجزة عند ما ذكره في المتن، ثم نتعرض للفروع المذكورة مفصلاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً، أو لزعم رفع الإمام رأسه، وجب عليه العود والمتابعة )
إذا رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً، أو رفع عمداً زاعماً أن الإمام رفع رأسه، يجب عليه أن يعود إلى الركوع، وذلك أنه يجب المتابعة كما مر بنا في المسألة الثامنة.
ثم قال : ولا يضرّ زيادة الركن حينئذٍ، لأنّها مغتفرة في الجماعة في نحو ذلك. بما أنه يجب على المأموم الذي رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام أن يعود إلى الركوع أو السجود، فيمكن أن يتوهم أحد أن هذا يستلزم منه زيادة الركن، فقال إن هذه الزيادة لا تضر، لأنها مغتفرة في الجماعة، في مثل هذا المورد، وأما الدليل عليه فنذكره مفصلاً.
ثم قال : و إن لم يعد أثم، وصحّت صلاته، من رفع رأسه قبل الإمام من الركوع أو السجود يجب عليه العود إليهما، غير أن من لم يعد أثم لكن هذا لا يضر بصحة الصلاة، لأن وجوب المتابعة وجوب تعبدي، كما ذكره الماتن في المسألة الثامنة، وكما هو اختيارنا في المقام.
ثم قال : لكن الأحوط إعادتها بعد الإتمام، وهذا الاحتياط احتياط استحبابي كما ذكرناه في المسألة السابقة.
ثم قال : ، بل لا يترك الاحتياط إذا رفع رأسه قبل الذكر الواجب ولم يتابع مع الفرصة لها، إذا رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود قبل الذكر الواجب فيهما سهوا، ثم لم يتابع مع أنه كان بإمكانه المتابعة، فمقتضى الاحتياط الوجوبي أن يتم صلاته مع الإمام، ثم يعيده بعد الإتمام.
ثم قال : ولو ترك المتابعة حينئذٍ سهواً، أو لزعم عدم الفرصة لا يجب الإعادة، وإن كان الرفع قبل الذكر هذا، في الصورة السابقة إذا ترك المأموم المتابعة سهواً، أو ترك لأنه كان يزعم أنه لا يمكن له أن يعود إلى الركوع أو السجود، لعدم الفرصة لذلك، فلا يجب عليه الإعادة، وإن كان رفع رأسه قبل الذكر الواجب.
ثم قال : ولو رفع رأسه عامداً لم يجز له المتابعة، وإن تابع عمداً بطلت صلاته للزيادة العمديّة،
إذا رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود عمدأ حيث يعرف أن الإمام ما زال في الركوع، ومع ذلك رفع رأسه، هنا لم يجز له أن يعود إلى الركوع أو السجود، وذلك أنه يؤدي إلى زيادة الركن، وهذه الزيادة ليست مغتفرة في المقام، لأنها ليست لأجل متابعة الإمام، بل إنها زيادة عمدية.
ثم قال : ولو تابع سهواً فكذلك. إذا كان ركوعاً أو في كلّ من السجدتين، وأمّا في السجدة الواحدة فلا. إذا رفع المأموم رأسه من الركوع عمداً ثم عاد إليه سهواً، كذلك تبطل صلاته، لأنه يستلزم منه زيادة الركن وزيادة الركن مبطلة للصلاة، سهواً كان أو عمداً. وكذلك تبطل صلاته إذا رفع رأسه من كلا السجدتين عمداً ثم عاد إليهما سهواً، لكن إذا رفع رأسه من سجدة واحدة عمداً، ثم عاد إليها هذا ليس مبطلاً للصلاة، لأن السجدة الواحدة ليست ركناً.
بعد الوقوف الموجز عند هذا النص اتضح لنا أن فيه فروعا متعددة، ونود أن نتوقف عند كل فرع منها مفصلا بإذن الله تعالى في الدروس القادمة.
الوقفة الأخلاقية
قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : ( أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ وَ هَانَتْ‌ عَلَيْهِ‌ نَفْسُهُ‌ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَه ).[5][6]
أشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الرواية المباركة إلى ثلاثة أمور يؤدي كل واحد منها إلى احتقار النفس والهوان والمذلة، حيث يقول عليه السلام : (أزرى بنفسه من استشعر الطمع )، الإزراء هو الاحتقار، كما ورد في اللغة، والطمع: هو توقع ما لا يستحق، فيقول أمير المؤمنين عليه السلام : من جعل الطمع شعار له احتقر نفسه، وذلك أن توقع ما يكون في أيدي الأخرين يجلب الهوان والمذلة والاحتقار، ويستلزم الخضوع والخنوع أمام الآخرين ويجر الهوان، ويسقط من يطمع عند الله تعالى وعند الناس والاستغناء عما في أيديهم يأتي بالعزة والكرامة والشرف.
ثم قال عليه السلام : ( ورضي بالذل من كشف ضره ) ما من إنسان في هذا العالم إلا وقد ابتلي بشيء ما، ولكن يختلف تعامل الناس تجاه الآلام الدنيا ومصائبها، فمنهم من يواجه هذه المعاناة بكل صبر وشجاعة واستقامة وثبات، ولا يشكو عما عليه من مصائب ومشاكل، ومنهم من يشكو من كل صغيرة وكبيرة، دائما فتراهم قد أحاط بهم الحزن والقلق، والكعابة، وهذا ما يؤدي إلى المذلة والهوان أمام الناس؛ " سمع الأحنف رجلا يقول : لم أنم الليلة من وجع ضرسي، فجعل يكثر فقال : يا هذا لم تكثر فوالله ذهبت عيني منذ ثلاث سنين فما شكوت ذلك إلى أحد و لا أعلمت بها أحدا، و هو مع ذلك يوجب تنفير النّاس و مذلَّة عندهم."[7]
ثم قال عليه السلام : (وَ هَانَتْ‌ عَلَيْهِ‌ نَفْسُهُ‌ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَه )، في هذه الفقرة من الحديث المبارك أكد الإمام عليه السلام على حفظ اللسان وصونه، ومن يتأمل في النصوص الواردة من العترة الطاهرة يرى أن ثمة روايات متعددة أكدت وحثت على حفظ اللسان من فضول الكلام، وذلك أن رب كلمة تهين الآخر، أو تؤذيه، أو تفسد المجتمع، أو تقضي على الأمن والاستقرار، أو تشعل الحرب، أو تدمر البيوت، أو تهجر الناس، أو تقتل الأبرياء، إلى آخر ما هنالك." و في الحديث أنّ لسان ابن آدم يشرف صبيحة كلّ يوم على أعضائه و يقول لهم: كيف أنتم فقالوا : بخير إن تركتنا و في شرح ابن ميثم :
احفظ لسانك --- أيّها الانسان
لا يلدغنّك ------- إنّه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب ---- لقاءه الأقران[8]


[5] نهج البلاغة، ص469.
[7] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي، ج21، ص11.
[8] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي، ج21، ص11.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo