< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
الأمر الخامس : و أمّا إذا لم يسمع حتّى الهمهمة، جاز له القراءة، بل الاستحباب قويّ، لكن الأحوط القراءة بقصد القربة المطلقة لا بنيّة الجزئيّة، وإن كان الأقوى الجواز بقصد الجزئيّة أيضاً.[1]
بحث السيد اليزدي رحمه الله في الأمر الخامس من المسألة الأولى، عن حكم القراءة من حيث الجواز بالمعنى الأعم، أو المنع كذلك، عند عدم سماع صوت الإمام، فذهب إلى جواز القراءة عند عدم صوت الإمام، ثم أضرب عن مجرد الجواز إلى استحباب القراءة، حيث قال : بل الاستحباب قوي، غير أن المأموم هل يجوز له أن يقرأ بقصد القربة المطلقة، أو أن يقرأ بقصد الجزئية، يرى السيد رحمه الله – كما هو ظاهر من كلامه – أن مقتضى الاحتياط أن يأتي بالقراءة بقصد القربة المطلقة، غير أن هذا لا يعني أنه لا يجوز له أن يقرأ بقصد الجزئية، بل الأقوى جواز القراءة، ولو كانت بقصد الجزئية.
هذا ما ذكره السيد اليزدي رحمه الله تعالى في الأمر الخامس، وبعد التأمل في أقوال الفقهاء الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، نصل إلى أن في المسألة أربعة أقوال، وهي : وجوب القراءة، أو استحبابها، أو حرمتها، أو إباحتها، بعبارة أخرى، منهم من ذهب إلى وجوب القراءة، ومنهم من رأى أنها مستحبة، ومنهم من أفتى بحرمتها حتى مع عدم سماع صوت الإمام، ومنهم من اختار الإباحة في المقام. من الأحسن أن نذكر بعض أقوال الفقهاء الكرام قدس الله تعالى أسرارهم الزكية.
قال العلامة السيد علي بن محمد الطباطبائي (1231هـ) رحمه الله في الرياض : " و قد أطبق الأكثر بل الكل- عدا الحلّي - على الجواز هنا، وإن اختلفت عبائرهم في كونه على الوجوب، كما هو ظاهر الماتن هنا؛ لقوله ولو لم يسمع قرأ لظهور الأمر فيه. أو الاستحباب كما هو صريح جمع، أو الإباحة كما هو ظاهر القاضي وغيره‌."[2] فذكر صاحب الرياض أن الكل أفتى بجواز عدا صاحب السرائر رحمه الله، غير أنهم اختلفوا في كون القراءة واجبة، أو كونها مستحبة، أو كونها مباحة.
قال صاحب الجواهر ( 1266هــ) قدس سره : " و أما إذا لم يسمع حتى الهمهمة، فتجوز في الجملة القراءة بلا خلاف أجده بين الأصحاب، بل ولا حكي عن أحد منهم عدا الحلي، مع أنه لا صراحة في عبارته في السرائر بذلك، بل ولا ظهور، ولا يبعد أنه وهم من الحاكي."[3] صرح صاحب الجواهر بأنه لا خلاف بين الفقهاء الكرام – حسب ما حققه في المقام - في جواز القراءة عند عدم سماع صوت الإمام حتى الهمهمة، ثم أشار إلى أن ما حُكِي عن صاحب السرائر ليس بصحيح، وذلك أن التأمل في عبارته في المقام يكشف عن أنه لم يصرح بذلك، وحتى لم يظهر الخلاف من كلامه، فمن حكى عنه ذلك ربما توهّمَ، ولم يدقق في عبارته. فتبين لنا مما ذكره صاحب الجواهر أن الكل اتفق على جواز القراءة حسب ما رصد أقوال الفقهاء في المسألة. ومن المعلوم أن صاحب الجواهر رضوان الله تعالى عليه، كان من المحققين وكان له يد بيضاء في معرفة أقوال العلماء والفقهاء.
قال الشهيد الأول ( 786هـ) قدس سره الشريف : " ويتحمّل الإمام القراءة في الجهريّة والسريّة، وفي التحريم أو الكراهيّة أو الاستحباب للمأموم أقوال، أشهرها الكراهيّة في السريّة والجهريّة المسموعة ولو همهمة، والاستحباب فيها لو لم يسمع."[4] فنسب الشهيد الأول استحباب القراءة في صورة عدم سماع صوت الإمام إلى الأشهر.
وقال الشهيد الثاني (966هــ) رحمه الله تعالى : " أما ترك القراءة في الجهرية المسموعة فعليه الكل، لكن على وجه الكراهة عند الأكثر، والتحريم عند بعض، للأمر بالإنصات لسامع القرآن، و أما مع عدم سماعها و إن قل فالمشهور الاستحباب في أولييها."[5] أكد الشهيد الثاني أن قراءة المأموم في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية عند عدم سماع صوت الإمام أمر مستحب، ونسب الاستحباب إلى المشهور، بخلاف الشهيد الأول حيث نسب الاستحباب إلى الأشهر. ومن الأحسن أن نشير إلى الفرق بين هذه المصطلحين الفقهيين، فالقول المشهور أقوى من القول الأشهر – وإن كان لفظ " الأشهر " يوهم خلاف ذلك – وذلك أن القول يوصف بالمشهور حينما لا يكون في مقابله إلا قول شاذ، فالمشهور يكون قريبا من الإجماع، بينما يصف القول بالأشهر حينما يكون في مقابله أقوال معتد بها.
بعد استعراض بعض أقوال الفقهاء الكرام التي أكدت على استحباب القراءة عند عدم صوت الإمام، يجدر بنا أن نشير إلى الأدلة التي أكدت وصرحت بجواز القراءة فيما إذا لم يسمع المأموم صوت الإمام حتى الهمهمة. فمن الفقهاء من حمل الجواز على الوجوب، ومنهم من حمله على الاستحباب.
أدلة القائلين بوجوب القراءة عند عدم صوت الإمام.
من الروايات التي استدل بها القائلون بوجوب القراءة صحيحة الحلبي التي أشرنا إليها في الدروس الماضية، حيث جاء فيها : مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ: ( إِذَا صَلَّيْتَ خَلْفَ إِمَامٍ تَأْتَمُّ بِهِ فَلَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَ لَمْ تَسْمَعْ فَاقْرَأ ).[6] سند الرواية لا بأس به – كما ذكرنا سابقاً- أما دلالة الرواية على الوجوب فقول الإمام ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَ لَمْ تَسْمَعْ فَاقْرَأ ) ظاهر في الوجوب، وذلك أنه قال : ( فاقرأ ) وهذا صيغة الأمر، وهي ظاهرة في الوجوب.
ومنها صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج حيث جاء فيها : وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعاً عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ:(سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ أَقْرَأُ خَلْفَهُ فَقَالَ أَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جُعِلَ إِلَيْهِ فَلَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ وَ أَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا فَإِنَّمَا أُمِرَ بِالْجَهْرِ لِيُنْصِتَ مَنْ خَلْفَهُ فَإِنْ سَمِعْتَ فَأَنْصِتْ وَ إِنْ لَمْ تَسْمَعْ فَاقْرَأْ ).[7]
سند الرواية – كما أشرنا إليه سابقاً – سند صحيح، وأما من ناحية الدلالة فقول الإمام عليه السلام : ( وإن لم تسمع فاقرأ ) ظاهر في الوجب بالتقريب نفسه الذي ذكرناه في الرواية السابقة.
ومنها صحيحة قتيبة، وهي - كما رواها صاحب الوسائل - وَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ:( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ تَرْتَضِي بِهِ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَلَمْ تَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ فَاقْرَأْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ وَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ الْهَمْهَمَةَ فَلَا تَقْرَأْ ).[8]
سند الرواية – كما مر – سند صحيح لا بأس به، وأما دلالة الرواية على وجوب القراءة، فاستدل بقول الإمام عليه السلام : ( فلم تسمع قراءته فاقرأ أنت لنفسك ) فقول الإمام ظاهر في وجوب القراءة عند عدم سماع صوت الإمام؛ وذلك أن ( فاقرأ) صيغة الأمر، وهي ظاهرة في الوجوب.
ومنها موثقة سماعة حيث جاء فيها : وَ عَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ سَمَاعَةَ فِي حَدِيثٍ قَالَ: ( سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَؤُمُّ النَّاسَ فَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَ لَا يَفْقَهُونَ‌ مَا يَقُولُ فَقَالَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَهُ فَهُوَ يُجْزِيهِ وَ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ).[9] سند الرواية – كما ترى – سند موثق لا بأس به، أما دلالة الرواية على الوجوب فقول الإمام : ( إذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه )، يدل على وجوب القراءة، بل دلالته على الوجوب آكد، وذلك أن قوله عليه السلام جاء بصيغة الفعل الماضي، ودلالة الفعل الماضي أو المضارع نحو : يعيد، آكد عل الوجوب من صيغة الأمر نفسها، وهذا ما درسناه في أصول الفقه.
فهذه كانت بعض الروايات التي استدل بها القائلون بوجوب القراءة عند عدم سماع صوت الإمام، غير من اختار استحباب القراءة، فدليله في المقام، أن هذه الأوامر أوامر عقيب الحظر، وهي لا تدل على الوجوب، بل يدل على الإباحة بعد رفع الحظر، ومنه قوله تعالى :
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ...[10] فقوله تعالى : ( باشروهن ) لا يدل على وجوب المباشرة، بل يدل على إباحتها؛ لأنه ورد هذا الأمر لرفع منع المباشرة في ليالي رمضان، وكذلك قوله تعالى : ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[11] فقوله تعالى : ( فانتشروا) لا يدل على وجوب الانتشار بعد أداء صلاة الجمعة، بل إنما يدل على رفع حظر الانتشار، وكذلك قوله : (وابتغوا).
ومن هنا فلما كانت القراءة محظورة عند سماع صوت الإمام حتى الهمهمة، جاءت هذه الأوامر لترفع المنع عند عدم سماع صوت الإمام، وبالتالي أباحت القراءة، ولما كانت القراءة تعتبر من العبادات، فحكم عليها بالاستحباب. فما ذكره السيد اليزدي في المقام قائلاً : " و أمّا إذا لم يسمع حتّى الهمهمة، جاز له القراءة، بل الاستحباب قويّ، لكن الأحوط القراءة بقصد القربة المطلقة لا بنيّة الجزئيّة، وإن كان الأقوى الجواز بقصد الجزئيّة أيضاً." صحيح، ولا إشكال فيه، والمراد من الاحتياط في قوله ( لكن الأحوط القراءة بقصد القربة الطلقة) احتياط استحبابي، وذكره رعاية للقول المخالف، غير أنه لا يجب مثل هذا الاحتياط في المقام، لأنه لا يوجد قول مخالف، حتى ما نسب إلى العلامة الحلي ( صاحب السرائر) كان غير صحيح، كما لاحظنا تصريح صاحب الجواهر بذلك.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo