< فهرست دروس

الأستاذ السید حسین الحکیم

بحث الفقه

41/09/03

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: فقه الحب والبغض / المقدمة / النقطة الثالثة في عموم الأحكام لكل الامور الاختيارية.

 

وفي ما ذكرناه كفاية لإثبات أن كل شيء له حكم ، فلا يخرج عن اطلاقه سوى ما لم يكن قابلا لتعلق الحكم به كالأمور غير الاختيارية .

وهو أمر معروف بين الأعلام ذكره الشيخ الانصاري قده في فرائده كأمر مسلم في ضمن بعض الاشكالات التي أجاب عنها ولم يشر الى أي توقف في هذا الأمر ، وذكره الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ره في تحرير المجلة بقوله : «ان من أصول الإمامية انه ما من واقعة الا وللَّه سبحانه فيها حكم وان جميع الحوادث إلى يوم القيامة قد بين صاحب الشرع أحكامها أما بالخصوص أو العموم»، وذكره أيضا السيد السيستاني دام ظله في ( لا ضرر) كمسلم من المسلمات .

الثالثة: أن الحب والبغض بطبيعته من الأمور الاختيارية، وذلك لكون مقدماته اختيارية، وهي تحصل عادة بالالتفات الى المناشئ الموجبة له والتأثر بها ومن ثم فهو مندرج تحت هذه العمومات والاطلاقات شأنه شأن عامة الامور الاخرى .

 

إن قلت: إن الأدلة الكاشفة عن شمول الاحكام التكليفية لكل شيء وإن كانت تتضمن الاطلاق أو العموم ، ولكنها منصرفة الى الأفعال الخارجية التي تصدر من الجوارح فلا تشمل الحالات النفسية مثل الحب والبغض ، والنكتة في الانصراف هي أن الحالات النفسية عادة ما تكون غير منضبطة بالإرادة ، وغير مبررة للمسؤولية العقلائية .

 

قلت: إن دعوى الانصراف غير مقبولة ليس من أجل الخلل في النكتة التي ادعيت في منشأه لأن الحالات النفسية وإن كان بعضها غير اختياري فهو كغيره من الأفعال الجوارحية غير الاختيارية خارج عن المفاد العرفي للأدلة الا أن كثيرا منها يقع تحت الاختيار لكون مقدماته اختيارية .

وكذا فإن المسؤولية العقلائية متحققة على النوايا وحالات النفس فيمدح ويثاب ذو المشاعر الطيبة و النية الحسنة، ويذم ويحرم ذو النية السيئة أو الحقد الأسود إن انكشف لهم ذلك بشكل بين ، وأما في ما لا ينكشف عادة مما من شأنه الإخفاء أو كذب الادعاء فلا يرتبون الاثار ولا يشرعون الأحكام تبعا لهذا الخلل الإثباتي في التشخيص ، كما هو دأبهم في مؤاخذة الجاهل وإن كان معذورا عقلا في جهلا .

أقول أن رد دعوى الانصراف ليس من أجل هذا الخلل في النكتة التي ادعيت لتقريبه فإن رد نكتة الانصراف برهانيا لا يصلح لرفع اليد عنه عرفا فالمناط فيه هو استظهار العرف وليس تقييم العقل لكونه حقا أو باطلا .

بل إن رد دعوى الانصراف يرجع الى كونه باطلا عرفا بحسب الوجدان العام الذي لا يقف في فهم مفاد العموم عند ما يكون من أفعال الجوارح وكفى بالوجدان مرجعا متبعا .

 

ويعاضد استظهار شمول مفاد الادلة لسائر الحالات النفسية الاختيارية في البيانات الشرعية أمور :

1- أن الشارع هو الخالق ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[1] فهو نفسه ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[2]

2_ أن ميزان التكامل في الشخصية الانسانية متقوم بواقعها الروحي والمعنوي وليس مجرد انجازها العملي فقد روي (عن النبي صلى الله عليه وآله إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى ) و بلفظ آخر (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرى ، ما نوى ). وهو مضمون موثوق بصدوره إن لم يكن مقطوعا بثبوته .

3_ أن من ضرورة التشريع الديني كون كثير من الأحكام الشرعية متعلقة بأمور لا تصدر من الجوارح من قبيل الأمر في قوله تعالى :﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾[3] ، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[4] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[5] وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾[6] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾[7] وقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾[8] ولم يكن هذا قول الله تعالى وأنبياؤه فحسب بل ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[9] ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[10] مما لا يدع مجالا لأي شبهة في أن الأحكام تتعلق بغير افعال الجوارح ، ويندرج فيه عامة الأحكام الشرعية الاعتقادية.

 

ومن المهم الالتفات الى أن عامة ما ورد في القران الكريم من نصوص تبين تعلق الاحكام بغير افعال الجوارح يصلح مانعا من تشكل أي انصراف على خلافه لما تقرر في محله وذكرناه مرارا في الفقه واصوله أن المضامين القرآنية أشبه بالقرائن الحالية المتصلة مع النصوص لكون القران الكريم يشكل المرتكز العام في الفهم الاجتماعي الاسلامي .

فكيف إذا أضفنا الى ذلك ما تعلق من الأحكام بالنية اخلاصا ورياء وسمعة واعجابا بالنفس أو العمل ، وما ورد من حرمة اليأس من روح الله، وحرمة الأمن من مكر الله ، وما ورد من وجوب حب النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، وما ورد من استحباب أو كراهة حب النساء ، وحب الأولاد، وحب الاطفال ،وما ورد من استحباب حب الاخوان ، وما ورد في حب الأبرار والفجار ، وما ورد في الانكار القلبي للمنكر ، وما ورد في التوكل والرضا والتسليم والخوف والرجاء والندم والتوبة والى آخره مما لا يحصى كثرة .

ثم برؤية أصولية للمطلب قد يمكن القول: إن دعوى الانصراف إنما تصح منهجيا إن كان مفاد الادلة العامة هو الاطلاق فقط، وأما إن كان مفاد الأدلة هو العموم فلا تسمع دعوى الانصراف على ما تحقق في محله من الاصول من كون العموم ليس بحاجة الى التمسك بإطلاق مدخوله فإن العموم يحول المطلق الذي يكون مفاده ( لا بشرط ) الى ( بشرط شيء ) من حيث الشمول لكل مصاديقه ، فتأمل جيدا .

وعليه فقد تحصل أن دعوى الانصراف لا يمكن قبولها اطلاقا.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo