< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/03/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 تلخص مِمَّا تقدم أن صحيحة الرَّاوَنْدِيّ تخصص رواية جميل بن دراج وتخرج من هذه الرواية الخبرَ المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ لكن مخالفةً بنحو القرينية، من قبيل الخبر الْخَاصّ مع الْعَامّ القرآني. وتخرج مثل هذا الخبر المخالف للكتاب (الَّذِي يمكن الجمع العرفي بينه وبين الكتاب بسهولة) عن رواية جميل الَّتِي كانت تردع عن كل خبر مخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ. هذه مهمة صحيحة الرَّاوَنْدِيّ.
 يبقى أن نرى كيفية إثبات حُجِّيَّة صحيحة الرَّاوَنْدِيّ. والجواب هو أننا نثبت حجيتها بالسيرة العقلائية القائمة عَلَىٰ العمل بخبر الثقة، كما صنعنا ذلك في رواية جميل، فنقول هنا إن السِّيرَة العقلائية القائمة عَلَىٰ العمل بخبر الثقة تشمل صحيحة الرَّاوَنْدِيّ؛ لأَن سندها تام وقد انعقد بناء العقلاء عَلَىٰ العمل بخبر الثقة والشارع لم يردع عن خصوص العمل بخبر الرَّاوَنْدِيّ؛ لأَن ما يُتصور كونه رادعا عن السِّيرَة روايةُ جميل الرادعة عن كل خبر مخالف للكتاب، ومن الواضح أن رواية جميل لا تشمل صحيحة الرَّاوَنْدِيّ؛ لأَن صحيحة الرَّاوَنْدِيّ ليست مخالفة للكتاب ورواية جميل تردع عن الخبر المخالف للكتاب؛ لأَن الكتاب الكريم لم يَدُلُّ عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الخبر المخالف للكتاب كي تكون صحيحة الرَّاوَنْدِيّ الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة الخبر المخالف للكتاب مخالفةً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ (ليس في القرآن الكريم ما يَدُلُّ عَلَىٰ أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ليس حُجَّةً). وإذا لم تكن مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ فلا تكون مشمولة لرواية جميل؛ فَإِنَّ الأخيرة قالت: >ما خالف الكتاب فدعوه<.
 إذن، فكل من رواية جميل ابن دراج وصحيحة الرَّاوَنْدِيّ حُجَّةٌ ونحن نأخذ بكلتيهما ونقيّد رواية جميل بصحيحة الرَّاوَنْدِيّ. أو قولوا: نخصص رواية جميل بصحيحة الرَّاوَنْدِيّ؛ لأَن صحيحة الرَّاوَنْدِيّ مختصة بالخبر المخالف للكتاب بنحو القرينية (والمستفاد من خبر الرَّاوَنْدِيّ) لا المخالفة بنحو التباين والعموم والخصوص من وجه، بينما رواية جميل عامة تشمل كل خبر مخالف للكتاب، فنخصص تلك بهذه، ويتحصل من ذلك كما يلي:
  1. كل خبر مخالف للكتاب إن كان بنحو يصلح للقرينية عَلَىٰ الكتاب (يمكن للعرف أن يجمع بينه وبين الكتاب بسهولة كالخبر الْخَاصّ مع الْعَامّ الْقُرآني) يكون هذا الخبر في نفسه حُجَّة (إذا لم يكن له معارض) بموجب صحيحة الرَّاوَنْدِيّ، فيقدم عَلَىٰ ظاهر القرآن الكريم الْعَامّ أو المطلق.
  2. أَمَّا إذا كان لهذا الخبر الْخَاصّ له معارض فَحِينَئِذٍ يدخلان في ما قالت صحيحة الرَّاوَنْدِيّ: >إذَا وَرَدَ عَلَيكُم حَدِيثَانِ مُختَلِفَانِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَردّوهُ، فَإن لَم تَجِدُوهُمَا في كِتَابِ اللهِ فَاعرِضُوهُمَا عَلى أخبَارِ العَامّةِ .. (- العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص118، من الباب 9 من أبواب صفات القاضي.)<، فيؤخذ بمعارضه الَّذِي يوافق الْقُرآن الْكَرِيم؛ وذلك أَيْضاً بموجب صحيحة الرَّاوَنْدِيّ.
  3. أما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص من وجه، فهذا الخبر هنا لا يكون حجة في نفسه، حتى إذا لم يكن له معارض، بموجب رواية جميل: >الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلَكة، إن عَلَىٰ كل حق حقيقةً وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه<(- العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص119، ح35 من الباب 9 من أبواب صفات القاضي.)؛ لأن رواية جميل ليست من الأخبار العلاجية بل تعالج الخبر في نفسه وتقول بسقوط الخبر في نفسه إذا كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ. وليس كما يتوهم بأن في مثل هذا الفرض (العموم والخصوص من وجه) يتعارضان في مادة الاجتماع ويتساقطان، وَإِنَّمَا الساقط هو الخبر بالخصوص دون الكتاب، بموجب رواية جميل.
 يبقى بعد ذلك نرى أن الخبر إذا كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو العموم والخصوص من وجه وسقط عن الْحُجِّيَّة هل يسقط عن الْحُجِّيَّة نهائياً، أي: ليس حُجَّة لا في مادة اجتماعه ولا في مادة افتراقه؟
 وبهذا الصدد قد يقال إننا إذا فهمنا من الظهور العرفي للدليل الدال عَلَىٰ أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ساقط عن الْحُجِّيَّة أن مخالفة الخبر لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حيثية تعليلية في الحكم بالسقوط وليست حيثية تقييدية، أي: مجرد مخالفة الخبر للكتاب يسقّط الخبر عن الْحُجِّيَّة (الحيثية التعليلية) فالنتيجة أن الخبر كله يسقط عن الْحُجِّيَّة لأَن العلة والمخالفة للكتاب موجودة. أَمَّا إذا استظهر أنها حيثية تقييدية (إذا كان الخبر مُخَالِفاً للكتاب فيسقط ما يخالف منه للكتاب عن الْحُجِّيَّة فالعرف حِينَئِذٍ يرى أن الحكم بالسقوط يختص بمورد الاجتماع ومادة الاجتماع؛ لأَن الخبر في هذه المادة يخالف الكتاب ولا يخالف الْقُرآن الْكَرِيم في مادة الافتراق، وقد جعلنا المخالفة قَيْداً وَشَرْطاً وحيثية تقييدية، وهذا القيد غير متوفر في مادة الافتراق.
 وقد يتوهم أَيْضاً أن الخبر المخالف للكتاب بنحو العموم والخصوص من وجه يسقط كله عن الْحُجِّيَّة نهائيا سَوَاء في مادة الاجتماع أو في مادة الافتراق؛ لأَن الدليل الدال عَلَىٰ الردع عن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ يَدُلُّ عَلَىٰ أن الحديث المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ ساقط، وعنوان >الحديث< عنوان وحداني يَدُلُّ عَلَىٰ كل هذا الكلام، سواء في مادة الاجتماع أم في مادة الافتراق، ولا يَدُلُّ عَلَىٰ سقوط المقدار المخالف، فيسقط هذا الحديث برمّته عن الْحُجِّيَّة.
 
 أقول:
 أَمَّا هذا التوهم الأخير فجوابه واضح كما أشار إليه الشيخ الطهراني، وهو أن عنوان >الحديث< غير موجود في رواية جميل بل ورد فيه >ما خالف كتاب الله<، ولذا ذكرنا في ما تقدم أن >ما خالف الكتاب< أعم من الأخبار والروايات ويشمل كل كاشف وأمارة ودال كما لو دل الإجماع أو السيرة أو الشهرة عَلَىٰ ما يخالف كتاب الله،
 عَلَىٰ كل حال إن رواية جميل تدل عَلَىٰ أن كل دلالة تخالف الكتاب الكريم فهي ساقطة عن الْحُجِّيَّة، وهذا الخبر الَّذِي فرضناه مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو العموم والخصوص من وجه فيه دلالة تخالف كتاب الله كما أن فيه دلالة لا تخالف كتاب الله.
 فالدلالة الَّتِي تخالف الْقُرآن الْكَرِيم وهي موجودة في هذا الخبر إِنَّمَا هي عبارة عن إطلاق الخبر في مادة الاجتماع، فالإطلاق ساقط عن الْحُجِّيَّة، أَمَّا أصل الخبر فلا دليل عَلَىٰ سقوط حجيته.
 وأَمَّا الكلام والتفصيل الَّذِي ذكرناه قبل هذا التوهم فالصحيح فيه أن الساقط عن الْحُجِّيَّة في مثل هذا الفرض إِنَّمَا هو خصوص إطلاق الخبر في مادة الاجتماع وليس أصل الخبر. أي: الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ عَلَىٰ نَحْوِ العموم والخصوص من وجه يسقط إطلاقه فقط عن الْحُجِّيَّة ولٰكِنَّهُ يبقى حُجَّة بالنسبة لمادة الاجتماع؛ لأَن >ما< الموصولة الواردة في رواية جميل: >ما خالف الكتاب فدعوه< مطلقة تشمل بإطلاقها كل أمارة تخالف كتاب الله. علماً أن هناك أمارتين في باب الروايات:
 الأولىٰ: أمارة الصدور، وهي كون الراوي ثقةً.
 الثَّانِيَة: أمارة الظهور، وهي ظهور الكلام المنقول عن الإمام ×.
 إذن، عندنا ظواهر ومنقولات كما أن لدينا نقولات. ورواية جميل تقول: >كل أمارة تخالف كتاب الله فدعوه<؛ فكأنها تقول فيما هو مقدَّر فيها: >إذا تعارض النقل والسند مع القرآن الكريم فهذا النقل يسقط، وإذا تعارض الظهور مع الْقُرآن الْكَرِيم فهذا الظهور يسقط<. يبقى أن نرى أن هذه الأمارة المخالفة للكتاب ما هي؟
 فقد يكون أصل السند والنقل مُخَالِفاً للكتاب وذلك فيما إذا كان الخبر مبايناً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ؛ فلا يصدر من المعصوم ^ ما يباين الْقُرآن الْكَرِيم.
 أَمَّا الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بنحو العموم والخصوص من وجه لا يعارض أصلُه الْقُرآنَ الْكَرِيمَ، وَإِنَّمَا ظهوره وإطلاقه لمادة الاجتماع يخالف الْقُرآن الْكَرِيم، وإذا سحبنا منه ظهوره وإطلاقه لمادة الاجتماع فلا يكون مُخَالِفاً للكتاب.
 إذن، هناك حيث أن الظهور يخالف الْقُرآن الْكَرِيم فهذا الظهور يسقط عن الْحُجِّيَّة.
 وإن شئت فقل: إن هذه الحالة (حالة تعارض إطلاق الخبر لمادة الاجتماع مع الْقُرآن الْكَرِيم) ليست أشد وأسوأ من حالة ما إذا علمنا بأن إطلاق الخبر كاذب وغير مطابق لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، فهنا يسقط إطلاق الخبر عن الْحُجِّيَّة وليس كل الخبر.
 وبعبارة أخرى: نكتة سقوط الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ عن الْحُجِّيَّة هي أن الكتاب قطعي الصدور من الله تعالى، فالخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ كالخبر الَّذِي قطعنا بكذبه وعدم مطابقته للواقع، فإن علمنا بمخالفة كله للواقع يكون كله كاذبا وإلا يكون بعضه كاذبا.
 ومن هنا ينفتح أمامنا باب لبحث آخر وهو أَنَّهُ هل نتعدى في السقوط عن الْحُجِّيَّة من الخبر المخالف للكتاب إِلَىٰ الخبر المخالف للسنة أَيْضاً؟! سواء كانت السنة نبوية أو غير نبوية، أو خصوص ما إذا كان الخبر مُخَالِفاً للسنة النبوية يسقط عن الْحُجِّيَّة أو غير النبوية.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo