< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 {خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 كان الكلام حول الاستدلال برواية جميل ابن دراج على عدم حجية الخبر الَّذِي يخالف الْقُرآن الْكَرِيم حَتَّىٰ بمثل الأخصية، وقلنا إنها رواية جامعة للنكات هي أنها ثقة وأن مفادها نفي الْحُجِّيَّة عن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ وأنها أخص من السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة؛ لأَن تلك السنة تشمل كل خبر ثقة سواء كان مُخَالِفاً لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ أم لم يكن مُخَالِفاً، بينما رواية جميل مختصة بخبر المخالف، أي: بإمكانها أن تخصص السنة القطعية؛ لأنها أخص.
 
 النكتة الرابعة:
 النكتة الرابعة في رواية جميل هي أنها آبية عن الإشكال الوارد سابقاً عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور حيث كان مفادها: >إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِّنْ كِتَابِ اللَهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وآله، وَإِلاَّ فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ<( [1] ).
 ومن جملة الإشكالات الَّتِي أوردناها هناك عليها هي أن هذه الرواية تشمل نفسها أَيْضاً؛ لأَنَّهَا تفتقد لنفسها إِلَىٰ شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله ؛ إذ ليس في الْقُرآن الْكَرِيم ولا في السنة ما يَدُلُّ عَلَىٰ ما تدل عليه رواية ابن أبي يعفور، إِلاَّ إذا قلنا بأن الآيات الناهية عن العمل بالظن واتباع غير العلم تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ فَحِينَئِذٍ تكون رواية ابن أبي يعفور لها شاهد من كتاب الله. أي: تكون موافقة لكتاب الله؛ لأَن كتاب الله ينهى عن الظَّنّ ورواية ابن أبي يعفور تنهى عن الخبر الظني الَّذِي ليس له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله. وَحِينَئِذٍ لا تكون رواية ابن أبي يعفور شاملة لنفسها.
 لكننا عرفنا فيما سبق عندما كنا نبحث عن الاستدلال بالقرآن الكريم عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ أنها لا تدل أَسَاساً عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة الظَّنّ، فرواية ابن أبي يعفور تشمل نفسها، إذا كان غيرها من الأخبار والروايات سَاقِطاً عن الْحُجِّيَّة فهي أَيْضاً ساقطة عن الْحُجِّيَّة؛ لأَنَّنَا نقطع بعدم الفرق بينها وبين غيرها، ولا توجد ميزة وخصوصية في رواية ابن أبي يعفور بحيث توجب حجيتها بالخصوص دون غيرها من الروايات والأخبار.
 كان هذا أحد الإشكالات الَّتِي أوردناها هناك عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور، وهذا الإشكال لا يرد هنا عَلَىٰ رواية جميل الَّتِي تردع عن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ، فهي لا تشمل نفسها ولا تردع عن نفسها؛ لأَنَّهَا ليست مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ. فلو كان في الْقُرآن الْكَرِيم ما يَدُلُّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ الثقة لكانت رواية جميل مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَنَّهَا تردع عن الخبر الثقة المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ (بأن يقول الْقُرآن الْكَرِيم: كل خبر ثقة حُجَّة، ورواية جميل تقول:.. فكانت رواية جميل مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حِينَئِذٍ بِالأَخَصِّيَّةِ، وكانت رواية جميل شاملة لنفسها). هذا فيما لو كان في الْقُرآن الْكَرِيم ما يَدُلُّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة وما يَدُلُّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، لكنه يأتي مفصلا إن شاء الله عند البحث عن أدلة الْحُجِّيَّة بِأَنَّهُ لا توجد في الْقُرآن الْكَرِيم ولا آية واحد تدل عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، حَتَّىٰ آية النبأ وآية النفر اللتان هما العمدة من الآيات الَّتِي استدل بها عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ سوف نرى أنهما وغيرهما من الآيات (آية الذكر وآية السؤال وآية الكتمان وآية الأذن).
 إذن، فلا يوجد في الْقُرآن الْكَرِيم ما يَدُلُّ عَلَىٰ الْحُجِّيَّة حَتَّىٰ تكون رواية جميل الدَّالَّة عَلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ وَبِالتَّالِي تكون رواية جميل شاملة لنفسها ورادعة لنفسها، فهذا الإشكال الَّذِي أوردناه عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور غير وارد عَلَىٰ رواية جميل.
 إِلاَّ أن يقال: إن رواية جميل وإن لم تكن مخالفة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بالخصوص (كما قلتم)، لٰكِنَّهَا مخالفة للسنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ ورواية جميل مخالفة لهذه السنة؛ فَإِنَّ السنة القطعية الدَّالَّة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ تقول بأن كل خبر ثقة حُجَّة، ورواية جميل تخصص تلك السنة. وَحِينَئِذٍ بِنَاءً عَلَىٰ التعدي من الْقُرآن الْكَرِيم إِلَىٰ السنة القطعية الصدور (أَيْ: إذا قلنا بأن السنة القطعية الصدور مثل الْقُرآن الْكَرِيم) نقول بسقوط الخبر المخالف للسنة القطعية عن الْحُجِّيَّة، فتكون حِينَئِذٍ خبر جميل مُخَالِفاً لنفسه؛ لأَنَّهُ مخالف للسنة القطعية، فتردع عن نفسها ويرد عليه نفس الإشكال الَّذِي أوردناه عَلَىٰ رواية ابن أبي يعفور.
 هذا فيما إذا قبلتم بأن السنة قطعية الصدور مثل الْقُرآن الْكَرِيم.
 عَلَىٰ أي حال، رواية جميل خير رواية يمكن أن يقال بشأنها إنها في مقام الردع عن كل خبر مخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بأي نحو من أنحاء المخالفة ولو بنحو الأخصية، فتكون رواية جميل مخالفة حَتَّىٰ للخبر الَّذِي يريد أن يخصص عمومات الْقُرآن الْكَرِيم أو يقيد إطلاقاتها.
 هنا قد يقال: إن كلمة >المخالفة< في نفسها لا تشمل المخالفة بنحو الأخصية بحسب الفهم العرفي.
 
 تفنيد هذا الكلام:
 لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأَنَّهُ ماذا يقصد من قولكم: >الْخَاصّ ليس مُخَالِفاً للعام وليس معارضاً للعام<؟ هل المقصود أَنَّهُ لا يوجد تناف بين الْخَاصّ والعام؟ فإن كان هذا هو المقصود فهو كلام غير وَاقِعِيّ وغير صحيح؛ فَإِنَّ من الواضح أن الْخَاصّ ينافي الْعَامّ بحسب الدَّلاَلَة والظهور. ولا شك في أن الْعَامّ والخاص متنافيان من حيث عالم الظهور والدلالة وذلك بِنَاءً عَلَىٰ ما يأتي في بحث حُجِّيَّة الظهور بأن القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور، والمخصص المنفصل مَثَلاً لا يهدم ظهور الْعَامّ في العموم.
 وإن كان المقصود هو أن التنافي والتعارض بين الْعَامّ والخاص ليس تعارضا مستحكما بحيث يوجب تساقطهما وَإِنَّمَا العرف يجمع بينهما بتقديم الْخَاصّ عَلَىٰ الْعَامّ من حيث الْحُجِّيَّة ويتمسك بـ>لا تكرم< في >فساق العلماء< ويتمسك بالعام في غير >فساق العلماء<.
 هذا صحيح، ولٰكِنَّهُ قبول لأصل التعارض بين الْخَاصّ والعام، أي: قبلتم بأنهما متنافيان لكن العرف يعالج هذا التعارض بتقديم أحدهما عَلَىٰ الآخر.
 إذن، كلمة >المخالفة< تشمل حَتَّىٰ المخالفة بنحو الأخصية، فرواية جميل: >وما خالف كتاب الله فدعوه<( [2] ) يصدق عَلَىٰ .. فتدل رواية جميل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة كل خبر مخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ حَتَّىٰ بمثل الأخصية والتقييد.
 إذن، فما هو الحل؟
 
 تحليل الشهيد الصدر:
 هنا سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & ذكر في مقام البحث عن هذا الاستدلال (برواية جميل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة كل خبر يخالف الْقُرآن الْكَرِيم ولو مخالفة بنحو القرينية) أن الأصحاب أجابوا عن هذا الاستدلال بجوابين:
 
 الجواب الأول:
 قالوا: إن المخالفة بنحو القرينية ليست مخالفة أَسَاساً.
 
 الجواب الثَّانِي:
 فلنفرض أن الْخَاصّ يصدق عليه أَنَّهُ مخالف، لكننا نعلم إجمالاً بصدور مخصِّصات ومقيدات لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ من الأئمة ^، كالآية الشريفة الواردة في أن الزوج إذا مات فالزوجة ترث {ولهن الربع مِمَّا تركتم إن لم يكن لكم ولد وإن كان لكم ولد فلهن الثمن مِمَّا تركتم} و{مِمَّا تركتم} مطلق يشمل الأرض والبناء، بينما الروايات قيدت هذا الإطلاق وقالت بأن المرأة لا ترث الأرض بل ترث البناء، ومثل هذه الموارد كثيرة. فَحِينَئِذٍ لا يمكن الاستدلال برواية جميل عَلَىٰ أن الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بِالأَخَصِّيَّةِ ليس حُجَّة، لأَن هذا العلم الإِجْمَالِيّ موجود..
 النحو الأول: إن نفس وجود هذا العلم الإِجْمَالِيّ في أذهان المتشرعة سوف يشكّل قرينة كالمتصلة بحيث تصرف عنوان المخالفة المذكورة في رواية جميل إِلَىٰ عنوان سائر أنحاء المخالفة، بحيث لا تشمل رواية جميل المخالفة بنحو الأخصية؛ لأَن المخالفة بنحو الأخصية صدرت من الأئمة ^ بالعلم الإِجْمَالِيّ.
 النحو الثَّانِي:.. لكن هذا العلم الإِجْمَالِيّ يوجب سقوط الإطلاقات والعمومات الْقُرآن الْكَرِيم عن الْحُجِّيَّة، أي: بعض العمومات الْقُرآن الْكَرِيم ليست مطابقة لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ وفيها تخصيص وتقييد. وَحِينَئِذٍ عندما نضع يدنا عَلَىٰ كل إطلاق قرآني أو عموم قرآني نحتمل أَنَّهُ ذاك الَّذِي خُصص وقُيد واقعا كما أنحتمل أَنَّهُ ليس ذاك الَّذِي خُصص وقيد، وهذا العلم الإِجْمَالِيّ يُؤَدِّي إِلَىٰ عدم إمكانية التمسك بهذا العموم أو الإطلاق، .. هنا أَيْضاً أصالة الإطلاق هنا وأصالة الإطلاق هناك وأصالة الإطلاق في الموارد الأخرى تتعارض فيما بينها. أصالة الإطلاق أو العموم في هذا المورد نضمها إِلَىٰ ذاك العلم الإِجْمَالِيّ بسقوط بعض الإطلاقات أو العمومات فينتج أن الساقط هو أصالة العموم تلك، فكل أصالة عموم تكذب أصالة عموم أخرى وهكذا يحصل تكاذب وتعارض داخلي بين هذه الأصول اللَّفْظِيَّة (أصالة العموم وأصالة الإطلاق) وتتساقط جميعاً.
 وَحِينَئِذٍ بعد سقوط الإطلاقات والعمومات عن الْحُجِّيَّة فيبقى الخبر المخالف لِلْقُرآنِ الْكَرِيمِ بمثل الأخصية عَلَىٰ حجيته.
 هذا جواب ثان ذكره الأصحاب عن هذا الاستدلال.
 لكن ما هو الموقف من هذين الجوابين؟ هل هما صحيحان أم لا؟ فذكر سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بأن تحقيق حال هذين الجوابين ومعرفة صحتهما وسقمهما متوقف عَلَىٰ فهم ما جاء في رواية جميل: >وما خالف كتاب الله<؟ فيها بدوا ثلاثة احتمالات، يختلف بعضها عن بعض من حيث النتيجة. بِنَاءً عَلَىٰ بعض هذه الاحتمالات يكون الجواب الَّذِي ذكره الأصحاب صحيحاً وبنا عَلَىٰ بعضها الآخر لا يكون جوابهم صحيحا.


[1] - العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: ج27، ص111، ط آل البيت ^.
[2] - العاملي، وسائل الشيعة: ج27، ص119، ح35 من الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo