< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/01/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 كان الكلام في الاستدلال بالطائفة الأولى من الروايات عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ وهي الطائفة الواردة بمضمون أن الخبر الَّذِي لا يُعلم بصدوره من المعصومين ليس حجةً وخبر الواحد لا يعلم بصدوره من المعصوم ×.
 قلنا إن هذا الاستدلال غير صحيح أَوَّلاً لما تقدم شرحه من أن هذه الطائفة واردة في فرض تعارض خبر الثقة مع خبر آخر للثقة، فهناك يعطى هذا المقياس بأن ما يعلم بصدوره من الخبرين المتعارضين يؤخذ به وما لا يعلم بصدوره منهما لا يؤخذ به، وليس لهذه الطائفة دلالة عَلَىٰ أن مطلق خبر الثقة لا يؤخذ به.
 وَثَانِياً: لو سلمنا بأن هذه الطائفة تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الثقة في نفسه حَتَّىٰ في غير فرض التعارض، ولكن مع ذلك نقول بأن الاستدلال بهذه الطائفة عَلَىٰ المدعى غير تام؛ وذلك لأَن هذه الطائفة كما تقدم متمثلة في خبرين واحدين، وَحِينَئِذٍ إما أن نفرض بأننا نقطع بعدم وجود ميزة في هاتين الروايتين عَلَىٰ غيرهما من الأخبار الآحاد ففي هذا الفرض يبطل الاستدلال بهما عَلَىٰ حُجِّيَّة غيرهما؛ لأَنَّنَا نقطع بأن غيرهما إذا لم يكن حجة فهما أَيْضاً ليسا بحجة حسب الفرض.
 هذا في الفرض الأول، فلا يمكن جعل الْحُجِّيَّة لهاتين الرِّوَايَتَيْنِ.
 والآن نفترض أننا نتنزل عن هذا القول ونفترض بأننا نحتمل أن فيهما ميزة وخصوصية تكون هي الموجبة لأَن تُجعل الْحُجِّيَّة لهما دون غيرهما من أخبار الآحاد، فلا يأت ذاك الإشكال الَّذِي كان يأتي في الفرض السابق (لا يلزم من حجيتهما القطع بكذب مضمونهما).
 مع ذلك نقول في هذا الفرض الثَّانِي بأن هاتين الروايتين لا يصلحان للاستدلال بهما عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة غيرهما من أخبار الآحاد؛ ذلك لأَنَّنَا حَتَّىٰ لو فرضنا أن جعل الْحُجِّيَّة لهما دون غيرهما معقول ثُبُوتاً لكن لا دليل إثباتي يدعم هذا التفكيك بينهما وبين غيرهما من أخبار الآحاد؛ وذلك لأَن هذا التفكيك إما يفترض أَنَّهُ تفكيك بحسب الدَّلاَلَة والظهور وإما يفترض أَنَّهُ تفكيك بحسب السند.
 أَمَّا التفكيك بحسب الدَّلاَلَة والظهور فبأن يُدعى أن هاتين الروايتين ليس لهما ظهورٌ في نفي حُجِّيَّةِ نفسهما، وَإِنَّمَا ظاهرتان في نفي حُجِّيَّة غيرهما من أخبار الآحاد.
 وهذا التفكيك لا وجه له ولا مبرر له ولا دليل عليه وذلك لأَن المبررات الَّتِي تبرر القول بهذا التفكيك هي أحد الأمور الثلاثة وكلها لا سبيل إليها في المقام:
 المبرر الأول الَّذِي يبرر هذا التفكيك ويصحح لنا أن نقول بأن الروايتين لا تدلان عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة نفسهما هو أن يقال بأن كل كلام أَسَاساً لا يشمل نفسَه وشمول الكلام لنفسه خلاف لظاهر الكلام، فلو أن أحدهم قال: >أخباري كاذبة< فقوله هذا ظاهر في أن كلامه هذا لا يشمل إخبارَه هذا. إذن هاتان الروايتان شمولهما لنفسهما خلاف الظاهر.
 المبرر الثَّانِي للقول بالتفكيك هو أن يقال: إن الكلام لو شمل نفسَه لزم منه المحال؛ إذ لا يُعقل حُجِّيَّة كلامٍ في إثبات عدم حُجِّيَّة نفسِه؛ لأَنَّ حُجِّيَّة كلام في عدم حُجِّيَّة نفسه لا يترتب عليها لا تنجيز ولا تعذير أَبَداً؛ فَإِنَّ الشَّارِع إِنَّمَا يجعل الْحُجِّيَّة لشيء لكي يجعله معذرا أو منجزا، فماذا يترتب عَلَىٰ جعل الْحُجِّيَّة لهذا الكلام؟ فليكن هذا الكلام حجةً وبالنتيجة أثبت أن نفسه غير حجة، إذن باتت لغواً؛ لأَن وجود الْحُجِّيَّة لهذا الكلام وعدم الْحُجِّيَّة له سواء.
 المبرر الثالث أن يقال بِأَنَّهُ أَسَاساً يستحيل أن يكون شيء ما مستلزماً لعدمه، فلو كان هذا الكلام حجة في إثبات عدم حُجِّيَّة نفسه، وما يستلزم ثبوته عدمَه محال.
 هذا التفكيك بكل هذه المبررات الثلاثة الَّتِي ذكرناها لا سبيل إليه في المقام وذلك لأَن هذه المبررات كلها فرع أن يكون هناك كلام واحد بينما يوجد في المقام كلامان:
 1- كلام صادر بحسب الفرض من المعصوم × ومفاده أن الخبر الَّذِي لا تعلمون أَنَّهُ قولنا ردّوه واتركوه (= عدم حُجِّيَّة خبر الواحد).
 2- وهناك كلام آخر صادر من الراوي (محمد بن عيسى) أو (داوود بن فرقد الفارسي) والكلام الصادر من الراوي نقل لكلام الإمام ×. إذن يوجد كلام للمعصوم × وهو أن خبر الواحد ليس بحجة، والراوي له كلام وهو أن المعصوم × قال هذا الكلام.
 وَحِينَئِذٍ الكلام الأول الدال عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ لو افترضنا أَنَّهُ يشمل الخبر الثَّانِي، فهل يعتبر هذا من شمول الكلام لنفسه أم من شمول الكلام لغيره؟ من الواضح أَنَّهُ من شمول الكلام لغيره. وهذه المبررات إِنَّمَا تأتي فيما إذا كان الكلام وَاحِداً؛ لأَن نقل الراوي لكلام المعصوم × غير كلام المعصوم، فلا مبرر ولا وجه أَصْلاً للتفكيك بين هاتين الروايتين المستدل بهما عَلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة تفكيكا في الدَّلاَلَة والظهور بأن نقول لا دلالة لهاتين الروايتين عَلَىٰ شمولهما لنفسهما.
 كما لا يَصِحُّ المبرر الثَّانِي بِأَنَّهُ لا يترتب عليه تنجيز وأثر؛ لأَن كلام المعصوم × حجة في إثبات عدم حُجِّيَّة نقل حَتَّىٰ هذا الراوي الَّذِي نقل هذه الرواية.
 وكذلك المبرر الثالث، فإن ثبوت شيء يستلزم إنكار شيء آخر.
 إذن، التفكيك بين هاتين الرِّوَايَتَيْنِ وبين غيرهما من حيث الدَّلاَلَة والظهور لا مبرر له.
 وَأَمَّا التفكيك من حيث السند فغير صحيح أَيْضاً. أي: بأن نقول بأن سند هاتين الروايتين ونقل الراوي في هاتين الرِّوَايَتَيْنِ لقول المعصوم × حجة في إثبات عدم حُجِّيَّة سائر أخبار الآحاد، لا في إسقاط حُجِّيَّة نفسه، ولٰكِنَّهُ غير صحيح لأَن الدليل عَلَىٰ حُجِّيَّة السند (وهو الدليل عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة) هل هو الآيات القرآنية والروائية؟ بأن الكتاب والسنة دلا عَلَىٰ حُجِّيَّة هاتين الرِّوَايَتَيْنِ، إذن نثبت حُجِّيَّة هاتين الرِّوَايَتَيْنِ بالكتاب والسنة ونقول بأن هذين الخبرين يسقطان حُجِّيَّة سائر أخبار الآحاد؛ لأَن تخصيص الأدلة القرآنية والروائية بهاتين الرِّوَايَتَيْنِ تخصيص بالفرد النادر، وهو غير صحيح قَطْعاً.
 إذن لا بد وأن يفترض أن الدليل عَلَىٰ حُجِّيَّة هذين الخبرين ليس عبارة عن الكتاب والسنة وَإِنَّمَا نفترض أن السيرة العقلائية قائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة نقل الواحد وإخباره، فنطبّق السيرة عَلَىٰ هذين السندين وهذين الخبرين ونقول بأن السيرة تدلنا عَلَىٰ حُجِّيَّة هذين السندين وبإثبات الْحُجِّيَّة لهما نثبت حُجِّيَّة سائر أخبار الآحاد. هذا أَيْضاً غير صحيح؛ لأَن معنى دلالة السيرة عَلَىٰ حُجِّيَّة السند هو أن السند يُثبت مضمونَه، ومضمون هذين الخبرين عبارة عن عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، فالسند حجة بموجب السيرة في إثبات المضمون والمضمون عبارة عن عدم حُجِّيَّة مطلق خبر الثقة. إذن، لاحظنا أَيْضاً أَنَّهُ لا سبيل لنا إِثْبَاتاً إِلَىٰ هذا التفكيك بين هاتين الرِّوَايَتَيْنِ وبين غيرهما من أخبار الآحاد.
 والنتيجة أنه حتى في الفرض الثاني (وهو فرض عدم القطع بالملازمة بين هاتين الرِّوَايَتَيْنِ وبين غيرهما) وإن كان جعل الْحُجِّيَّة لهما ثُبُوتاً معقولاً ولكن التفكيك إِثْبَاتاً بينهما وبين غيرهما بالقول بأنهما حجة وغيرهما ليس حجةً، هذا التفكيك لا سبيل إليه إِثْبَاتاً، لا بحسب الدَّلاَلَة والظهور ولا بحسب السند.
 هذا هو الجواب الثَّانِي من الأجوبة عن هذا الاستدلال بهذه الطائفة عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ.
 الجواب الثالث: هو أننا حَتَّىٰ لو غضضنا النظر عن الجواب الأول (وسلمنا بأن هذه الطائفة من الأخبار تدل عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ في نفسه) وغضضنا النظر عن الجواب الثَّانِي (وقلنا بأن من المعقول ثُبُوتاً التفكيك بين هاتين الرِّوَايَتَيْنِ وبين غيرهما من أخبار الآحاد، وغضضنا النظر عن الجانب الإثباتي أَيْضاً وقبلنا بدلالة السيرة عَلَيه) مع ذلك نقول لا تَتُِمّ دلالة هاتين الرِّوَايَتَيْنِ عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، وذلك لأَنَّهُ حَتَّىٰ لو قلنا بوجود دليل عَلَىٰ حُجِّيَّة هاتين الرِّوَايَتَيْنِ فهذا الدليل لا يكون إِلاَّ عبارة عن السيرة كما لاحظنا قبل قليل، والسيرة إِنَّمَا تدل عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الثقة، بينما هاتان الروايتان لا هما متواترتان كي يحصل لنا العلم والقطع بمضمونهما، ولا هما من خَبَر الْوَاحِدِ الثقة كي يشملهما دليل الْحُجِّيَّة، بل هما ضعيفتا السند، وتوضيح ضعف السند في هاتين الرِّوَايَتَيْنِ:
 أَمَّا الرواية الأولى (مكاتبة محمد بن علي بن عيسى مع الإمام العسكري ×) نقلها ابن إدريس في السرائر عن كتاب >مسائل الرجال< عن محمد بن أحمد بن محمد بن زياد وموسى بن محمد بن علي بن عيسى عن محمد بن علي بن عيسى.
 أَوَّلاً: أن الوسائط بين ابن إدريس وبين كتاب >مسائل الرجال< غير معلوم.
 وَثَانِياً لا نعلم صاحب كتاب >مسائل الرجال<.
 وثالثاً أن محمد بن أحمد بن أحمد بن زياد لم نجد توثيقاً بشأنه.
 رابعاً لم نجد توثيقاً لابنه محمد بن علي بن عيسى.
 فيبقى محمد بن علي بن عيسى صاحب المكاتبة وهو كل ما ورد بشأنه قول النجاشي: >كان وجهاً بقم وأميراً بها مِنْ قِبَلِ السلطان< وهذا لا يُعَدُّ توثيقاً مِنْ قِبَلِ الشخص، وهذا لا يَدُلُّ عَلَىٰ الوثاقة.
 إذن، الرواية الأولى ضعيفة السند.
 أَمَّا الرواية الثانية الَّتِي هي عبارة عن ما رواه محمد بن عيسى بشأن مكاتبة داوود بن فرقد الفارسي مع الإمام الهادي ×، وهذه الرواية موجودة في كتاب بصائر الدرجات وقد نقلها السيد البروجردي( [1] )، وكذلك المحدث النوري( [2] ) ولا إشكال في أن نسخة بصائر الدرجات الموجودة اليوم بأيدينا وكذلك النسخة الَّتِي كانت موجودة في زمان المحدث النوري ليستا حجةً؛ لأَن من الواضح أن لا سند إِلَىٰ هاتين النسختين.
 يبقى أن المجلسي أَيْضاً روى هذه الرواية في البحار نقلاً الصفار في كتابه بصائر الدرجات( [3] ) عن محمد بن عيسى، إِلاَّ أن الشأن في ثبوت كتاب بصائر الدرجات في زمان المجلسي، بل حَتَّىٰ قبله أَيْضاً؛ لأَن كُلاًّ من النجاشي & والشيخ الطوسي & رويا هذا الكتاب، فقد رواه النجاشي بسندين والشيخ بثلاثة أسانيد وكل هذه لا تنفعنا للأسف، كما سوف نوضّح ذلك غداً إن شاء الله تعالى. أعدّه وقرره وصفّه ونمّقه العبد الشيخ محسن بن الشيخ قاسم الطهراني عفى الله عنهما بحق محمد وآله الطاهرين.


[1] - البروجردي، جامع أحاديث الشيعة: ج1، ص459.
[2] - النوري، مستدرك وسائل الشيعة: ج3، ب9 من صفات القاضي، ح10.
[3] - المجلسي، بحار الأنوار: ج2، ص241، ب29 من كتاب العلم، ح33.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo