< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/11/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: خبر الواحد/ وسائل الإثبات التعبدي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 فإن قيل: نعم، ظهور النهي في المولوية بالمعنى الثاني، وإن كان لا يمنع من حمل النهي في الآية الشريفة على الإرشاد إلى ما قُلتم، لكنَّه لا يمنع من حمله على الإرشاد إلى عدم حجيّة الظَّنّ شرعاً، فلماذا لا نحمل النهي على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة؟!
 قلنا: إنَّ ذيل الآية المباركة قرينةٌ على أنَّ النهيِ ليس لبيان عدم الْحُجِّيَّة، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}( [1] )؛ فإنَّ هذا تَعْلِيل لذاك النهي، وقد جعله علّةَ النهي عن اتباع غير العلم عبارة عن >المسؤولية<، وهذا معناه أنَّ هناك في المرتبة السابقة على النهي (وهي مرتبة علّة النهي) مسؤولية، ومقتضى فرض >المسؤولية< في المرتبة السابقة على النهي هو كون النهي إرشاداً إلى ما ذكرناه والذي يستقل العقل به من عدم جواز الاعتماد في العمل وأداء >المسؤولية< على غير العلم، ولذا وقع النهي في الآية المباركة في طول >المسؤولية<، وأصبحت المسؤوليةُ هي الْعِلَّة له، ولو كان النهي لبيان عدم الْحُجِّيَّة شرعاً لكانت المسؤولية في طول النهي لا العكس، بينما الوارد في الآية هو العكس، وبيان أنَّ السمع والبصر والفؤاد حيث أنَّه مسؤول عنه، فلذا لا يصّح الاعتماد في العمل الَّذِي يكون هو الجواب الصَّحِيح على هذه المسؤولية على غير العلم، بل لا بدّ من أن يكون رأس الخيط الَّذِي يتمسّك به الإنسان في أداء واجبه عبارة عن العلم، وهذا هو الَّذِي يحكم به العقل أيضاً، فيكون النهي إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي. وهذا بخلاف ما لو كان النهي إرشاداً إلى عدم حجيّة غير العلم لدى الشارع، فإنَّه حينئذٍ كان ينبغي أن تكون الآية على العكس مّما هي عليه الآن، وأن تكون بصيغة تُبيّن أنَّ مسؤولية الإنسان على السمع والبصر والفؤاد معلومة لعدم حجيّة غير العلم، بأن يُقال: إنَّ السمع والبصر والفؤاد مسؤول عنه؛ لأنَّ غير العلم ليس حُجَّة شرعاً، وهذا واضح.
 ومن خلال ما ذكرناه يظهر وجه النظر في ما ذكره السيّد الهاشمي (حفظه الله) في هامش تقريراته حيث قال:
 فُسِّر القفو في الآية بالبهتان والقذف والكلام خلف الشخص، ولعلّه يناسب التَّعْلِيل بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}( [2] )، فيكون أجنبياً في محل الكلام. ولو حُمِلَ على الاتّباع فالمعنى حينئذٍ: >لا تذهب وراء غير المعلوم ولا تّتبعه<، وهذا إرشاد إلى عدم حجيّته لا محالة؛ لأنَّ الإتّباع أضيف إلى ما لا علم به لا إلى عدم العلم نفسه.
 هذا مضافاً إلى أنَّ حمل الخطاب المولوي على الإرشاد إلى حكم العقل خلاف ظهوره في المولوية، بخلاف ما لو كان إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة شرعاً.
 اللّهم إِلاَّ أن يُجعل سياق الاختصام والاستنكار قرينة على الإرشاد إلى الحكم( [3] ).
 أقول: أمّا ما ذكره من تفسير القفو بالبهتان والقذف والكلام خلف الشخص، فلا شك في أنَّه تفسير للكلمة بخلاف معناها الْحَقِيقِيِّ والظاهرِ منها وهو >الإتّباع<، فلا مبرّر لحمل الكلمة عليه ما لم يرد هذا التفسير في رواية معتبرة عن المعصوم ×؛ فإنَّ قول هذا المفسِّر أو ذاك ليس حُجَّةً، بل الْحُجَّة حينئذٍ عبارة عن ظهور اللفظ، كما هو واضح.
 وأمّا التَّعْلِيل فهو كما يُناسب هذا المعنى يُناسب أيضاً المعنى الَّذِي ذكرناه كما عرفت آنفاً.
 وأمّا ما ذكره من أنَّه لو حمل على >الاتّباع< يكون المعنى: لا تتبع غير المعلوم؛ باعتبار أنَّ الإتّباع أُضيف إلى ما لا علم به (ولابّد من أن يكون مقصوده >حفظه الله< من الإضافة التعلّق، أيْ: أنَّ متعلق الاتّباع ومفعوله غير معلوم، وليس متّعلق الاتّباع نفس عدم العلم، حيث لم يقل: >لا تقفُ عدم العلم<)، وحينئذٍ يكون النهي من اتّباع غير المعلوم إرشاداً إلى عدم حجيّته لا محالة.
 فيرد عليه، أنَّ متعلق الاتّباع وإن كان عبارة عن غير المعلوم إِلاَّ أنَّ هذا لا يساوق كون النهي إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة، بل ينسجم مع ما قلناه من كون النهي إرشاداً إلى حكم العقل بأنَّ رأس الخيط والسند المباشر يجب أن يكون هو العلم؛ وذلك لأنَّ النهي في الآية الشريفة نهيٌ عن اتّباع ما ليس للإنسان أيُّ علمٍ به أصلاً، لا علمٌ بمطابقته للواقع ولا علمٌ بحجيّته.
 فالمنهي عنه هو اتّباع ما لا نعلم بمطابقته للواقع ولا نعلم بحجيّته؛ فإنَّ هذا هو مقتضى إِطْلاَق {ما ليس لكَ به علم}، فيكون النهي إرشاداً إلى ما قلناه.
 فكأنَّ السيّد الهاشمي >حفظه الله< حمل قوله: {ما ليس لك به علم} على خصوص ما لا علم بمطابقته للواقع، فيكون النهي حينئذٍ إرشاداً إلى عدم حجيّة ما لا نعلم بمطابقته للواقع، مع أنَّ هذا الحمل لا وجهَ له ولا مبرّرَ، بعد كون كلمة >علم< مطلقةً في الآية ولا مقيِّد لها، فما لا يوجد لدينا أيُّ علمٍ به أصلاً (لا علم بمطابقته للواقع ولا علم بحجيّته) يكون هو المنهي عن اتّباعه، فلا يشمل خبرَ الواحد الَّذِي قام الدليلُ القطعي على حجيّته حسب الفرض؛ لأنَّه وإن كان مّما لا علم لنا بمطابقته للواقع إِلاَّ أنَّه ليس مّما لا يوجد لدينا أيُّ علمٍ به، بل نعلم بحجّيّتِهِ، فهو ينتهي إلى العلمِ، فلا يصدق عليه أنَّه لا علم لنا به أصلاً، فاتّباعه ليس اتّباعاً لغير المعلوم بقول مطلق، بل هو اتّباع لما نعلم بحجيّته، فيكون دليل الْحُجِّيَّة وارداً على الآية لا معارضاً (كما هو الحال في ما إذا حملنا النهي في الآية على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة) كما هو واضح.
 فإن قيل: إنَّ إِطْلاَق >ما< يشمل كلَّ غيرِ معلومٍ سواءً كان مفاده ومضمونه غير معلوم المطابقة للواقع أم كانت حجيّته غير معلومة، وبشموله للأول يشمل خبرَ الواحد؛ لأنَّه لا يعلم مطابقة مفاده ومضمونه للواقع، ومن الواضح حينئذٍ أنَّ النهي عن اتّباعه إرشادٌ إلى عدم حجيّة.
 قلت: إنَّ >ما< من الموصولات والمبهَمات والمعرِّف لها عبارة عن الصلةِ، وهي في الآية عبارة عن قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وكلمة {عِلْمٌ} نكرة في سياق النفي، فتفيد العمومَ، فالنتيجة هي أنَّ المنهي عن اتّباعه ليس كلَّ غير معلوم، بل خصوص ما لا يوجد أيُّ علم به لا بمفاده ومضمونه ولا بحجيّته، فلا يشمل خبرَ الواحد الَّذِي نعلم بحجيّته، بل يكون الدليل القطعي القائم على حجيّته وارداً على الآية كما عرفت.
 وأمّا ما ذكره أخيراً من أنَّ حمل الخطاب المولوي على الإرشاد إلى حكم العقل خلاف ظهوره في المولوية، بخلاف حمله على الإرشاد إلى عدم الْحُجِّيَّة شرعاً، فقد عرفتَ الجواب عليه قبل قليلٍ، حيث ذكرنا معنيين لظهور الأوامر والنواهي في المولوية، والظاهر من عبارته - حفظه الله - بل صريحها هو أنَّه يقصد المعنى الثاني؛ لأنَّ المعنى الأوّل يتنافى حتّى مع ما استظهره هو - حفظه الله - من كون النهيِ إرشاداً إلى عدم الْحُجِّيَّة، وحينئذٍ إذا كان مقصوده المعنى الثاني، فقد عرفتَ عدم منافاته لكون النهي إرشاداً إلى ما قلناه من حكم العقل مستقّلاً بأنَّه لا بُدَّ من أن يكون السند المباشر للعبد في عمله وأداء مسؤوليته تجاه مولاه ومعذوريته عنده هو >العلم<؛ فإنَّ إرشادَ المولى عبدَه إلى هذا الحكم العقلي إرشادٌ له إلى الالتزام بما تقتضيه مولويةُ المولى، فيكون هذا الإرشاد من شؤون المولى، ويكون الخطاب المتضمّن لهذا الإرشاد خطاباً مولوياً بمعنى كونه خطاباً منه تعالى للعباد بما هو مولى لهم نظير إرشاد المولى عبده في قوله: {أطيعوا الله} إلى الحكم العقلي القائل بوجوب طاعته، وإرشاده إيّاه في قوله مثلاً: >لا تعص الله< إلى الحكم العقلي القائل بقبح معصيته؛ فإنَّ الأمر بطاعته وكذلك النهي عن معصيته بالرغم من أنَّه إرشاد إلى حكم عقلي، فإنَّه مع ذلك لا يتنافى مع مولوية الخطاب وظهور الأمر والنهي في المولوية بالمعنى الثاني؛ لأنَّه إرشاد إلى الالتزام بما تقتضيه مولوية المولى، فيكون من شؤونه ويكون الخطاب المتضمّن له خطاباً مولوياً (أيْ: خطاباً منه تعالى للعباد بما هو مولىً لهم)، وكذلك الأمر فيما نحن فيه كما عرفت.
 إذن، فحمل الخطاب على الإرشاد إلى الحكم العقلي في أمثال هذه الموارد ليس خلاف ظهور الخطاب في المولوية، كما هو واضح.
 وأمّا ما استدركه - حفظه الله - في آخر كلامه بقوله: >اللهم إِلاَّ أن يُجعل سياق الاختصام والاستنكار قرينة على الإرشاد إلى حكم العقل<، فلم نعرف وجهه؛ وهذا ما تجده في كمبيوتر الشيخ محسن الطهراني عفي عنه.


[1] - سورة النجم (53): الآية 11.
[2] - سورة النجم (53): الآية 11.
[3] - الهاشمي، بحوث في علم الأصول: ج4، ص339.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo