< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/27

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: حُجِّيَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 وَأَمَّا المبنى الثَّالِث: وهو مبنى كشف الإجماع كشفاً قَطْعِيّاً عَلَىٰ أساس حكم العقل النَّظَرِيّ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أو عَنِ الدَّلِيلِ والحجة الظَّاهِرِيَّة التَّعَبُّدِيَّة المعتبرة عَلَىٰ الحكم الشَّرْعِيّ فهو المبنى الصَّحِيح.
 وتوضيح ذلك: أن للاستدلال بالإجماع عَلَىٰ أساس العقل النَّظَرِيّ وجهين:
 الأَوَّل: الاِسْتِدْلاِل به ابتداءً عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
 الثَّانِي: الاِسْتِدْلاِل به عَلَىٰ أن معقده إن لم يكن حكماً واقعياً فلا أقلّ من ثبوت حجة تعبدية معتبرة عليه. ونتيجة التردد بين هذين الأمرين هي ثبوت الحكم تَعَبُّداً؛ لأَنَّ النَّتِيجَة تابعة لأخس المقدمات.
 فأما الوجه الأَوَّل القائل بكشف الإجماع عن واقع الحكم عَلَىٰ أساس العقل النَّظَرِيّ فهو إِنَّمَا يَتُِمّ عند تَمَامِيَّة فرضين:
 الأَوَّل: أن نعلم (ولو بتصريح المُجمعين) أن مصبّ الإجماع ومعقده هو واقع الحكم، لا جامع الوظيفة الملائم لواقع الحكم ولثبوت الحجة التَّعَبُّدِيَّة عليه.
 الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الحكم المجمع عليه بنحو لو كان الواقع خلافه لشاع ذلك الواقع وذاع، لتوفّر الدواعي إلى ذلك، وقد مرّ علينا (فِي بحث السِّيرَة) توضيح هذه الفكرة.
 ومثال ذلك مسألة خُمس أرباح المكاسب، فهي مسألة عَامَّة الابتلاء عند الشيعة، ووجوب الخُمس فِي أرباح المكاسب مؤونة زائدة عليهم وعلى خلاف الطبع، وتتوفر الدواعي إلى التفتيش والسؤال عن ذلك، وعلى فرض كون الجواب الصَّحِيح هو النفي فداعي الإجابة عَلَىٰ السؤال بشكل واضح وعلني موجود لدى الإمام ×؛ لأَنَّ الحكم لَيْسَ خلاف التقية، بل هو عَلَىٰ وفق مذاق الْعَامَّة وعلى طبق الظروف الخارجية الَّتِي كان الإمام × مبتلى بها. إضافة إلى أن ارتباط الشيعة فِي دفع الخمس إِنَّمَا كان بالإمام × أو وكلائه عَلَىٰ مَا يَقْتَضِيهِ طبع هذا الحكم؛ فَإِنَّ وجوب الخمس لَيْسَ حاله حال وجوب قراءة السورة فِي الصَّلاَة مثلاً الَّذِي هو عمل فردي للمصلي يقوم به منفرداً دون أن يتطلّب احتكاماً بالإمام × أو وكلائه، وَإِنَّمَا معنى وجوب الخُمس هو وجوب إعطائه للإمام عليه السلام أو وكلائه، وقد ثبت بِالتَّوَاتُرِ الإجمالي أَنَّهُ كان للإمام × وكلاء فِي البلاد الَّتِي كانت تسكن فيها الشيعة، فمع كُلّ هذا يكون اختفاء حكم ذلك عَلَىٰ الشيعة مستبعداً جِدّاً.
 فهذه كُلّهَا أمارات دالة عَلَىٰ أَنَّهُ لو كان الحكم الْوَاقِعِيِّ هو عدم وجوب الخمس فِي أرباح المكاسب لَشَاع ذلك ولم يعقل وقوع الإجماع من الشيعة عَلَىٰ الوجوب، فهذا الإجماع فِي مثل هذا المورد (بالرغم من عدم اعتمادنا فِي موارد أخرى عَلَىٰ الإجماع الَّذِي تُحتمل مدركيته أو يظن بها) يكون دَلِيلاً قَطْعِيّاً عَلَىٰ الحكم، بل لا حاجة فِي مثل هذا المورد إلى الإجماع، وتكفينا الشهرة، فلا يضرنا نقل الخلاف من ابن أبي عقيل أو شخص آخر فِي خمس أرباح المكاسب إن صحَّ ذلك.
 وَأَمَّا الوجه الثَّانِي القائل بكشف الإجماع (عَلَىٰ أساس العقل النَّظَرِيّ) عن صِحَّة متعلقه ومعقده، سَوَاء كان عبارة عن واقع الحكم، أم كان عبارة عن جامع الوظيفة المناسب أَيْضاً لغرض قيام الحجة عَلَىٰ الحكم؛ فقد ذكر الأصحاب (كما فِي الكفاية وغيرها) أن الإجماع يكشف عن صِحَّة معقده فيما لو تمّت بينهما (أي: بين >الإجماع< و>صِحَّة المعقد<) ملازمة عَقْلِيَّة أو عادية أو اتفاقية.
 ومَثَّلوا للملازمة الْعَقْلِيَّة بالملازمة بين >التَّوَاتُر< و>الصِّدْق<، فهناك ملازمة عَقْلِيَّة بين كون الخبر متواتراً وبين كونه صحيحاً وصادقاً.
 وَمَثَّلُوا للملازمة العادية بين >اتفاق المرؤوسين< و>رأي رئيسهم< حيث أَنَّهُ عَادَةً لا يصدر اتفاق المرؤوسين عَلَىٰ شيء إلا عن رأي رئيسهم، فهناك ملازمة عادية بين رأيهم ورأيه، وإن كان لا يستحيل الانفكاك عقلاً بين رأيهم ورأيه.
 وأيضاً مَثَّلُوا للملازمة العادية بالملازمة بين >طول العمر< و>الهرم والشيخوخة<، فهناك ملازمة عادية بين طول العمر والشيخوخة، وإن كان لا يستحيل الانفكاك عَقْلاً بينهما؛ إذ قد يفرض عَقْلاً أن تتأخر الشيخوخة والهرم مهما طال العمر كما هي عقيدتنا بشأن الإمام الغائب صاحب العصر الحجة بن الحسن - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه و#.
 وَمَثَّلُوا للملازمة الاتفاقية بالملازمة بين >الاستفاضة< و>الصِّدْق< فهناك ملازمة اتفاقية بين كون الخبر مستفيضاً لم يبلغ حَدّ التَّوَاتُر وبين كونه صحيحاً وصادقاً، وإن كان يمكن الانفكاك عقلاً وعادةً بينهما.
 هذا هو التقسيم الثُّلاثي الَّذِي ذكره الأصوليون للملازمة.
 وبنا عَلَىٰ الملازمة الاتفاقية بين >الإجماع< و>صِحَّة معقده< فهو لا يكشف عن صِحَّة معقده دَائِماً خِلاَفاً لما إذا بنينا عَلَىٰ الملازمة الْعَقْلِيَّة أو العادية بينهما، بل يكشف عنها أحياناً، كما هو الحال فِي الاستفاضة الَّتِي لا تكشف دَائِماً عن صِحَّة الخبر وصدقه، بل قد تورث القطع بالصحة وقد لا تورث ذلك عَلَىٰ اختلاف الموارد والخصوصيات.
 والتحقيق هو أن التقسيم الثلاثي المذكور لا يصح بلحاظ نفس الملازمة وحقيقتها؛ فَإِنَّ الملازمة فِي الحقيقة دَائِماً عَقْلِيَّة؛ لأَنَّهَا قائمة دائماً عَلَىٰ أساس الْعِلِّيَّة والمعلولية، وهي عَقْلِيَّة لا محالة، والحكم بملازمة شيء يعني الحكم باستحالة انفكاكه عنه والَّذِي من شأنه أن يصدر هذا الحكم إِنَّمَا هو العقل؛ فَإِنَّ الاستحالة والإمكان مِمَّا لا يدرك إلا بالعقل دَائِماً، وَإِنَّمَا التقسيم المذكور يصح بلحاظ الملحوظ؛ لأَنَّ الملزوم:
 تارةً يكون عبارة عن ذات الشيء بلا قيد أو شرط ومهما كانت ظروفه وأحواله، كالنار الَّتِي تستلزم الحرارة مُطْلَقاً؛ فالعقل هنا يحكم باستحالة الانفكاك مُطْلَقاً، وَحِينَئِذٍ فالملازمة بين النَّار والحرارة نسميها بالملازمة الْعَقْلِيَّة. ومثال آخر لذلك: الملازمة بين وجود الجسم فِي مكان وبين عدمه فِي مكان آخر؛ فَإِنَّ الملزوم عبارة عن ذات وجود الجسم فِي مكانٍ، أو قل: الملازمة واقعة بين ذات الوجود فِي مكانٍ والعدم فِي مكان آخر.
 وأخرى: يكون الملزوم عبارة عن الشيء المنوط والمشروط بشروط وخصوصياتٍ وظروف لا ذات الشيء، أو قل: إن استلزامه لِلشَّيْءِ الآخر مشروط بشروط. وَعِنْدَئِذٍ:
 تارةً يفترض أن تلك الشروط والظروف والخصوصيات مقترنة مع الملزوم ومتواجدة فيه فِي عالَمنا دَائِماً أو غالباً، كدوام العمر مائة سنة الَّذِي يستلزم الهرم والشيخوخة، فالعقل هنا يحكم باستحالة الانفكاك ضمن تلك الظروف، وَحِينَئِذٍ فالملازمة نسمّيها بالملازمة العادية وهي فِي الحقيقة ليست بين ذات >دوام العمر مائة سنة< و>الهرم<، وَإِنَّمَا هي بين >دوام العمر مائة سنة ضمن خصوصيات معينة< وبين >الهرم<، وبرفع تلك المقارنات فِي الآخرة تختفي الملازمة بين العمر والهرم، كما هو الحال فِي الدنيا أَيْضاً حينما يتفق انتفاء تلك المقارنات كما اتفق بِالنِّسْبَةِ لمولانا صاحب العصر #.
 وأخرى: يفترض أن تلك الشروط والظروف ليست مقترنة مع الملزوم ومتواجدة فيه دَائِماً ولا غالباً بل قد تقترن به ويتفق وجودها فيه، كالتعايش فِي البلاد الحارة الَّذِي يستلزم الابتلاء بمرض السِّلِّ مثلاً، فالعقل هنا يحكم باستحالة الانفكاك ضمن تلك الظروف الاتفاقية وَحِينَئِذٍ فالملازمة نسمّيها بالملازمة الاتفاقية.
 إذن، فما ينبغي أن يقصد بالتقسيم الثلاثي المذكور لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ عبارة عن التقسيم بلحاظ مصب الملازمة لا ذاتها.
 فإذا اتضح ذلك قلنا إِنَّهُ لا ملازمة أصلاً (لا فِي باب التَّوَاتُر ولا فِي باب الاستفاضة ولا فِي باب اتفاق المرؤوسين عَلَىٰ رأي ولا فِي باب الإجماع) بأيّ نحو من الأنحاء الثَّلاَثة المذكورة للملازمة، وليس حصول العلم من إجماع العلماء بصحة المجمع عليه، أو من تواتر الخبر أو استفاضته بصحة المخبَر به، أو من اتفاق المرؤوسين عَلَىٰ رأيٍ برأي رئيسهم قَائِماً عَلَىٰ أساس الملازمة الْعَقْلِيَّة ولا العادية ولا الاتفاقية.
 وقد وضّحنا هذا المطلب بما لا مزيد عليه فِي أجلى أمثلة هذه الملازمة المدّعاة وهو عبارة عن الملازمة بين >التَّوَاتُر< و>ثبوت الْقَضِيَّة المتواترة< وذلك فِي بحث التَّوَاتُر المتقدم، حيث قلنا: إِنَّهُ لا ملازمة أصلاً بأيّ نحو من الأنحاء بين هذين، فَالتَّوَاتُرُ (فضلا عن الإجماع وغيره من الأمثلة) لا يورث القطع واليقين عَلَىٰ أساس الملازمة الْعَقْلِيَّة، وهذا لا يُنافي علمنا وقطعنا بِالْقَضِيَّةِ القائلة >كُلّ قَضِيَّة ثبت تواترها فهي ثابتة< أو علمنا بِالْقَضِيَّةِ القائلة >كُلّ قَضِيَّة قام عليها الإجماع فهي ثابتة< أو غيرهما من الأمثلة؛ وَذَلِكَ لأَنَّ العلم بأن المحمول لا ينفك عن الْمَوْضُوع شيء، والعلم بأن المحمول لا يمكن أن ينفك عن الْمَوْضُوع شيء آخر، والملازمة إِنَّمَا هي عبارة عن الثَّانِي، بينما ما نعلمه إِنَّمَا هو الأَوَّل؛ وذلك عَلَىٰ أساس تراكم الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة وزوال الاِحْتِمَال المخالف نتيجة ضَآلته، لا نتيجة قيام البرهان عَلَىٰ امتناع محتَمله عَقْلاً.
 فتواتر الأَخْبَار مثلاً بموت زيد وإن كان يورث القطع واليقين بموته، ولكن لَيْسَ ذلك عَلَىٰ أساس الملازمة بين إخبار هؤلاء وبين موت زيد؛ وَذَلِكَ لأَنَّ خبر كُلّ واحد من هؤلاء وحده نحتمل عدم اقترانه بالصدق، ولم ندرك ملازمة عَقْلِيَّة بينه وبين موت زيد. إذن، فـ>كُلّ واحد من الأَخْبَار< نحتمل أَنْ يَكُونَ ناشئاً من مناشئ أخرى غير ثبوت الموت واقعاً، أي: نحتمل نشوءه من مناشئ هي محفوظة حتَّى مع كذب الْقَضِيَّة و>الفرد المردّد من الأَخْبَار< لا وجود له، و>جميع الأَخْبَار< لَيْسَ إِلاَّ عبارة عن نفس تلك الأَخْبَار، ولم نُدرك بعقولنا تمانعاً وتنافياً بين كذب البعض وكذب البعض الآخر حتَّى يصبح المجموع ملازماً للصدق، وعنوان >اجتماع آلاف الأكاذيب< لَيْسَ إِلاَّ أَمْراً انتزاعياً يُنتزع من نفس جميع هذه الأَخْبَار الكاذبة، فليس فيه محذور آخر غير محذور الجميع، وقد شرح ذلك بكل تفصيل سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه >الأُسَس المنطقية للاستقراء< وقدّمنا جانباً من التوضيح له فِي بحث التَّوَاتُر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo