< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/06/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِي حصول اليقين/الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 والصحيح أَنَّهُ يكفي فِي التَّوَاتُر مع الواسطة نقل واحد عن واحد ولا يشترط فيه حصول التَّوَاتُر فِي كُلّ حلقة وطبقة، وهذا إِنَّمَا يَتُِمّ بناءً عَلَىٰ مسلكنا فِي كاشفية التَّوَاتُر ومنطقنا فِي فهم التَّوَاتُر، ولا يَتُِمّ بناءً عَلَىٰ المنطق المتعارف فِي فهم التَّوَاتُر؛ لأَنَّ ميزان الْكَاشِفِيَّة عَلَىٰ مبنانا هو حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاِحْتِمَالِيَّة لِكُلّّ خبر خبرٍ عَلَىٰ مركز واحد وتعاضدها فيما بينها وتضاؤل احتمال الكذب والخطأ فِي الجميع بِالضَّرْبِ إلى أن يحصل العلم واليقين بسبب ذوبان الاِحْتِمَال الضَّئِيل فِي النفس.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا لا يتوقف عَلَىٰ ما قالوه من التَّوَاتُر فِي كُلّ حلقة وطبقة، بل يتحقق حتَّى مع نقل واحد عن واحد؛ فإننا نبدأ بعملية تجميع القرائن والقيم الاِحْتِمَالِيَّة (عَلَىٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَال) من القيم الاِحْتِمَالِيَّة للخبر غير المباشر، فنلحظ القيمة الاِحْتِمَاليّةَ للقضية الَّتِي يُخبر شخص عن وجود مخبِر بها، ونجمعها مع قيم احتمالية مماثلة حتَّى يحصل الإحراز الوجداني؛ ففي المثال نأخذ كُلّ خبر واحد ينقل حديث الغدير بواسطة أو بوسائط ونضيف قيمته الاِحْتِمَالِيَّة إلى الخبر الآخر الَّذِي ينقل أَيْضاً الحديث بواسطة أو بوسائط وهكذا تتعاضد القيم الاِحْتِمَالِيَّة ويتضاءل احتمال كذب الجميع أو خطئهم بسبب الضرب إلى أن يحصل العلم وَالْيَقِينُ بصدور الحديث من النَّبِيّ نتيجةَ ذوبان الاحتمال الضَّئِيل فِي النفس.
 فلو فرضنا مثلاً أننا فِي عصر الطبقة الثَّالثة (أي: تابعي التابعين) وسمعنا التابعين يروون عن الصحابة عن النَّبِيّ حديثَ الغدير وافترضنا أن النَّاقِل عن كُلّ صحابي إِنَّمَا هو تابعي واحد ولم تتواتر شهادة كُلّ صحابي، فهنا يوجد لدينا عدد من الشهادات، كُلّ واحدة منها شهادة مركّبة، يعني أن كُلّ تابعي يشهد لنا بشهادة صحابي بصدور الحديث من النَّبِيّ ، فنأخذ واحدةً من هذه الشهادات (كشهادة تابعي بشهادة عمر بصدور الحديث من النَّبِيّ ) ونلحظ قيمتها الاِحْتِمَالِيَّة، ونأخذ شهادةً أخرى من هذه الشهادات (كشهادة تابعي آخر بشهادة ابن مسعود بصدور الحديث نم النَّبِيّ ) ونلحظ قيمتها الاِحْتِمَالِيَّة ونضيفها إلى القيمة الاِحْتِمَالِيَّة للشهادة الأولى، ونأخذ شهادة ثالثة من هذه الشهادات (كشهادة تابعي ثالث بشهادة جابر بصدور الحديث من النَّبِيّ ) ونلحظ قيمتَها الاِحْتِمَاليَّةَ لصدور الحديث من النَّبِيّ ويتضاءل احتمال كذب الجميع وخطئهم بسبب ضرب قيمة احتمال كذب كُلّ واحد أو خطئه فِي قيمة احتمال كذب الآخر أو خطئه، إلى أن يحصل العلم واليقين بِالصُّدُورِ وذلك نتيجةَ ذوبان الاحتمال الضَّئِيل فِي النفس.
 إن هذا الطريق صحيح وتام لحصول التَّوَاتُر مع الواسطة بلا حاجة إلى حصول التَّوَاتُر فِي كُلّ حلقة وطبقة، وذلك عَلَىٰ مبنانا المتقدّم فِي حَقِيقَة التَّوَاتُر الَّذِي يربط كاشفية التَّوَاتُر بحساب الاحتمالات وتجميع القيم الاِحْتِمَالِيَّة لِكُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر.
 غير أن هذا الطريق يكلّفنا فِي التَّوَاتُر غير المباشر ومع الواسطة افتراض عدد من الشهادات غير المباشرة أكبر من العدد الَّذِي نحتاج إليه فِي التَّوَاتُر المباشر وبلا واسطة من الشهادات المباشرة؛ لأَنَّ مفردات الجمع فِي الشهادات غير المباشرة أصغر وأضعف قيمةً منها فِي الشهادات المباشرة.
 وبعبارة أخرى: القيمة الاِحْتِمَالِيَّة للخبر مع الواسطة أضعف من القيمة الاِحْتِمَالِيَّة للخبر بلا واسطة.
 والنكتة فِي الأَضْعَفِيَّة هي أن الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لِكُلّ خبر مع الواسطة ودرجة كَاشِفِيَّته عن صدور الحديث عن الْمَعْصُوم × إِنَّمَا تُحسب من خلال ضرب قيمة احتمال صدق المخبر الأَوَّل فِي قيمة احتمال صدق المخبر الثَّانِي، وبالضرب تنزل قيمة الاحتمال، ففي فرضنا السابق عندما نأخذ كُلّ واحدة من الشهادات المركّبة (أي: شهادة هذا التابعي ونقله عن هذا الصحابي صدور الحديث النبوي الشريف ) ونريد أن نلحظ الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لهذه الشهادة غير المباشرة وهذا الخبر مع الواسطة، ونريد أن نعرف درجة كَاشِفِيَّته عن صدور الحديث النبوي لاَ بُدَّ لنا من أن نضرب قيمة احتمال صدق التابعي فِي قيمة احتمال صدق الصحابي، فلو فرضنا بِمُقْتَضَىٰ الأصل الأوّلي أن قيمة احتمال صدق التابعي خمسون بالمائة (أي: ).
 فعلى تقدير صدقه وكون الصحابي قد نقل له حَقّاً حديث الغدير يأتي دور نقل الصحابي، وأنه هل كان صادقاً فِي النقل وأن الحديث صادر حَقّاً من النَّبِيّ ؟
 فهنا أَيْضاً احتمال صدق الصحابي نفرضه خمسين بالمائة (أي: ) بِمُقْتَضَىٰ الأصل، وَحِينَئِذٍ لكي نعرف قيمة احتمال صدور الحديث النبوي لاَ بُدَّ لنا من أن نضرب فِي لكي نعرف قيمة احتمال صدقها معاً، فتكون قيمة احتمال صدور الحديث النبوي عبارة ناتج ضرب فِي وهو عبارة عن (أي: خمسة وعشرون بالمائة)؛ فنحن لو كنّا قد سمعنا الحديث من الصحابي مباشرةً لكانت قيمة احتمال صدوره خمسين بالمائة، لكننا سمعناه من التابعي عن الصحابي، إذن تكون قيمة احتمال صدوره خمسة وعشرين بالمائة.
 وبعبارة ساذجة: عند ما يروي لنا التابعي عن الصحابي حديث الغدير يتشكل لدينا علم إجمالي ذو أطراف محصورة عقلاً فِي أربعة:
 1)- فإما أن التابعي والصحابي كليهما صادقان.
 2)- وَإِمَّا أنهما كاذبان أو خاطئان.
 3)- وَإِمَّا أن التابعي كاذب أو خاطئ.
 4)- وَإِمَّا أن الصحابي كاذب أو خاطئ، فاحتمال صدقهما معاً هو احتمال واحد من أربعة احتمالات ، ونحن نتعامل مع هذا الخبر الَّذِي يرويه لنا التابعي عن الصحابي عن النَّبِيّ بلحاظ كَاشِفِيَّته عن آخر السلسلة، أي: عن الحديث النبوي الشريف لا بلحاظ كَاشِفِيَّته عن قول الصحابي، فنعطيه رقماً وهو (كَمَا عَرَفْتَ)، ثُمَّ نضيف إليه رقم خبر تابعي آخر عن صحابي آخر وهو أَيْضاً ونضيف إلهما رقم تابعي ثالث عن صحابي ثالث وهو أَيْضاً وهكذا..
 ثُمَّ نجمع هذه الاحتمالات الرُّبعية الَّتِي هي كثيرة إلى أن يحصل لنا بحساب الاحتمالات اليقين بِالْقَضِيَّةِ المنقولة عن النَّبِيّ .
 إذن، فَالْقِيمَةُ الاِحْتِمَالِيَّةُ لِكُلّ واحد من هذه الأَخْبَار غير المباشرة بمعنى درجة كَاشِفِيَّته عن صدور الحديث أقل وأضعف من الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لِكُلّ واحد من الأَخْبَار المباشرة.
 وبعبارة أخرى الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لصدور حديث يُخبر شخص بوجود مخبِر به أضعف من الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّةِ لصدور حديث يخبر شخص به، وقد عرفت السر والنكتة فِي الأَضْعَفِيَّة، ولأجل هذه الأَضْعَفِيَّة يكون حصول اليقين هنا فِي التَّوَاتُر مع الواسطة بحاجة إلى مقدار أكثر من المفردات وعدد أكبر من الروايات؛ لأَنَّ الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لرواية تابعي عن صحابي هي نصف الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة لرواية صحابي عن النَّبِيّ (كَمَا عَرَفْتَ)، فَلَئِن كانت تلك تمثّل الكسر ؛ فهذه تمثل الكسر، فمفردات التَّوَاتُر مع الواسطة ذات قيمة احتمالية أضعف من مفردات التَّوَاتُر المباشر، وَبِالتَّالِي فحصول العلم واليقين هنا أبطأ منه هناك؛ لأَنَّ حصول العلم إِنَّمَا هو نتيجة تجمّع القيم الاِحْتِمَالِيَّة، فإذا كانت كُلّ واحدة من القيم الاِحْتِمَالِيَّة ضعيفة فَسَوْفَ يبطئ حصول اليقين كما هو واضح.
 وهذا هو الشيء الَّذِي لم يقدر المنطق الأرسطي الوصول إليه نظرياً؛ لأَنَّهُ عَلَىٰ مبناه يربط كاشفية التَّوَاتُر بقضية عَقْلِيَّة ضرورية قبل التَّجْرُبَة وحساب الاحتمالات، وهي أن العدد الفلاني (ولنفرضه عدد مائة) يمتنع عَقْلاً اجتماعه وتواطؤه عَلَىٰ الكذب.
 ومن الواضح أَنَّهُ بناءً عَلَىٰ هذا المبنى لو أخبر ألف تابعي عن ألف صحابي بحديث الغدير مثلاً؛ فَإِنَّهُ مع ذلك لا يحصل التَّوَاتُر؛ لأَنَّهُ لو كان كُلّ هؤلاء التابعين كاذبين لا يلزم من ذلك اجتماعهم وتواطؤهم عَلَىٰ الكذب كي يقال: إن ذلك مستحيل، وَبِالتَّالِي فليس كلهم كاذبين. إذن، فيحصل التَّوَاتُر المفيد للعلم، والسر فِي عدم لزوم اجتماعهم عَلَىٰ الكذب هو أن كُلّ واحد منهم ينقل واقعةً غير ما ينقله الآخر؛ فهذا ينقل أن عمر أخبر بالحديث، والثاني ينقل أن ابن مسعود أخبر بالحديث، والثالث ينقل أن جابراً أخبر بالحديث وهكذا..، فلم يجتمعوا عَلَىٰ كذب واحد.
 وعليه، فلو فرضنا أن العدد الَّذِي يحصل به التَّوَاتُر وهو الَّذِي يقول المنطق الأرسطي باستحالة اجتماعه عَلَىٰ الكذب عبارة عن مائة، وفرضنا أن مائة تابعي نقل عن مائة صحابي حديث الغدير؛ فَإِنَّهُ مع ذلك لا يحصل التَّوَاتُر؛ لما قلناه من أن كُلّ واحد من هؤلاء التابعين ينقل غير ما ينقله الآخر، وَحِينَئِذٍ فمن المحتمل كذب نصف هؤلاء التابعين مثلاً ونصف أولئك الصحابة.
 وبالتلفيق بين كذب الفئتين نكون قد افترضنا كذب مائة شخص مِنْ دُونِ أن نكون ناقضين لقانون الاستحالة المذكور، ومن دون أن يلزم من ذلك محذور اجتماع مائة شخص عَلَىٰ قَضِيَّة واحدة كاذبة كي يقال إِنَّهُ مستحيل.
 إذن، فتصوير الأصحاب للتواتر مع الواسطة وإن كان صحيحاً لٰكِنَّهُ خيالي كما قلنا، وهذا بخلاف تصويرنا له؛ فَإِنَّهُ صحيح عَلَىٰ مبنانا وواقعي، وأكثر ما ينقل وتثبت لدينا من تواترات فِي الخارج إِنَّمَا تستعمل فيه الطريقة الثَّانية الَّتِي ذكرناها (وَالَّتِي هي عبارة عن نقل واحد عن واحد)؛ لا الطريقة الأولى الَّتِي ذكرها الأصحاب.
 هذا تمام الْكَلاَم فِي الجهة الثَّالثة من جهات البحث عن الخبر المتواتر.
 
 الجهة الرَّابِعَة: أقسام التَّوَاتُر
 أَمَّا الجهة الرابعة: ففي أقسام التَّوَاتُر، وقد قسّموه إلى ثلاثة أقسام:
 الأَوَّل: التَّوَاتُر اللَّفْظِيّ.
 الثَّانِي: التَّوَاتُر المعنوي.
 الثَّالِث: التَّوَاتُر الإجمالي.
 وسوف يتضح الحال فِي هذا التقسيم ممّا سنذكره قَرِيباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَى - فنقول:
 قد اتضح لنا مِمَّا سبق أن أساس حصول العلم فِي باب التَّوَاتُر هو تراكم احتمالات الصِّدْق وتعاضدها فيما بينها إلى أن تنقلب إلى القطع، وضعف احتمال كذب المجموع نتيجة ضرب قيمة احتمال كذب كُلّ واحد فِي قيمة احتمال كذب الآخر، مِمَّا يؤدي إلى ضآلة احتمال كذب الخبر، هذا بالإضافة إلى الضعف الناشئ من فريضة تماثل الصدف؛ فَإِنَّ ضعف احتمال كذب الخبر ومخالفته للواقع ينشأ من أمرين:
 الأَوَّل: ما نسمّيه بالمضعِّف الكمّي، وهو عبارة عن >الكثرة العددية< للأخبار؛ فَإِنَّ هذه الكثرة الَّتِي هي جوهر التَّوَاتُر (كَمَا عَرَفْتَ) تؤدّي إلى تكثّر ضرب قيمة احتمال كذب كُلّ خبر فِي قيمة احتمال كذب الخبر الآخر، فإذا كان عدد الأَخْبَار مائة، فهذا معناه أَنَّهُ لاَ بُدَّ لنا (لكي نعرف قيمة احتمال كذب الخبر ومخالفته للواقع) من أن نحصل عَلَىٰ قيمة احتمال كذب جميع الأَخْبَار المائة، ولا طريق للحصول عَلَىٰ قيمة احتمال كذب المجموع غير ضرب الْقِيمَة الاِحْتِمَالِيَّة للكذب بعضها فِي بعض، بأن نضرب قيمة احتمال كذب الخبر الأَوَّل فِي قيمة احتمال كذب الخبر الثَّانِي، ثُمَّ فِي قيمة احتمال كذب الخبر الثَّالِث، ثُمَّ فِي قيمة احتمال كذب الخبر الرَّابِع وهكذا إلى تمام المائة.
 وهذا يعني تكرّر الضرب تسعاً وتسعين مرةً، فإذا كانت قيمة احتمال كذب كُلّ خبر فِي نفسه عبارة عن خمسين بالمائة (أي: ) وذلك كما إذا كان المخبرون أناساً اعتياديين مثلاً، فَسَوْفَ يتكرّر ضرب فِي تسعاً وتسعين مَرَّةً. ومن الواضح أَنَّهُ كلما ازداد تكرّر ضرب الكسر ازداد ضآلةً وضعفاً.
 وإذا كانت قيمة احتمال كذب كُلّ خبر فِي نفسه أقل من، وذلك كما إذا كان المخبرون أناساً ثقاتٍ (عَلَىٰ ما عرفته فِي الجهة الثَّانية من جهات البحث من تأثير العوامل الموضوعية كالوثاقة فِي حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وحصول اليقين) فَسَوْفَ يتكرّر أَيْضاً ضرب هذا الكسر الضَّئِيل من قبيل تسعاً وتسعين مَرَّةً، وتكون نتيجة ضرب هذه الكسور الضئيلة أصغر من نتيجة ضرب تلك الكسور الكبيرة فِي الفرض الأَوَّل.
 إذن، فالمضعِّف الكمّي هو التكثّر العددي للأخبار، مع النَّظَر إلى أصل قيمة احتمال كذب كُلّ خبر فِي نفسه، فكلّما كان العدد أكثر وكان احتمال الكذب منذ البدء أضعف، كان الوصول إلى العلم بتراكم الأَخْبَار أسرع، نتيجةَ شدّة ضآلة احتمال كذب الخبر ومخالفته للواقع.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo