< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: حَقِيقَة التواتر / وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 أَمَّا الشكل الأَوَّل فهو يتجه إلى إثبات علاقة السَّبَبِيَّة والعلية بين >أ< و>ب< فِي المورد الَّذِي نعلم فيه بأن >أ< موجودةٌ مع عدد كبير من الباءات، ولكن نَشُكُّ فِي علاقة السَّبَبِيَّة بين ماهية >أ< وماهية >ب<، فيراد إثبات سَبَبِيَّةِ >أ< لـ>ب< بالتجربة والاستقراء.
 وَمِثَالُهُ مَا إِذَا أردنا إثبات عِلِّيَّة حبة >الأسبرين<( [1] ) لرفع الصداع والشفاء منه من خلال التَّجْرُبَة وَالاِسْتِقْرَاء وذلك بأن نقوم بعدّة تجارب عَلَىٰ عِدَّة مرضى مصابين بالصداع، فنعطي كُلّ واحد منهم حبة >الأسبرين< فيرتفع الصداع فِي كُلّ مَرَّة، فحبة >الأسبرين< موجودة فِي كُلّ مَرَّة لا شَكّ فيها، والشفاء من الصداع أَيْضاً موجود فِي كُلّ مَرَّة بلا شَكّ، إِنَّمَا الشَّكّ فِي علاقة السَّبَبِيَّة بين الأَوَّل والثاني، فنرمز إلى الأَوَّل بـ>أ< وإلى الثَّانِي بـ>ب< فنقول: إن عِلِّيَّة >أ< لـ>ب< قَضِيَّة محتملة منذ البداية وقبل التَّجْرُبَة بدرجة خمسين بالمائة مثلاً (ولو من باب المصادرة)، وهي وإن كانت تنحلّ إلى قضايا عديدة بعدد أقراص الأسبرين الَّتِي أعطيت للمرضى فِي مجموع المرّات، فهناك عِلِّيَّات محتملة عديدة بعدد الأقراص والمرات، إِلاَّ أَن هذه العليات المحتملة متلازمة فيما بينها ثُبُوتاً وعدماً، بِمَعْنَى أَنَّهُ حينما تكون طبيعة >الأسبرين< عِلَّة للشفاء من الصداع فَسَوْفَ تكون هذه العلية (الَّتِي هي من خواص هذه الماهية) سارية فِي تمام الأقراص وثابتة فِي تمام المرات.
 فهذه الاحتمالات (احتمالات العلية فِي مجموع المرات) احتمالات متلازمة، فإما كُلّهَا صادقة وثابتة واقعاً وَإِمَّا كُلّهَا كاذبة وغير ثابتة فِي الواقع، وفي مثل ذلك تكون القيمة الاحتمالية لِلْعِلِّيَّةِ فِي مجموع الْمَرَّاتِ مساوية لِلْقِيمَةِ الاِحْتِمَالِيَّةِ لِلْعِلِّيَّةِ فِي كُلّ مَرَّةٍ ولا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال كُلّ واحد منها، فنحن هنا كَأَنَّنَا بإزاءِ قَضِيَّة واحدة؛ لأَنَّ التلازم بين الْقَضَايَا الاِحْتِمَالِيَّةِ يجعلها فِي قوة قَضِيَّة واحدة بحيث لا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال أيّ واحدة من مفردات هذه القضايا.
 وَحِينَئِذٍ فلنفرض كما تَقَدَّمَ أن الاحتمال القبلي الأَوَّلِيّ لِعِلِّيَّةِ >أ< لـ>ب< فِي الْمَرَّة الأولى خمسون بالمائة، أي: النصف (وَطَبْعاً تحديد الاحتمالات القبلية أمر له حسابات وقواعد شرحها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه >الأسس المنطقية للاستقراء< لا مجال للدخول فيها هنا ولا حاجة إلى ذلك فِعْلاً) فَحِينَئِذٍ احتمال أَنْ تَكُونَ تمام الأقراص فِي مجموع الْمَرَّاتِ عللاً احتمال لا ينقص عن النصف للملازمة بين الْعِلِّيَّات كما قلنا؛ فنحن أمام قَضِيَّة واحدة بحسب الحقيقة احتمالها هو النصف وهي عِلِّيَّة >أ< لـ>ب<.
 وَأَمَّا لو لم تكن هذه الْعِلِّيَّة ثابتة (أي: احتمال عِلِّيَّة شيء آخر غير >أ<) فَلاَ بُدَّ من أن نفترض ولو من باب الصدفة أن المريض الأَوَّل كان قد شرب فِي ذلك الوقت إلى جانب تناول القرص لبناً مخصوصاً كان هو العلة للشفاء من الصداع، ونفترض أَيْضاً أن المريض الثَّانِي قد نام نوماً مريحاً إلى جانب تناول القرص بحيث كان هذا النوم هو عِلَّة شفائه من الصداع، وهكذا الثَّالِث والرابع، فهنا نواجه بديلا ونسمي هذا الْبَدِيل بالعلة الأخرى.
 إذن، فاحتمال عِلِّيَّة البدلي نفترضه النصف الآخر من رقم اليقين الَّذِي ينقسم بالتساوي عَلَىٰ الاحتمالات، إِلاَّ أَن من الواضح هنا أن افتراض العلة الأخرى فِي الْمَرَّة الأولى لَيْسَ ملازماً لافتراضها فِي الْمَرَّة الثَّانية (أَيْ: أَن هذه القضايا غير متلازمة)؛ فكون المريض الأَوَّل قد شرب لبناً مخصوصاً غير ملازم مع كون المريض الثَّانِي قد نام نوماً مريحاً، وهكذا.
 وَحَيْثُ أَنَّ هذه القضايا المحتملة (أي: قَضِيَّة عِلِّيَّة غير >أ< فِي الْمَرَّة الأولى، وقضية عِلِّيَّة غير >أ< فِي الْمَرَّة الثَّانية< وهكذا) غير متلازمة؛ لعدم وجود أمر مشترك بينها معلوم غير حبة الأسبرين، إذن فنحن هنا نواجه قضايا عديدة لا قَضِيَّة واحدة، بينما فِي الفرض الأَوَّل كنّا نواجه قَضِيَّة واحدة مكرّرة (كَمَا عَرَفْتَ)، حيث أن احتمال عِلِّيَّة >أ< فِي كُلّ من الْمَرَّة الأولى والثانية مثلاً احتمالان متلازمان مترابطان كما قلنا، أَمَّا احتمال عِلِّيَّة غير >أ< فِي كُلّ من المرتين فليسا متلازمين لعدم وجود أمر معلوم مشترك بين المرّتين غير >أ<.
 فلو افترضنا أننا أعطينا لِكُلّ قَضِيَّة مشكوكة من هذه القضايا المحتملة (أي: عِلِّيَّة غير >أ< فِي كُلّ مَرَّة) درجة خمسين بالمائة (أي: النصف) فَسَوْفَ يصير احتمال وجود العلة الأخرى غير >أ< فِي الْمَرَّة الأولى هو النصف، واحتمال وجود العلة الأخرى غير >أ< فِي الْمَرَّة الثَّانية هو النصف، لكن احتمال وجود العلة الأخرى غير >أ< فِي كلتا المرتين يكون أقل وأضعف من النصف؛ لأَنَّ الاحتمالين غير متلازمين. إذن، احتمال المجموع هنا أضعف من احتمال كُلّ واحدة بمفردها، كما أن احتمال وجود العلة الأخرى فِي مجموع العشرين مَرَّة مثلاً يكون فِي غاية الضعف؛ لأَنَّ هذا يُنتج بحسب الحقيقة عن ضرب الاحتمال الأَوَّل فِي الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِث ثُمَّ فِي الرَّابِع وهكذا، والكسور كلما ضربنا بعضها فِي بعض تضاءلت؛ فالضرب يؤدي إلى ضعف احتمال وجود عِلَّة أخرى غير >أ< فِي مجموع الْمَرَّات، وبقدر ما يضعف هذا الاحتمال يقوى احتمال المقابل له، وهو احتمال عِلِّيَّة >أ<؛ لأَنَّ المسألة دائرة بين هذين الاحتمالين.
 وقد كشف سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء< نكتة هذا التوازن والتقابل الرياضي بين هذين الاحتمالين وسرّه المنطقي، حيث بيّن أن منشأ الاحتمال بحسب الحقيقة هو العلم الإجمالي ذو الأطراف المحصورة عَقْلاً؛ فكل >احتمال< مرتبط بـ>علم إجمالي< وليد له، وهنا الأمر كذلك؛ فَإِنَّهُ إذا افترضنا أننا أعطينا حبة الأسبرين لشخصين مصابين بالصداع، فشُفي كلاهما من الصداع، فهنا نقول: إن احتمال عِلِّيَّة الأسبرين للشفاء من الصداع كان قبل هاتين التجربتين خمسين بالمائة (النصف) من رقم اليقين، وَأَمَّا بعدهما فيكبر ويزيد عن النصف، وما يقابله من الاحتمال يصغر ويتضاءل.
 وتحليله هو أَنَّهُ هنا يوجد علم إجمالي ذو أطراف محصورة عَقْلاً، وهو العلم بأن العلة الأخرى المحتملة (غير الأسبرين) الَّتِي كان احتمالها قبل التجربتين أَيْضاً خمسين بالمائة (النصف) يدور الأمر فيها عَقْلاً بين احتمالات أربعة لا خامس لها، فهي إما موجودة فِي كلتا التجربتين (تجربة إعطاء الأسبرين للشخص الأَوَّل، وتجربة إعطاء الأسبرين للشخص الثَّانِي)، وَإِمَّا هي معدومة فِي كلتيهما، وَإِمَّا هي موجودة فِي التَّجْرُبَة الأولى (حين إعطاء الأسبرين للشخص الأَوَّل) دون التَّجْرُبَة الثَّانية، وَإِمَّا بالعكس، وهذا حصر علي دائر بين النفي والإثبات.
 وَحِينَئِذٍ فهذا العلم الإجمالي الَّذِي له أطراف أربعة يتوزّع عَلَىٰ أربعة احتمالات، وإذا قصرنا النَّظَر عَلَىٰ هذا العلم الإجمالي فقط، فقيمة كُلّ احتمال من هذه الاحتمالات الأربعة عن رُبع العلم، حيث أن رقم اليقين والعلم أيّاً كان ينقسم عَلَىٰ أطرافه بالتساوي، فكل احتمال من هذه الأربعة يكون احتمالاً لربع العلم، فإذا فرضنا أن رقم اليقين والعلم الإجمالي المذكور هو >1<، فقيمة كُلّ واحد من هذه الاحتمالات الأربعة عبارة عن الربع ، وهنا نرى أن الاحتمال الثَّانِي من هذه الاِحْتِمَالاَت (وهو عدم وجود العلة الأخرى فِي كلتا التجربتين) يُثْبِتُ بمقدار قوّته وقيمته الاِحْتِمَالِيَّةِ (وهي عبارة عن الرُّبع) أن حبة الأسبرين هي العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض أن الصداع كان مَوْجُوداً فِي كلتا التجربتين، وأن حبة الأسبرين أُعطيت فِي كلتا التجربتين، وأن الشفاء من الصداع قد حصل فِي كلتا التجربتين وأن شَيْئاً آخر يحتمل أَنْ يَكُونَ هو العلة للشفاء غير موجود فِي كلتا التجربتين، إذن فَلاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ قرص الأسبرين هو العلة.
 وَأَمَّا الاحتمال الثَّالِث (وهو وجود العلة الأخرى فِي التَّجْرُبَة الأولى فقط دون الثَّانية) فهو أَيْضاً يُثْبِتُ (بمقدار قيمته وقوته الاِحْتِمَالِيَّة وهي الرُّبع) أن حبة الأسبرين هي العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض هو أن الشفاء من الصداع قد حصل فِي التَّجْرُبَة الثَّانية أَيْضاً؛ بينما المفروض أن العلة الأخرى غير موجودة فِي التَّجْرُبَة الثَّانية، فَلاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ القرص هو العلة وَإلاَّ لما حصل الشفاء فِي التَّجْرُبَة الثَّانية كما هو واضح.
 وكذلك الاحتمال الرَّابِع (وهو وجود العلة الأخرى فِي التَّجْرُبَة الثَّانية فقط دون الأولى)؛ فَإِنَّهُ أَيْضاً يُثْبِتُ بمقدار قوّته وقيمته الاِحْتِمَالِيَّة (وهي الرُّبع) أن حبَّ الأسبرين هي العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض هو أن الشفاء قد حصل فِي التَّجْرُبَة الأولى أَيْضاً، بينما العلة الأخرى غير موجودة فِي التَّجْرُبَة الأولى، فَلاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونَ القرص هو العلة وَإلاَّ لما حصل الشفاء فِي التَّجْرُبَة الأُولَى كما هو واضح.
 إذن، فالاحتمالات الثَّلاَثة الأخيرة كُلّهَا فِي صالح عِلِّيَّة حبة الأسبرين، فثلاثة أرباع العلم الإجمالي تُثْبِتُ أن القرص هو عِلَّة الشفاء، فقيمة احتمال عليّته مساوية لثلاثة أرباع.
 يبقى الاحتمال الأَوَّل (وهو وجود العلة الأخرى فِي كلتا التجربتين): وهو احتمال حيادي ولا بشرط تجاه عِلِّيَّة قرص الأسبرين للشفاء وعدم عليته؛ فهو لا يثبت هذه الْعِلِّيَّة ولا ينفيها؛ إذ كما أن الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي كلتا التجربتين بناءً عَلَىٰ هذا الاحتمال، كذلك حبة الأسبرين أَيْضاً موجودة فِي كلتا التجربتين كما هو المفروض؛ فلعلّ القرص لَيْسَ هو الْعِلَّة للشفاء، وَإِنَّمَا الشفاء ناتج عن الْعِلَّة الأخرى، ولعل القرص عِلَّة لكن مع عِلَّة أخرى؛ إذ لعله قد وجدت علتان للشفاء، وهذا معناه أن نصف القوّة والقيمة الاِحْتِمَالِيَّة الثَّابِتَة للاحتمال الأَوَّل (وَالَّتِي كانت عبارة عن الرُّبع) سوف يكون لصالح عِلِّيَّة حبة الأسبرين، والنصف الآخر يكون لصالح عِلِّيَّة شيء آخر.
 وعليه، فثلاثة أرباع العلم الإجمالي ونصف الرُّبع تُثْبِتُ عِلِّيَّةَ حَبَّةِ الأسبرين، ونصف الرُّبع (أي: الثُّمن ) يُثْبِتُ عِلِّيَّة شيء آخر.
 وبعبارة أخرى: قيمة احتمال عِلِّيَّة الأسبرين للشفاء من الصداع عبارة عن، بينما قيمة احتمال عِلِّيَّة شيء آخر عبارة عن ؛ فقبل التجربتين كانت قيمة احتمال عِلِّيَّة الأسبرين عبارة عن النصف (أي: أربعة أثمان ) ولكن بعد التجربتين صعدت إلى ثلاثة أربع ونصف الرُّبع (أي: سبعة أثمان ) بقانون العلم الإجمالي.
 هذا فِي تجربتين فقط كما لاحظنا، وكلما كثرت التجارب ازدادت النِّسْبَة وتَرقَّت أكثر، فَمَثَلاً لو افترضنا أننا جرّبنا ثلاث مَرَّاتٍ، بأن أعطينا حبة الأسبرين لثلاثة أشخاص مصابين بِالصُّدَاعِ وشُفوا من صداعهم، فَسَوْفَ تصعد النِّسْبَة أكثر حِينَئِذٍ بقانون العلم الإجمالي؛ لأَنَّ العلم الإجمالي فِي الفرض السابق (أي: فِي فرض وجود تجربتين) كانت أطرافه أربعة، وَأَمَّا فِي هذا الفرض (فرض وجود ثلاث تجارب) فَسَوْفَ تكون أطرافه ثمانية؛ لأَنَّهُ عَلَىٰ جميع التقادير والاحتمالات الأربعة السابقة إما أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الأخرى فِي التَّجْرُبَة الثَّالثة موجودة، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غير موجودة، فتصير الأطراف ثمانية (ويتوزع رقم اليقين عَلَىٰ هذه الأطراف فتكون قيمة كُلّ واحد منها الثُّمن)، وهذه الثمانية سبعة منها تكون فِي صالح عِلِّيَّةِ حبة الأسبرين للشفاء وتُثبت هذه الْعِلِّيَّة وهي:
 1)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التجربتين الأوليين فقط.
 2)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التَّجْرُبَة الأولى والثالثة فقط.
 3)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التَّجْرُبَة الأولى فقط.
 4)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التَّجْرُبَة الثَّانية والثالثة فقط.
 5)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التَّجْرُبَة الثَّانية فقط.
 6)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى معدومة فِي التجارب الثلاث كُلّهَا.
 7)- أَنْ تَكُونَ الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي التَّجْرُبَتين الأوليين فقط.
 ذَلِكَ لأَنَّ كُلّ واحد من هذه الاحتمالات السبعة يتضمّن عدم وجود الْعِلَّة الأخرى إما فِي بعض التجارب الثلاث أو فِي كُلّهَا، رغم أن الشفاء من الصداع حاصل فِي كُلّ التجارب حسب الفرض، فهذا يبرهن عَلَىٰ عِلِّيَّة حبّة الأسبرين للشفاء.
 إذن، فسبعة أثمان العلم الإجمالي تُثْبِتُ أن الأسبرين هو عِلَّة الشفاء، فقيمة احتمال عليته مساوية لسبعة أثمان .
 يبقى من الاحتمالات الثمانية احتمال واحد (وهو احتمال وجود الْعِلَّة الأخرى فِي كُلّ التجارب الثلاث) وهو احتمال حيادي ولا بشرط تجاه عِلِّيَّة الأسبرين للشفاء وعدم عليته، فهو لا يُثْبِتُ هذه الْعِلِّيَّة ولا ينفيها؛ إذ كما أن الْعِلَّة الأخرى موجودة فِي كُلّ التجارب الثلاث بناءً عَلَىٰ هذا الاحتمال، كذلك حبة الأسبرين أَيْضاً موجودة فِي كُلّ التجارب الثلاث حسب الفرض؛ فلعل الحبة عِلَّة للشفاء كما أن الْعِلَّة الأخرى عِلَّة للشفاء (أي: وجدت علّتان للشفاء)، ولعلّها ليست عِلَّة له وَإِنَّمَا الشفاء ناتج عن الْعِلَّة الأخرى.
 وهذا معناه أن نصف هذا الاحتمال أَيْضاً فِي صالح عِلِّيَّة الأسبرين للشفاء.
 إذن، فسبعة أثمان ونصف الثُّمن فِي صالح عِلِّيَّة الأسبرين؛ لأَنَّ نصف القوة والقيمة الاِحْتِمَالِيَّة الثَّابِتَة لهذا الاحتمال (وَالَّتِي كانت عبارة عن الثمن) كان فِي صالح عِلِّيَّة الأسبرين، وَأَمَّا عِلِّيَّة شيء آخر للشفاء فقيمته الاِحْتِمَالِيَّة عبارة عن نصف الثمن، (أي:).
 إذن، فقد لاحظنا أَنَّهُ فِي تجارب ثلاث تصعد قيمة احتمال عِلِّيَّة الأسبرين للشفاء إلى وتتضاءل قيمة احتمال وجود عِلَّة أخرى غير الأسبرين للشفاء إلى ، وهكذا كلما زاد عدد التجارب صعد الحساب فِي جانب الْعِلِّيَّة نزل الحساب فِي جانب عدم الْعِلِّيَّة؛ ففي أربع تجارب تصعد قيمة احتمال الْعِلِّيَّة إلى وتنزل قيمة احتمال عدم الْعِلِّيَّة إلى، وهكذا إلى أن يزول احتمال عدم الْعِلِّيَّة من النفس لشدّة ضآلته ويحصل القطع واليقين بالعلية حسب قواعد وأسس بَيَّنَها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & مُفَصَّلاً فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء< تحت عنوان >الدَّلِيلُ الاستقرائيُّ فِي مرحلة التَّوَالُدِ الذَّاتِيِّ<.
 هذا كله فِي الشَّكْل الأَوَّل للاستدلال الاستقرائي عَلَىٰ الْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُرَاد به إثبات عِلِّيَّة الموجود.
 وَأَمَّا الشَّكْل الثَّانِي من الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ الْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة فهو يتّجه إلى إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً فِي المورد الَّذِي نعلم فيه بأصل علاقة الْعِلِّيَّة وَالسَّبَبِيَّة بين >أ< و>ب< ولكن نَشُكُّ فِي وجود الْعِلَّة خَارِجاً (أي: نَشُكُّ فِي وجود >أ< فِعْلاً)، وفي هذا الشَّكْل من الاِسْتِدْلاِل نستعمل أَيْضاً نفس الروح الَّتِي استعملناها فِي الشَّكْل الأَوَّل وبنفس الطريقة من الحساب ننتهي إلى إثبات وجود تلك الْعِلَّة ونفي وجود البديل، وقد ذكر سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي >الأسس المنطقية للاستقراء< أن هذا الشَّكْل من الدَّلِيل الاستقرائي (الَّذِي يثبت وجود >أ<) له حالات عديدة، تهمّنا منها هنا الحالة الأولى من تلك الحالات وهي أَنْ يَكُونَ البديل لـ>أ< المحتمل كونه سَبَباً لـ>ب< مجموعة مكوّنة من >ج د هـ< مثلاً.
 ومثال ذلك أننا نعلم بأن أستاذ الفقه إذا كان له بحث فِي الوضوء مثلاً فَسَوْفَ يكون هذا علةً لتجميع الكتب المرتبطة بالوضوء عَلَىٰ طاولة مطالعته؛ فأصل الْعِلِّيَّة وَالسَّبَبِيَّة بين >وجود بحث له فِي الوضوء< وبين >تجميع الكتب المرتبطة بالوضوء< معلومة لنا، ولكن أصل وجود الْعِلَّة خارجاً مشكوك لنا، فلا ندري هل أن للأستاذ فِعْلاً بحثاً حول الوضوء أم لا؟ فدخلنا غرفته ورأينا مجموعة من كتب الوضوء مثل كتاب الوضوء من >الجواهر< وكتاب الوضوء من >الحدائق< وكتاب الوضوء من >مصباح الفقيه< موضوعةً عَلَىٰ طاولة مطالعته؛ فَإِنَّ هذا التجمّع للكتب الباحثة عن الوضوء فِي مكان واحد حِينَئِذٍ نحتمل فيه احتمالين وله أحد تفسيرين فِي رأينا:
 الأَوَّل: أَنْ يَكُونَ للأستاذ فِعْلاً بحث حول الوضوء، أَيْ: أَن عِلَّة تجمّع الكتب (وهي وجود بحث حول الوضوء) موجودة خَارِجاً.
 الثَّانِي: أن لا يكون للأستاذ بحث حول الوضوء ولم تكن عِلَّة تجمّع الكتب قد وجدت خَارِجاً وَإِنَّمَا تجمّعت كتب الوضوء عَلَىٰ طاولة المطالعة صدفةً، بمعنى أن كُلّ واحد منها قد وجد عَلَىٰ الطاولة لعامل آخر لا بسبب وجود بحث للأستاذ فِعْلاً فِي الوضوء، بل وجد الأَوَّل هناك لغرض التجليد مثلاً، والآخر لغرض إعارته لصديق مثلاً، والثالث لغرض تصحيح خطأٍ موجودٍ فيه مثلاً.
 إذن، فهنا احتمالان لتجمّع هذه المجموعة الخاصة من الكتب الَّتِي تتناول موضوعاً واحداً معيّناً:
 أحدهما: احتمال وجود عِلَّة هذا التجمع، وهي عبارة عن وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول هذا الْمَوْضُوع بالذات.
 وثانيهما: احتمال وجود بديل لهذه الْعِلَّة، والبديل المحتمل كونه سَبَباً لهذا التجمّع عبارة عن مجموعة مكوّنة من >التجليد< و>الإعارة< و>التصليح< فِي المثال المذكور، وقد اقترنت أجزاء هذه المجموعة بعضها ببعض صدفةً؛ فغرض التجليد اقترن صدفةً بغرض الإعارة، وهما اقترنا صدفةً بغرض التصحيح، فتجمّعت هذه الكتب عَلَىٰ الطاولة صدفةً. فالتجمع صدفي واتفاقي وإن كان وجود كُلّ واحد منها مَعْلُولاً لعلةٍ معينة.
 هذان احتمالان فِي المقام، وإذا فرضنا أن قيمة الاحتمال الأَوَّل (وهو احتمال أَنْ يَكُونَ للأستاذ بحث حول الوضوء) خمسون بالمائة (أي: النصف) قبل دخولنا الغرفة ورؤية كتب الوضوء عَلَىٰ الطاولة، فَسَوْفَ يقوى هذا الاحتمال بعد أن ندخل الغرفة ونرى كتب الوضوء عَلَىٰ الطاولة وتصعد قيمته كلما كثر عدد الكتب، وفي مقابله يضعف الاحتمال الثَّانِي القائل بعدم وجود بحث للأستاذ فِعْلاً فِي الوضوء وتنزل قيمته كلما كان عدد الكتب أكثر.
 وَالسَّبَب فِي ذلك هو أن الاحتمال الأَوَّل وإن كان ينحل إلى احتمالات وقضايا عديدة بعدد كتب الوضوء الموجودة عَلَىٰ الطاولة، فهناك معاليل عديدة (لوجود بحث للأستاذ حول الوضوء) بعدد كتب الوضوء هناك؛ فوجود كتاب الوضوء من >الجواهر< مثلاً معلول له، ووجود كتاب الوضوء من >الحدائق< معلول له، ووجود كتاب الوضوء من >مصباح الفقيه< معلول له.
 إِلاَّ أَن هذه الاحتمالات والقضايا العديدة متلازمة فيما بينها ثُبُوتاً وعدماً، بِمَعْنَى أَنَّهُ حينما يكون هناك بحث للأستاذ حول الوضوء فَسَوْفَ يكون هذا علةً لوجود كُلّ تلك الكتب عَلَىٰ الطاولة؛ فاحتمالات المعلولية لبحث الأستاذ فِي مجموع الكتب احتمالات متلازمة؛ فإما أن كُلّهَا صادقة وثابتة واقعاً وَإِمَّا أن كُلّهَا كاذبة وغير ثابتة واقعاً.
 وفي مثل ذلك تكون القيمة الاِحْتِمَالِيَّة للمعلولية (فِي مجموع الكتب) لهذه الْعِلَّة (أعني: وجود بحث للأستاذ حول الوضوء) مساوية للقيمة الاِحْتِمَالِيَّة للمعلولية فِي كُلّ كتاب، ولا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال كُلّ واحد منها؛ فنحن هنا كأنَّنا بإزاء قَضِيَّة واحدة؛ لأَنَّ التلازم بين القضايا الاِحْتِمَالِيَّة يجعلها فِي قوّة قَضِيَّة واحدة بحيث لا يكون احتمال المجموع أضعف من احتمال أيّ واحدة من مفردات هذه القضايا.
 وَحِينَئِذٍ فلنفرض (كما تَقَدَّمَ) أن قيمة احتمال كون وجود كتاب الوضوء من >الجواهر< عَلَىٰ الطاولة بسبب وجود بحث للأستاذ حول الوضوء عبارة عن خمسين بالمائة (أي: النصف ) فَحِينَئِذٍ احتمال أَنْ يَكُونَ وجود مجموع الكتب الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة بسبب وجود بحث للأستاذ حول الوضوء لا ينقص عن النصف؛ للملازمة بين المعلوليّات كما قلنا؛ فنحن أمام قَضِيَّة واحدة بحسب الحقيقة احتمالها هو النصف وهي عبارة عن وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء. هذا كله عن الاحتمال الأَوَّل.
 وَأَمَّا الاحتمال الثَّانِي الَّذِي هو فِي مقابل هذا الاحتمال فقد كان (كما تَقَدَّمَ) عبارة عن وجود بديلٍ لبحث الأستاذ عن الوضوء يحتمل وجوده خارجاً، فكان هو السَّبَب لوجود مجموع الكتب الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة.
 وهذا البديل عبارة عن مجموعة مكوّنة من >تجليد كتاب الوضوء من الجواهر< و>إعارة كتاب الوضوء من الحدائق< و>تصحيح خطأ موجود فِي كتاب الوضوء من مصباح الفقيه<.
 إذن، فاحتمال وجود هذا البديل أيضاً يكون هو النصف (لانقسام رقم اليقين عَلَىٰ الاحتمالين بالتساوي) إِلاَّ أَن من الواضح هنا أن هذا الاحتمال الثَّانِي (وهو احتمال وجود البديل) وإن كان يستبطن احتمالات ثلاثة (وهي احتمال وجود البديل فِي وضوء الجواهر، واحتمال وجود البديل فِي وضوء الحدائق، واحتمال وجود البديل فِي وضوء المصباح) إِلاَّ أَن هذه الاحتمالات ليست متلازمة فيما بينها؛ فافتراض وجود غرض التجليد لكتاب الوضوء من الجواهر لَيْسَ ملازماً لافتراض وجود غرض الإعارة لكتاب الوضوء من الحدائق، وهكذا.. وحيث أَنَّهَا غير متلازمة لعدم وجود أمر مشترك بينها معلوم، إذن فنحن هنا نواجه قضايا عديدة لا قَضِيَّة واحدة، خِلاَفاً للفرض الأَوَّل الَّذِي كنّا نواجه فيه قَضِيَّة واحدة مكررة (كَمَا عَرَفْتَ)، حيث أن احتمال وجود بحث للأستاذ حول الوضوء كان يتكرر فِي الكتب الثَّلاَثة، فكانت الاحتمالات متلازمة مترابطة.
 أَمَّا فِي هذا الفرض فليس الأمر كذلك، فكون كتاب الوضوء من الجواهر إِنَّمَا وجد عَلَىٰ الطاولة لغرض التجليد لَيْسَ ملازما مع كون وجود كتاب الوضوء من الحدائق عَلَىٰ الطاولة لغرض الإعارة لصديقٍ مثلاً، فالاحتمالات هنا غير متلازمة.
 فلو افترضنا أننا أعطينا لِكُلّ قَضِيَّة من هذه القضايا المحتملة (أي: وجود البديل فِي كُلّ واحد من الكتب الثَّلاَثة) درجة خمسين بالمائة (أي: النصف) فَسَوْفَ يصير احتمال وجود البديل (وهو التجليد) فِي كتاب الوضوء من الجواهر هو النصف، واحتمال وجود البديل وهو الإعارة فِي كتاب الوضوء من الحدائق هو النصف، واحتمال وجود البديل وهو التصحيح فِي كتاب الوضوء من >مصباح الفقيه< هو النصف، لكن احتمال وجود البديل فِي كُلّ هذه الكتب ومجموعها سوف يكون أقل وأضعف من النِّصْفِ؛ لأَنَّ الاحتمالات غير متلازمة؛ فاحتمال المجموع هنا أضعف من احتمال كُلّ واحدة بمفردها؛ لأَنَّ احتمال المجموع ينتج بحسب الحقيقة من ضرب الاحتمال الأَوَّل فِي الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِث، والضرب يؤدي إلى تضاؤل احتمال وجود البديل فِي مجموع الكتب وضعفه، وبقدر ما يضعف هذا الاحتمال يقوى الاحتمال الأَوَّل المقابل له وهو احتمال وجود الْعِلَّة (أي: أعني بحث الأستاذ حول الوضوء).
 والسر فِي هذا التوازن بين الاحتمالين المذكورين ما قلناه فِي الشَّكْل الأَوَّل من أن منشأ الاحتمال بحسب الحقيقة هو العلم الإجمالي ذو الأطراف المحصورة عَقْلاً؛ فكل احتمال مرتبط بـ>علم إجمالي< ووليد له؛ ففي المقام حيث أن المفروض هو العلم بأصل علاقة الْعِلِّيَّة والسببة بين >وجود بحث للأستاذ حول الوضو< (ولنرمز إلى هذا بـ>أ<) وبين >تجمع كتب الوضوء الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة< (ولنرمز إليه بـ>ب<)، ولكننا نَشُكُّ فِي وجود الْعِلَّة (أي: >أ<) خَارِجاً، فنحتمل وجوده ونحتمل بالمقابل وجود بديل له (ولنرمز للبديل بـ>ث<)، وهذا معناه أننا نعلم أن ماهية >ب< لها سببان: أحدهما ماهية >أ<، والآخر ماهية >ث<، فهناك علاقتا سَبَبِيَّة معلومتان، ونفترض أن >أ< يعبّر عن شيء واحد >وهو وجود بحث للأستاذ حول الوضوء< بينما يعبّر >ث< عن مجموعة أشياء متعددة هي فِي المثال السابق عبارة عن تجليد وضوء الجواهر، وإعارة وضوء الحدائق، وتصحيح وضوء المصباح. ولنرمز إلى الأَوَّل بـ>ح< وإلى الثَّانِي بـ>ه< وإلى الثَّالِث بـ>خ<.
 وما لم تجتمع هذه الأمور الثَّلاَثة لا يتكوّن >ث< الَّذِي هو السَّبَب الثَّانِي لـ>ب< وهو البديل لـ>أ<.
 فإذا رأينا >ب< قد وقع، فَسَوْفَ يوجد لدينا علم إجمالي بوجود >أ< أو >ث<، وعلى أساس هذا العلم تحدد قيمة احتمال وجود >أ< بـ>النِّصْف< (أي: ).
 ولكن إذا افترضنا أن احتمال وجود >أ< يساوي احتمال وجود أيّ واحد من الأمور الثَّلاَثة المذكورة الَّتِي تكوّن بمجموعها >ث< وأن كُلّ واحد من تلك الاحتمالات يساوي ، فَسَوْفَ نحصل عَلَىٰ علم إجمالي آخر وهو علم يستوعب احتمالات وجود الأمور الثَّلاَثة: >ح< و>هـ< و>خ<، وهذا العلم يشتمل عَلَىٰ ثمانية احتمالات كما يلي:
 الأَوَّل: احتمال وجود >ح< و>هـ< و>خ< جميعاً، بمعنى أن كتاب الوضوء من >الجواهر< يُرَاد تجليده، وكتاب الوضوء من >الحدائق< يُرَاد إعارته لصديق، وكتاب الوضوء من >مصباح الفقيه< يُرَاد تصحيحه، ولذا فقد اجتمعت الكتب الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة.
 الثَّانِي: احتمال وجود >ح< و>هـ< فقط، دون >خ<.
 الثَّالِث: احتمال وجود >ح< و>خ< فقط، دون >هـ<.
 الرَّابِع: احتمال وجود >هـ< و>خ< فقط، دون >ح<.
 الخامس: احتمال وجود >ح< فقط، دون >هـ< و>خ<.
 السادس: احتمال وجود >هـ< فقط، دون >ح< و>خ<.
 السابع: احتمال وجود >خ< فقط، دون >ح< و>هـ<.
 الثامن: احتمال عدم وجود >ح< و>هـ< و>خ< جميعاً.
 وهذه الاحتمالات الثمانية إذا استثنينا الأَوَّل منها فالاحتمالات السبعة الأخيرة تستلزم وجود >أ<؛ لأَنَّهَا تفترض نفي >ث<، وما دام >ب< مَوْجُوداً أو لَيْسَ هناك >ث<، إذن فـ>أ< موجود.
 ففي مثالنا المتقدم إذا استثنينا الاحتمال الأَوَّل الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفاً، فالاحتمالات السبعة الأخرى كُلّهَا تستلزم وجود بحث للأستاذ فِي موضوع الوضوء؛ لأَنَّ هذه الاحتمالات كُلّهَا تفترض نفي وجود السَّبَب الثَّانِي الَّذِي هو بديل هذا البحث؛ لأَنَّ السَّبَب الثَّانِي لوجود الكتب الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة كان عبارة عن مجموع الأمور الثَّلاَثة. فإذا انتفت، أو انتفى اثنان منها، أو انتفى واحد منها، انتفى البديل، وقد رأينا أن الاحتمالات السبعة الأخيرة تتضمن انتفاء أحد الأمور الثَّلاَثة عَلَىٰ الأقل؛ فالسبب الثَّانِي لوجود الكتب الثَّلاَثة عَلَىٰ الطاولة غير موجود، وما دامت الكتب موجودة عَلَىٰ الطاولة مِنْ دُونِ وجود السَّبَب الثَّانِي، إذن فالسبب الأَوَّل موجود وهو وجود بحث للأستاذ فِي موضوع الوضوء.
 إذن، فسبعة من ثمانية احتمالات أصبحت فِي صالح وجود >أ<، أَيْ: أَن سبعة أثمان العلم الإجمالي تُثْبِتُ وجود >أ<.
 يبقى الاحتمال الأَوَّل وهو الاحتمال الوحيد الَّذِي يفترض وجود >ح< و>هـ< و>خ< جميعاً، وهذا الاحتمال حيادي ولا بشرط تجاه وجود >أ< وعدمه؛ فهو لا ينفي وجوده ولا يُثْبِتُ وجوده. بمعنى أن احتمال وجود كُلّ الأمور الثَّلاَثة الَّتِي تكون بمجموعها السَّبَب الثَّانِي لوجود الكتب عَلَىٰ الطاولة (وهي عبارة عن التجليد والإعارة والتصحيح) لا يُبت ولا ينفي السَّبَب الأَوَّل لوجود الكتب عَلَىٰ الطاولة (وهو وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء)؛ إذ لعل السَّبَب الأَوَّل أَيْضاً موجود إلى جنب السَّبَب الثَّانِي، ولعله غير موجود.
 وهذا معناه أن نصف قيمة هذا الاحتمال الحيادي أصبح أَيْضاً فِي صالح وجود >أ<، أي: فِي صالح وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء، وبهذا تصبح قيمة احتمال وجود >أ< بموجب هذا العلم الإجمالي عبارة عن سبعة أثمان العلم الإجمالي ونصف الثمن ويبقى نصف ثُمن العلم الإجمالي فقط فِي صالح عدم وجود >أ<، فقيمة احتمال وجود >أ< هي بينما قيمة احتمال البديل >أ< هي ، هذا فِي مشاهدتنا لثلاثة كتب فِقْهِيَّة تتناول موضوع الوضوء موجودة عَلَىٰ الطاولة فِي غرفة الأستاذ، حيث يقوى احتمال وجود بحث للأستاذ حول الوضوء إلى وينزل احتمال البديل إلى ، وكلما كثرت الكتب ازدادت النِّسْبَة فِي صالح وجود بحث له فِي الوضوء ونفي البديل.
 هذه هي الحالة الأولى (وهي الَّتِي تهمّنا فِعْلاً فِي هذا البحث) من حالا الشَّكْل الثَّانِي من شكلي الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ الْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة، وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً، وكان الدَّلِيل الاستقرائي فِي هذه الحالة ينمّي قيمة احتمال وجود الْعِلَّة عَلَىٰ أساس علم إجمالي يضعّف قيمة احتمال البديل كما رأينا.
 فالشكل الثَّانِي من الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي فِي العلوم الطبيعية التَّجْرِيبِيَّة يتخلّص فِي مواجهة شيء مشكوك ومحتمل، وتنمية احتمال وجوده عَلَىٰ أساس علم إجمالي.
 وهذا الشَّكْل من الدَّلِيل الاستقرائي الَّذِي يُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة ينطبق تماماً عَلَىٰ الدَّلِيل العلمي عَلَىٰ إثبات وجود الْعِلَّة الأولى للكون وهو الصانع الحكيم تعالى، وقد أوضح ذلك مُفَصَّلاً سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي مُقَدَِّمَة كتابه >الفتاوى الواضحة<( [2] ).
 هذا تمام الْكَلاَم فِي شكلي الدَّلِيل الاستقرائي عَلَىٰ القضايا التَّجْرِيبِيَّة وقد اتضح لنا أَنَّهُ كيف يحصل اليقين فِي باب التَّجْرُبَة عَلَىٰ أساس حساب الاحتمالات.
 والآن نأتي إلى ما نحن فيه (أعني: باب التَّوَاتُر)، فقد قلنا: إن اليقين فِي باب التَّوَاتُر قائم عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الاستقرائي وحساب الاحتمالات كاليقين فِي باب التَّجْرُبَة تماماً، فكان لاَ بُدَّ لنا (لكي يتضح أن الْقَضِيَّة المتواترة ليست إلا قَضِيَّة استقرائية تقوم عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الاستقرائي كالقضية التَّجْرِيبِيَّة) من أن نوضّح الدَّلِيل الاستقرائي عَلَىٰ الْقَضَايَا التَّجْرِيبِيَّة وكيفية حصول اليقين فِي باب التَّجْرُبَة عَلَىٰ أساس حساب الاحتمالات، وهذا ما قمنا به لحد الآن، فليس علينا بعد هذا سوى توضيح الاِسْتِدْلاِل الاستقرائي عَلَىٰ الْقَضِيَّة المتواترة وكيفية حصول اليقين فِي باب التَّوَاتُر عَلَىٰ أساس حساب الاحتمال، فنقول:
 إن الْقَضِيَّة المتواترة هي فِي الحقيقة مثال من أمثلة الحالة الأولى من حالات الشَّكْل الثَّانِي من شكلي الدَّلِيل الاستقرائي عَلَىٰ القضايا التَّجْرِيبِيَّة؛ فقد عرفنا أن الشَّكْل الثَّانِي عبارة عن الاِسْتِدْلاِل الَّذِي يُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً، لا إثبات عِلِّيَّة الموجود، وكانت الحالة الأُولى من حالاته عبارة عن تنمية وتقوية قيمة احتمال وجود الْعِلَّة عَلَىٰ أساس علم إجمالي يضعف قيمة احتمال وجود البديل المتكوّن من مجموعة أمور متعدّدة، وهذا هو ما يحصل فِي الْقَضِيَّة المتواتر.
 فَمَثَلاً لو اشترك عدد كبير من النَّاس فِي احتفال، وبعد انتهاء الحفل سألنا كُلّ واحد منهم عن الشخص الَّذِي ألقى المحاضرة فِي ذلك الاحتفال، فجاءت الأجوبة كُلّهَا تؤكد أن فلاناً هو الَّذِي ألقى محاضرة فِي ذلك الحفل، كانت هذه الْقَضِيَّة متواترة ويحصل لنا اليقين بما قالوا، وهذا اليقين قائم عَلَىٰ أساس الدَّلِيل الاستقرائي الَّذِي يقوّي احتمال وجود الْعِلَّة عَلَىٰ أساس علم إجمالي يضعّف احتمال وجود البديل المتكوّن من عِدَّة أمور؛ فَإِنَّ اتفاق العدد الكبير من المحتفلين عَلَىٰ جواب واحد عند السؤال منهم عن نوع الشخص المحاضِر فِي الحفلة يعبّر عن >باءات< عديدة بعدد الإخبارات الصَّادِرَة منهم؛ فكل خبر من تلك الأخبار نرمز إليه بـ>ب<، وكون الشخص الَّذِي اتفقوا عَلَىٰ ذكره هو الَّذِي ألقى المحاضرة حَقّاً يعبر عن >أ<؛ لأَنَّهُ إذا كان هو المحاضِر حقاً فهذا وحده يكفي (تقريبا) لكي يفسّر لنا كُلّ الـ>باءات<، وما هو البديل لـ>أ< هو أن نفترض توفّر دواعٍ مصلحية لدى كُلّ المخبِرين دعتهم إلى الكذب بطريقة واحدة، وهذا البديل يشتمل عَلَىٰ افتراضات عديدة مستقلة، ويمكّننا ذلك من تشكيل علم إجمالي يستوعب احتمالات تلك الافتراضات، فإذا فرضنا أن المخبِرين ثلاثة، فاحتمالات تلك الافتراضات ثمانية؛ إذ يُحتمل أَنْ يَكُونَ واحد فقط من الثَّلاَثة يتوفّر لديه دافع مصلحي إلى الإخبار بتلك الطريقة عن خطيب الحفل، ويُحتمل أَنْ يَكُونَ اثنان فقط من الثَّلاَثة يتوفر لديهما ذلك.
 ويُحتمل توفّر الدافع المصلحي لديهم جميعاً، كما يُحتمل عدم وجوده لدى أيّ واحد منهم.
 والاحتمال الأَوَّل له ثلاثة فروض؛ لأَنَّ هذا الواحد إما هو المخبِر الأَوَّل، أو المخبر الثَّانِي أو الثَّالِث.
 والاحتمال الثَّانِي أَيْضاً له ثلاثة فروض؛ لأَنَّ هذين الاثنين إما هما المخبِر الأَوَّل والثاني، أو هما المخبِر الأَوَّل والثالث، أو هما المخبِر الثَّانِي والثالث.
 والاحتمالان الآخران لكلٍّ منهما فرض واحد، فتكون مجموع الفروض الَّتِي يستوعبها العلم الإجمالي فِي حالة وجود ثلاثة مخبِرين عبارة عن >ثمانية< فروض قيمة كُلّ واحد منها الثّمن، وسبعة من هذه الفروض تُعتبر فِي صالح صدق الْقَضِيَّة الَّتِي أخبروا عنها؛ لأَنَّها تتضمّن أن واحداً (عَلَىٰ الأقل) من المخبِرين الثَّلاَثة لَيْسَ لديه أيّ دافع مصلحي يبرّر إخباره.
 وهي عبارة عن الستة الأولى مع الثامن، كما هو واضح؛ فسبعة أثمان العلم الإجمالي فِي صالح صدق الْقَضِيَّة المتواترة، يبقى فرض واحد وهو الفرض السابع الَّذِي يتضمن توفّر الدافع المصلحي لدى جميع المخبرين الثَّلاَثة، وهذا الفرض حيادي ولا بشرط تجاه صدق الْقَضِيَّة الَّتِي أخبروا عنها وكذبها، فهو لا يُثْبِتُ هذه الْقَضِيَّة ولا ينفيها؛ إذ كون المخبِرين ذوي مصالح شخصية دفعتهم إلى الإخبار عن هذه الْقَضِيَّة لا هو مستلزم لصدق الْقَضِيَّة ووقوعها، ولا هو مستلزم لكذبها وعدم وقوعها.
 فمن وجهة نظر هذا الفرض الحيادي يُحتمل صدق الْقَضِيَّة الَّتِي أخبروا عنها ويُحتمل كذبها، وهذا يعني أن نصف قيمة هذا الاحتمال الحيادي اللابشرط يكون أَيْضاً فِي صالح صدق الْقَضِيَّة المتواترة المخبَر عنها.
 إذن، فسبعة أثمان العلم الإجمالي ونصف الثمن فِي صالح الْقَضِيَّة المتواترة؛ ففي حالة وجود ثلاثة مخبرين سوف تكون من قيم العلم الإجمالي. أي: متضمّنة لإثبات الْقَضِيَّة المتواترة المخبَر عنها ونفي البديل المحتمل.
 وفي حالة وجود أربعة مخبرين ترتفع القيم المثبِتة إلى ، أي: إلى وتنزل قيمة احتمال عدم ثبوت الْقَضِيَّة المتواتر المخبَر عنها إلى ، وهكذا.. حتَّى تصبح قيمة احتمال عدم ثبوت الْقَضِيَّة متمثّلة فِي كسر ضئيل جِدّاً، وعندئذٍ تبدأ المرحلة الثَّانية من الدَّلِيل الاستقرائي فيفنى ذلك الكسر الضئيل ويتحول التصديق بالقضية المتواترة إلى يقين، طِبْقاً لشروط ذكرها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & مُفَصَّلاً فِي كتابه الْقَيِّمِ >الأُسَس المنطقية للاستقراء<( [3] ).
 فوصول التصديق بالقضية المتواترة وكذلك بالقضية التَّجْرِيبِيَّة إلى اليقين لَيْسَ رياضيا واستنباطياً وقياسياً، بل إِنَّمَا هو بِمُقْتَضَىٰ ما تفضّل به الله تبارك وتعالى عَلَىٰ الإنسان من العقل والضابط الذاتي بالنحو الَّذِي جعله لا يحتفظ بالكسور الضئيلة والقيم الاِحْتِمَالِيَّة الضعيفة جِدّاً، فتنطفئ عنده ويحصل له اليقين بالقضية المتواترة والقضية التَّجْرِيبِيَّة. ولولا ذلك لأصبح الإنسان مجنوناً لا يمكنه التعايش مع مَن حوله وما حوله؛ إذ لا يمكنه أن يقطع بشيء إطلاقاً ما دام ذهنه محتفظاً بالاحتمالات الضعيفة والضئيلة جِدّاً.
 هذا تمام الْكَلاَم فِي الجهة الأولى من جهات البحث حول الخبر المتواتر، وقد عرفنا فِي هذه الجهة حَقِيقَة التَّوَاتُر وكيفية إفادته اليقين وأنه يقين موضوعي استقرائي قائم عَلَىٰ أساس حساب الاحتمال.


[1] - Aspirin
[2] - راجع الكتاب: ص31-50، طبعة المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر &.
[3] - انظر الفصل الثَّانِي من القسم الثَّالِث من الكتاب تحت عنوان >الدَّلِيل الاستقرائي فِي مرحلة التوالد الذاتي<: ص355-400، الطبعة الأولى: دار الفكر، بيروت.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo