< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/05/24

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان:
 الخبر المتواتر/ وسائل اليقين الْمَوْضُوعِيّ الاستقرائي/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 قلنا إن ما ذكره المنطق الأرسطي بشأن القضية التجريبية هو من سنخ ما ذكره بشأن القضية المتواترة، فتفسير هذا المنطق لكلتا القضيّتين تفسير واحد، وهذا التفسير هو أن كلتا القضيّتين مستنتجة من خلال الاِسْتِدْلاِل القياسي الاستنباطي، وفي هذا القياس النَّتِيجَة دَائِماً مستبطنة فِي المقدمات (إما أصغر منها أو مساوية لها) خِلاَفاً للاستدلال الاستقرائي.
 وإذا دقّقنا النَّظَر أكثر وجدنا أن مرجع الكبرى الَّتِي تعتمد عليها القضيةُ المتواترة هو الكبرى نفسها الَّتِي تعتمد عليها القضيةُ التجريبية؛ فَإِنَّ الكبرى فِي القضية المتواترة كانت عبارة استحالة تواطؤ واجتماع ألف شخص مثلاً عَلَىٰ الكذب لاستحالة تكرر الصدفة وهذا شأن كبرى القضية التجريبية أَيْضاً. أي: ترجع كبرى التَّوَاتُر >وهي استحالة اجتماع جماعة كثيرة عَلَىٰ الكذب< كبرى التجربة >وهي استحالة تكرر الصدفة مرات كثيرة<؛ لأَنَّ معنى كذب المخبِر الأول فِي الخبر المتواتر بكذب زيد هو أن ما قاله خلاف الواقع وأنه أخفى الواقع لمصلحة تدعوه إلى ذلك، كما أن معنى كذب المخبِر الثَّانِي هو أَنَّهُ أَيْضاً لديه مصلحة شخصية دعته إلى إخفاء الواقع، وهكذا فِي المخبر الثَّالِث والرابع والألف، ويتحصل من ذلك أن معنى كذب جماعة كثيرة اجتماعُ مصالحهم صدفة مع مصالح بعضهم. وهذا معناه أن الكبرى الَّتِي افترضها المنطق الأرسطي واعتمد عليها فِي القضايا المتواترة ترجع بالدقة إلى الكبرى الَّتِي اعتمد عليها هذا المنطق فِي إثبات القضايا التجريبية وهي أن الصدفة يستحيل أن تتكرر مرات عديدة، وقد قال المنطق الأرسطي أن مسألة >الصدفة لا تتكرر< بديهية.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَب عند المنطق الأرسطي فِي إفادة القضية التَّجْرِيبِيَّة والقضية المتواترة اليقينَ هو القياس المنطقي الْمُرَكَّب من صغرى وكبرى، ولكن الكبرى فِي كلا القياسين عبارة عن قَضِيَّة >الصدفة لا تتكرر< وَالَّتِي قال عنه المنطق إِنَّهَا بديهية ولا تحتاج إلى الاِسْتِدْلاِل. هذا هو رأي المنطق الأرسطي بشأن التَّوَاتُر وبشأن التَّجْرُبَة وكيفية حصول اليقين فِي هذين البابين.
 إلا أن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & لم يوافق عَلَىٰ شيء من ذلك أبداً، ولم يقبل أن سبب اليقين فِي باب التَّوَاتُر وفي باب التجربة هو القياس الَّذِي كبراه قَضِيَّة عَقْلِيَّة بديهية، وذهب إلى أن سبب اليقين فِي هذين البابين هو حساب الاحتمال الرياضي، وقال: إن اليقين بالقضية التجريبية وكذلك اليقين بالقضية المتواترة لَيْسَ يَقِيناً استنباطياً وَإِنَّمَا هو يقين استقرائي، وقال بأن الاعتقاد بهذين القضيتين (المتواترة والتجريبية) حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة فِي مصب واحد وازدياد احتمال ثبوت القضية المتواترة أو التَّجْرِيبِيَّة وارتفاع احتمالها، وتناقص احتمال نقيضها وخلافها حتَّى يصبح احتمال الخلاف قريباً من الصفر جِدّاً، وعند ذلك يزول من النفس تلقائياً بسبب ضئالته الشديدة، طَبْعاً ضمن قواعد وشروط معينة ذكرها سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & بالتفصيل فِي كتابه القيم >الأسس المنطقية للاستقراء<.
 فمثلاً فِي القضية المتواترة يقول: إننا نرى أن إخبار كُلّ مخبِر قرينةٌ احتمالية عَلَىٰ أن هذا الخبر صادق ومطابق للواقع، فإذا تكرر الخبر تعددت القرائن الاحتمالية وتراكمت فِي محور ومصب واحد وهو ثبوت موت زيدٍ، وفي المقابل نقص وضعف احتمال عدم ثبوت موت زيد إلى أن (أي: هذا تابع لقوانين وعوامل سوف نذكرها) يصبح احتمال الكذب ضئيلاً جِدّاً بحيث يزول من النفس. هذا فِي القضية المتواترة.
 ويأتي الكلام نفسه والمنهج ذاته فِي التجريبيات؛ إذ أن الإنسان حينما يجرب اقتران الحرارة مع الحديد مَرَّةً يشاهد التمدد فِي الحديد. فهذا الاقتران قرينة احتمالية عَلَىٰ أن سبب التمدد هو الاقتران، كما أن هناك احتمال الخطأ أَيْضاً وهو أن لا تكون الحرارةُ سَبَباً لتمدد الحديد بل يكون سببه شيء آخر. فكلما تكرر هذا الاقتران تقوّى احتمال أَنْ يَكُونَ الحديد هو السَّبَب وضعف احتمال وجود عِلَّة أخرى إلى أن يزول من النفس.
 إذن، إن أساس حصول العلم واليقين فِي باب التَّوَاتُر وفي باب التَّجْرُبَة أساس واحد عند سَيِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِيدِ & ولا يوجب التَّوَاتُر أو التجريبة القطع واليقين عَلَىٰ أساس ما تخيّله المنطق الأرسطي؛ فَإِنَّ الأخير قال بوجود ملازمة عَقْلِيَّة بين إخبار الجماعة الكثيرة وبين موت زيد (فقد جعل هذه القضية من القضايا الضرورية الأولية الست) ويستحيل أن يخبر ألف شخص (أي: جماعة كثيرة) بموت زيد ولا يكون زيد ميتاً واقعاً. ولكننا نرفض ذلك بسبب أن إخبار كُلّ واحد من هؤلاء يحتمل فيه الصدق كما يحتمل فيه الكذب، فلو حسبنا حساب كُلّ خبرٍ خبر ما حصلنا عَلَىٰ ملازمة بين إخبار هؤلاء وبين موت زيد. ولا نقبل أَنْ يَكُونَ المجموع ملازماً لموت زيد؛ ذَلِكَ لأَنَّ المجموع إِنَّمَا يكون ملازماً لموت زيد فيما إذا كان هناك تنافياً بين كذب البعض وكذب البعض الآخر، والحال أَنَّهُ لا يوجد أي تنافي بين كذب البعض وبين كذب البعض الآخر؛ إذ من الممكن فِي نظر العقل أَنْ يَكُونَ الكل قد كذبوا؛ فإننا لا ندرك بعقولنا ملازمةً بين إخبار هؤلاء وبين موت زيد.
 لا يقال: ماذا تقولون فِي مثال فتح الجيش لبلد، فلو حسبنا حساب كُلّ جندي جنديّ من أفراد هذا الجيش نرى أَنَّهُ غير قادر عَلَىٰ فتح البلد، بينما إذا حسبنا حساب جميعهم نرى أن بإمكانهم أن يفتحوا البلد. إذن، توجد ملازمة بينهم جميعاً وبين الفتح، وإن لم تكن توجد ملازمة بين كُلّ واحد واحدٍ منهم وبين الفتح.
 إذ نقول: بأنه لا مجال لهذا الكلام؛ فَإِنَّ الملازمة فِي مثال الجيش موجودة بين الجيش وبين الفتح، وهذه الملازمة قائمة عَلَىٰ أساس عِلِّيَّة عمل هؤلاء للفتح. أي: عمل الجميع عِلَّة تَامَّة لفتح البلد، وعمل كُلّ فرد فردٍ من هؤلاء جزء العلة، ومن الواضح أَنَّهُ لا توجد ملازمة بين جزء العلة وبين المعلول، لكن توجد ملازمة بين الكل وبين المعلول، أَمَّا فِي ما نحن فيه لَيْسَت أخبار هؤلاء عِلَّة لموت زيد حتَّى تقولوا: إن كُلّ خبر هو جزء عِلَّة، ومجموع الأخبار عِلَّة تَامَّة لموت زيد.
 إذن، لا توجد لدينا كبريات عَقْلِيَّة بديهة لا فِي باب التَّوَاتُر ولا فِي باب التَّجْرُبَة، لا كبرى عَقْلِيَّة تقضي باستحالة اجتماع كثيرين عَلَىٰ الكذب ولا كبرى عَقْلِيَّة تقول باستحالة غلبة الصدفة وتكررها. فلا الكبرى الواقعة فِي القياس الَّذِي شكّله المنطق الأرسطي فِي باب التَّوَاتُر قضيةٌ أوليةٌ ثابتة فِي حاق العقل، ولا الكبرى الَّذِي شكّلها فِي القياس الَّذِي يُراد به إثبات القضية التَّجْرِيبِيَّة والاستقراء. أي: أننا لو قطعنا النَّظَر عن العالم الخارجي وقطعنا النَّظَر عن مقدار تكرر الصدفة فِي العالم الخارجي أو مقدار التواطؤ والاجتماع عَلَىٰ الكذب فِي الخارج، وكنا لا نعرف النَّاس ولا نتجاوب معهم أبداً ولا نعرف كذبهم ولا أي شيء منهم، ولم نكن نعيش فِي هذا العالم أساساً، إن كنّا هكذا فهل كان عقلنا يحكم بعدم تكرر الصدفة؟ وهل كان يحكم بأن الجماعة الكثيرة يستحيل اجتماعها عَلَىٰ الكذب؟ كلا، بل كنّا نحتمل تكرر الصدفة دَائِماً، أو اجتماع الكثيرين عَلَىٰ الكذب، وَإِنَّمَا ننفي تكرر الصدفة واجتماع جماعة كثيرة عَلَىٰ الكذب بعد تجربتنا ومشاهدتنا للعالم الخارجي. فالكبرى الَّتِي اعتمد عليها المنطق الأرسطي فِي القضية المتواتر وفي القضية التَّجْرِيبِيَّة معاً ليست قَضِيَّةً أوليةً مستقلة عن التَّجْرُبَة، بل هي بدورها أَيْضاً قَضِيَّة تجريبية مُبْتَنِيَة عَلَىٰ التَّجْرُبَة؛ ذلك لأَنَّنَا لاحظنا من خلال الوقائع الكثيرة (الَّتِي عشناها وجرّبناها فِي الحياة) ندرةَ الصدفة والاتفاق وعدم تكرّرها لا دَائِماً ولا غالباً، بل الاقترانات بين شيئين غالباً ليست من باب الصدفة والاتفاق. فحال هذه القضية حال سائر القضايا التَّجْرِيبِيَّة الخاصة فِي كُلّ موردٍ مورد، غاية الأمر أَنَّهَا أكبر وأوسع من تلك. وما دامت هي أَيْضاً ثابتة فِي طول التَّجْرُبَة والشهود لا يمكن أَنْ تَكُونَ هي السَّبَب لحصول اليقين بالقضية التَّجْرِيبِيَّة والمتواترة وأن تشكّل الأساس الاستدلالي والمنطقي للقضايا التَّجْرِيبِيَّة والمتواترة ككلّ. إذن، بقيت المشكلة عَلَىٰ حالها وهي أَنَّهُ كيف نفسّر حصول اليقين فِي باب التَّوَاتُر وباب التَّجْرُبَة وما هو الأساس الاستدلالي المنطقي للقضايا المتواترة والتجريبية جميعاً بعد أن ثبت أن هذه القضية ليست إلا واحدة من تلك القضايا التَّجْرِيبِيَّة؟ ولطالما هي أَيْضاً تجريبية تكون محكومةً للقوانين والأسس المنطقية الحاكمة عَلَىٰ التَّجْرُبَة والاستقراء، وهي قوانين حساب الاحتمال.
 وعليه، فحصول اليقين فِي كُلّ من القضية المتواترة والْقَضِيَّة التَّجْرِيبِيَّة إِنَّمَا هو ناتج عن تراكم الاحتمالات، لا عن قَضِيَّة عَقْلِيَّة بديهية.
 وقد برهن سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & فِي كتابه القيّم >الأسس المنطقية للاستقراء< عَلَىٰ عدم كون المتواترات والتجريبيات قضايا ضرورية وبديهية، وعدم كون اليقين بها نَاشِئاً من تلك الكبرى الَّتِي افترضها المنطق القديم قَضِيَّةً عَقْلِيَّةً بديهية، ببراهين فنّية عديدة لا مجال لذكرها هنا( [1] )، وَإِنَّمَا نقتصر فِي المقام عَلَىٰ واحد منها وهذا ما يأتي بيانه غَداً إن شاء الله تعالى.


[1] - ولكي لا يضيع الباحث عند مراجعته لكتاب >الأسس المنطقية للاستقراء< ندلّه عَلَىٰ عنوانين فِي الكتاب، أحدهما: القسم الأَوَّل من الكتاب تحت عنوان >نقد المبدأ الأرسطي< فقد ذكر & هذه البراهين كاعتراضاتٍ موجَّهةٍ إلى المبدأ الأرسطي وهي سبعة اعتراضات. والآخر: القسم الرَّابِع من الكتاب في >تفسير القضية التَّجْرِيبِيَّة وتفسير القضية المتواترة<.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo