< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 انتهينا من الأمر الأَوَّل وهو إثبات الملازمة بين عدم الردع وبين الإمضاء والقبول، وأثبنا أَنَّهُ لو لم يردع الشَّارِع عن السِّيرَة وسكت عنها فسكوته يَدُلّ عَلَىٰ الإمضاء حتماً.
 الأمر الثَّانِي: وهو إثبات الملازمة بين عدم صدور الردعِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِع وبين عدم وصوله إلينا. فنريد أن ندّعي الملازمة بين عدم الوصول وعدم الصدور.
 وبعبارة أخرى: ندعي الملازمة بين عدم الوجدان وعدم الوجود؛ إذ يصح أنَّه بشكل عَامّ لا يَدُلّ عدم الوجدان عَلَىٰ عدم الوجود، لٰكِنَّهُ يَدُلّ فِي قضيتنا عَلَىٰ عدم وجود الردع؛ وذلك بنكتة أن ردع الشَّارِع عن سلوك مُعَيَّن لاَ بُدَّ وأن يكون متطابقاً فِي حجمه وعمقه ومقداره مع حجم وعمق ذاك السلوك الَّذِي لا يرتضيه الشَّارِع، فكلما كان حجم السلوك كبيراً وضخماً وراسخاً وقوياً لاَ بُدَّ من أَنْ يَكُونُ الردع أَيْضاً بذاك الحجم من الكِبر والضخامة وبتلك الدرجة من الرسوخ.
 مثلاً قد يكون السلوك الَّذِي يريد أن يردع عنه الشَّارِع سلوكاً فَرْدِيّاً بأن يقوم أحدهم بعمل مخالف للموازين الشَّرْعِيَّة مقابل الْمَعْصُوم ×، فهذا سلوك فردي لا يتطلب أكثر من ردع وبيان واحد يصدره الْمَعْصُوم ×.
 أَمَّا إذا كان السلوك الَّذِي يريد أن يردع عنه الشَّارِع سلوكاً عاماً وَنَوْعِيّاً ومتفشيّاً فِي عَامَّة النَّاس ويمارسه الجميعُ ويتكرر منهم هذا السلوك بحكم العادة، ففي مثل هذا السلوك لا يكفي فِي الردع عنه بيانٌ واحد وجملة واحدة، بل هذا السلوك المتفشي المتكرر يتطلب أكثر من ردع واحد، لكي تناسب قوة الردع قوة المردوع عنه.
 والنكتة والسر فِي اشتراط هذا التناسب هو أن الشَّارِع إِنَّمَا يردع عن سلوك النَّاس (إذا كان لا يرضى بذاك السلوك) بملاك دفع الخطر (الَّذِي تُشَكِّلُهُ السِّيرَةُ الْعُقَلاَئِيَّة عَلَىٰ أغراضه)، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مثل هذا الردع المتفشي يختلف عن الردع الواحد؛ ففي الفرض السابق (= السلوك الفردي) قلنا إِنَّهُ يكفي فِي الردع عنه بيانٌ واحدٌ. فهذا الردع الواحد يمكن أن لا يصل إلينا، فاحتمال وصوله إلينا لَيْسَ احتمالاً موهوناً وضعيفاً وضئيلاً.
 أَمَّا فِي الفرض الثَّانِي (السلوك الْعَامّ المتفشي النوعي لجمهور النَّاس) فبحاجة إلى ردع كثير وقوي بحجم تفشي السلوك وعمقه بين النَّاس؛ لأَنَّ البيانات الكثيرة الَّتِي يُصدرها الشَّارِع بنفسها يكوّن انتباهاً لدى الْمُتَشَرِّعَة عَلَىٰ أن هناك نكتةَ خلاف بين الشَّارِع وبين هذا السلوك الْعَامّ العرفيّ الْعُقَلاَئِيّ، وهذا يدفعهم إلى الذهاب إلى الأئمة ^ والسؤال منهم ^؛ إذ أنَّ هذه البياناتِ تسبب البلبلةَ بين النَّاس وتصل هذه البياناتُ إلى النَّاس عَلَىٰ اختلاف مراتب الوصول ( فبعض النَّاس يصلهم بنحو الجزم وبعضهم يصله بنحو الاحتمال)، وهذا معناه تكثر أجوبة الأئمة ^ وتفشيها فِي الأحاديث، وهذا أمر له شواهد خارجية بِالنِّسْبَةِ للسِّيَرِ الْعُقَلاَئِيَّةِ الَّتِي لا يرضونها كالردع عن الربا والقياس.
 وَحِينَئِذٍ (إذا كثرت البيانات الرادعة) يأتي دور حساب الاحتمالات ليقول كلمته وهو أَنَّ من المستبعد أن لا تصلنا كُلُّ هذه البيانات حتَّى بيان واحد فِي خبر واحد ضعيف، رغم توفر الدواعي فِي نقل تلك البيانات ورغم أن تلك البيانات مصيرية تأسيسية تريد أن تكسر سيرة النَّاس، والرواة يهتمون بنقل هذه الروايات:
 أوَّلاً نَظَراً لأهميتها التأريخية؛ لأَنَّهُ ردع عن ظاهرة اجتماعية موجودة ومركوزة وهذا الردع عَلَىٰ خلاف طبع النَّاس.
 وَثَانِياً نَظَراً إلى الناحية الشَّرْعِيَّة، أي: قد لا يُهتم بنقل الرواية الصادرة من الشَّارِع لبيان حكم واضح مِنْ قِبَلِ الرواة؛ وذلك اعتماداً عَلَىٰ وضوح الحكم أو اعتماداً عَلَىٰ وجود العمومات والإطلاقات الَّتِي تشمل مورد الحكم. وهذا بخلاف الروايات العديدة الرادعة عن السِّيرَة، فَإِنَّهُ وإن صح وجود احتمال اختفاء كُلّ واحدة من هذه الروايات، ولكن ما هي قيمة هذا الاحتمال بحسب حساب الاحتمال؟ فإن فرضنا أن قيمة احتمال اختفاء الرواية الأولى (الرادعة عن الربا أو الناهية عن القياس مثلاً أو عن أي سيرة متفشية أخرى) هي النصف (أي: 50%) والرواية الأولى أَيْضاً احتمال اختفائها النصفُ (أي:50%) أَيْضاً واحتمال اختفائهما معاً سوف يكون أقل من النصف (مثلاً 25%) وبضم الرواية الثَّالثة إليهما سوف ينزل احتمال اختفائهما وهكذا كلما كثرت الروايات والبيانات يكون احتمال اختفائها جميعاً ضئيلاً وضعيفاً إلى حد لا يحتفظ به الذِّهْن البشري، وَبِالتَّالِي يصل الأمر إلى أَنْ يَكُونَ احتمال اختفاء جميع هذه الروايات والبيانات مِمَّا نقطع بعدمه.
 إذن، عدم وصول البيانات الكثيرة ولو بنحو الموجبة الْجُزْئِيَّة (أي: ولو بعضها) دليلٌ رياضي (بحسب حساب الاحتمالات) عَلَىٰ عدم صدور بيانات مِنْ قِبَلِ الشَّارِع عَلَىٰ الردع عن هذه السِّيرَة. وهذا معنى ما قلناه من أن عدم الوجدان فِي هذا المورد دليل عَلَىٰ عدم الوجود، والدليل قائم عَلَىٰ حساب الاحتمالات.
 والنتيجة أن الشَّارِع لو ردع لوصل إلينا ردعُه قطعاً فإذا لم يصل فهذا دليل عَلَىٰ أَنَّهُ لم يردع، وفي الأمر الأَوَّل قلنا بأن سكوته وعدم ردعه دليل عَلَىٰ الإمضاء.
 الأمر الثَّالِث: وهو عبارة عن إثبات أَنَّهُ لم يصل (أي: إثبات بطلان التَّالِي فِي القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية الَّتِي طرحناها) وهو المحطةُ الأخيرة لاكتمال الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ.
 ولا نقصد بعدم وصول الردع إلينا عدم وصول خصوص الردع الَّذِي يكون حجةً (أي: الردع ضمن خبر صحيح أو موثق)، حتَّى الوصول الضعيف.
 أي: لو وصل إلينا الردع عن السِّيرَة ضمن روايات ضعيفة السند (ولا نحتاج أن يصل إلينا ضمن روايات صحيحة وموثقة) كفى فِي سقوط السِّيرَة عن الْحُجِّيَّة وَحِينَئِذٍ لا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بهذه السِّيرَة عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ والنكتة فِي ذلك هي أن ملاك الملازمة الَّتِي أثبتناها فِي القضية الشَّرْطِيَّة الثَّانية القائلة بأنه >لو كان قد ردع عن السِّيرَة لوصل الردعُ إلينا< إِنَّمَا هو حساب الاحتمالات الرياضي الَّذِي كان يقول: >لو صدر ردعٌ مناسب لحجمِ هذه السِّيرَة لوصل هذا الردعُ المناسب (أي: البيانات العديدة) إلينا، أو لوصل إلينا عُشرُها عَلَىٰ أقل تقدير ولو ضمن أخبار ضعافٍ؛ لأَنَّ احتمال اختفاء جميعها ضعيف جِدّاً مِمَّا نقطع أو نطمئن بعدمه وَفْقاً لحساب الاحتمال<.
 فإذا وصلنا خبرٌ ضعيف عَلَىٰ خلاف مفاد السِّيرَة فلا تَتُِمّ المحطة الأخيرة من الاِسْتِدْلاِل ولا يمكننا حِينَئِذٍ أن نقول بأنه قد وصلنا إمضاء الشَّارِع × لِلسِّيرَةِ؛ لأَنَّ السِّيرَة حِينَئِذٍ تكون قد سقطت عن الْحُجِّيَّة ولا يمكن الاِسْتِدْلاِل بها لإثبات حكمٍ شرعي، كما لا يكفي الخبر الضعيف المعارض لِلسِّيرَةِ لإثبات الحكم الشَّرْعِيّ، فيجب علينا أن نرجع إلى دليل آخر أو إلى الأصل الْعَمَلِيّ.
 وإن شئت فقل: إن الأمر لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:
 الحالة الأولى: أن يصل إلينا الردع عن السِّيرَة بأحاديث معتبرة وموثقة، ففي هذه الحالة تسقط السِّيرَةُ مِنْ دُونِ أي إشكال ولا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بها وَإِنَّمَا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بذاك الخبر الموثق القائم عَلَىٰ الردع عن السِّيرَة.
 الحالة الثَّانية: أن يصل إلينا الردع عن السِّيرَة بحديث غير معتبر، فَحِينَئِذٍ لا يثبت لنا الردعُ عن السِّيرَة؛ إذ لعل الراوي كذاب، لكن لا يثبت إمضاء الشَّارِع لِلسِّيرَةِ أَيْضاً؛ إذ كيف نثبت أن الشَّارِع أمضى هذه السِّيرَة ولم يردع عنها؛ لأَنَّ الدَّلِيل عَلَىٰ الإمضاء غير تَامّ؛ لأَنَّهُ كنّا قد اشترطنا فِي الدَّلِيل عَلَىٰ الإمضاء عدمُ وصول الردع عن السِّيرَة إلينا، باعتبار أن حساب الاحتمال والعادة تقضي بأن الردع الصادر عن الْمَعْصُوم × ينبغي أَنْ يَكُونَ بحجم السِّيرَة بحيث يقتضي أن يصل إلينا مقدار منها (عُشرها مثلاً). نعم، العادة لا تقضي أن يصل إلينا مقدار منها بطريق صحيح وحجة وموثَّق. فَحِينَئِذٍ إذا ورد الردع بطريق ضعيف لا يمكن أن نجزم بأن الشَّارِع لم يردع عن السِّيرَة، كما لا يمكن أن نجزم بأن الشَّارِع ردع عنها. وَحِينَئِذٍ كما قلنا لا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بِالسِّيرَةِ كما لا يَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بهذا الخبر الضعيف النَّاقِل للردع إلينا.
 الحالة الثَّالثة: أن لا يصل إلينا ردع عن السِّيرَة أصلاً لا ضمن خبر صحيح ولا ضمن خبر ضعيف، ففي هذه الحالة فَتَتُِمُّ الاستدلالُ بِالسِّيرَةِ عَلَىٰ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لأَنَّهُ لم يصل الردع أبداً (أي: تَمَامِيَّة المحطة الثَّالثة)، إذن يَتُِمّ الإمضاء.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo