< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/04/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: القسم3: السِّيرَة المشرِّعة/السِّيرَة/دلالة التقرير/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول
 
 التقريب الثَّانِي (الاستظهاري وليس العقلي كالتقريب الأَوَّل): وذلك بادعاء أن ظاهر حال الْمَعْصُوم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - (بوصفه المسؤول الْعَامّ عن تبيلغ الشَّرِيعَة) هو أَنَّهُ عندما يسكت عن سلوك يواجهه وموقف عقلائي عَامّ يقع بين يديه، ظاهر حاله أَنَّهُ يقبل هذا السلوك ويرتضيه، فلسكوته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ظهور حالي فِي الإمضاء، والظهور لا ينحصر بِالْكَلاَمِ فَإِنَّهُ قد يكون للسكوت ظهور فِي معنى مُعَيَّن، بل كما قيل منذ القديم قد يكون السكوت أبلغ من الكلام فِي التعبير عن المقصود.
 وهذا الظُّهُور يختلف باختلاف الأشخاص والظروف؛ فقد يكون ظهور فردٍ فِي ظرف مُعَيَّن دَالاًّ عَلَىٰ معنى ولكن سكوت فردٍ آخر فِي نفس ذاك الظَّرْف لا يكون دَالاًّ عَلَىٰ ذاك المعنى. فمثلاً سكوت الأب عن تصرف ابنه فِي ظرف مُعَيَّن قد يكون دَالاًّ عَلَىٰ رضاه وموافقته لسلوك ابنه، بينما سكوت شخص أجنبي فِي نفس ذاك الظَّرْف لا يكون دَالاًّ عَلَىٰ ذاك المعنى (عَلَىٰ الموافقة). كما أن سكوت الأب نفسه أَيْضاً تختلف دلالته باختلاف الظُّهُور؛ فقد يَدُلّ سكوته فِي ظرف عَلَىٰ الموافقة ولكن نفس هذا السكوت لا يكون له هذا الظُّهُور وهذه الدِّلاَلَة. والإمام - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بوصفه مُكَلَّفاً بتبليغ الشَّرِيعَة ومسؤولاً عن توصيل الأحكام وتوضيحها للناس، إذن سوف يكون سكوته باعتبار مقامه هذا ظَاهِراً بالظهور الْحَالِيّ فِي الموافقة والارتضاء. وهذا السكوت يشبه سكوت الأب عن تصرف ابنه، باعتباره مسؤولاً عن سكوت ابنه وتربيته.
 وَحِينَئِذٍ هذا الظُّهُور الْحَالِيّ:
 تَارَةً نفرض أَنَّهُ يبلغ درجةً من الوضوح بحيث يوجب القطع واليقين بمطابقته للواقع، فَحِينَئِذٍ يكون حجةً بلا إشكال من باب حُجِّيَّة القطع.
 وأخرى نفترض أَنَّ درجته دون القطع (أي: الظن) فَحِينَئِذٍ حاله حال سائر الظهورات. أي: نحتاج حِينَئِذٍ فِي مقام إثبات حُجِّيَّة هذا الظُّهُور إلى أن نُثبت أوَّلاً أصل حُجِّيَّة الظُّهُور كي نستدل بعد ذلك بهذا الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذِي فرغنا عن حُجِّيَّتِه) عَلَىٰ الإمضاء.
  ومن هنا يتضح لنا مطلب وهو أَنَّهُ لا يمكن أن يدخل هذا الظُّهُور الْحَالِيّ لسكوت الْمَعْصُوم (طبعاً إذا لم يكن قطعيّاً) فِي استدلالنا فِي بحث حُجِّيَّة الظُّهُور بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ كبرى حُجِّيَّة الظُّهُور.
 وبعبارة أخرى: إذا أردنا فِي بحث حُجِّيَّة الظُّهُور أن نستدل عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور بِالسِّيرَةِ الْعُقَلاَئِيَّة ونقول: بما أن سيرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور والشارع أَيْضاً سكت ولم يردع فسكوته يَدُلّ عَلَىٰ إمضائه لهذه السِّيرَة. فيأتي السؤال: كيف يَدُلّ سكوته عَلَىٰ إمضائه؟ هل عَلَىٰ أساس الظُّهُور الْحَالِيّ؟ إذا كان هكذا فهو دور؛ لأَنَّهُ لا يمكن إثبات حُجِّيَّة الظواهر من خلال السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة القائمة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظَّوَاهِر بضمّها إلى ظاهر حال الْمَعْصُوم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - الكاشف عن الإمضاء؛ فإن ظاهر حال الْمَعْصُوم أَيْضاً من الظَّوَاهِر، والكلام فِي حُجِّيَّة الظَّوَاهِر، وهذا هو الدور المصرح.
 وهذا معناه أَنَّهُ يمكننا أن نستفيد من هذا التقريب الثَّانِي فِي كُلّ سيرة عَلَىٰ أي شيء كان، إلا السِّيرَة الدالة عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور. أَمَّا إذا لم نثبت حُجِّيَّة ظاهر الحال وظاهر المقال بعدُ، وأردنا إثبات حُجِّيَّته من خلال السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة فهذا التقريب الثَّانِي لا يجدينا نفعاً، وَإِنَّمَا ينحصر إثبات «دلالة سكوت الْمَعْصُوم تجاه السِّيرَة عَلَىٰ الإمضاء» عَلَىٰ التقريب الأَوَّل.
 فتحصّل لدينا إلى الآن تقريبان لِدَلاَلَةِ السكوت عَلَىٰ الإمضاء لهذه القضية الشَّرْطِيَّة الأولى الَّتِي نحن بصدد البحث عنها وهي أَنَّهُ «لو لم يكن راضياً لَرَدَعَ»، فقد أثبتناها بالعقل وبظاهر الحال. وكلا التقريبين تَامّ وصحيح.
 ومن الطبيعي أن التقريب الثَّانِي يمتاز من التقريب الأَوَّل فِي أَنَّهُ لا يخضع لبعض الشروط الَّتِي كان التقريب الأَوَّل يخضع لها (ككون الْمَعْصُوم مُكَلَّفاً بالتكاليف الشَّرْعِيَّة الَّتِي من جملتها الأمر بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل).
 وفي ضوء هذا تبين عدم صِحَّة ما قد يقال مِنْ قِبَلِ بعض المحققين المعاصرين( [1] ) من المناقشة فِي أصل حُجِّيَّة هذا الظُّهُور الْحَالِيّ من إنكار حُجِّيَّة ظاهر الحال وإنكار حُجِّيَّة دلالة السكوت عَلَىٰ معنى مُعَيَّن ما لم يبلغ مرتبة القطع واليقين، لطالما نفترض أن هذه الدِّلاَلَة فِي مستوى الظُّهُور العرفيّ؛ إذ:
 تارة لا تبلغ هذه الدِّلاَلَةُ مرتبةَ الظُّهُور العرفيّ فيُعدُّ هذا خروجاً عن البحث؛ إذ لا فرق بين هذا الظُّهُور العرفيّ الْحَالِيّ وبين الظُّهُور العرفيّ المقالي ما دامت السِّيرَةُ هي العمدة فِي استدلالنا عَلَىٰ حُجِّيَّة الظُّهُور.
 وأخرى نفترض أن حُجِّيَّة الظُّهُور منحصرة فِي السِّيرَة الْمُتَشَرِّعِيَّة (لا السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة)، فيرد عليه بأن القدر المتيقن مِنَ السِّيرَةِ الْمُتَشَرِّعَة هو الأخذ بظاهر المقال لا ظاهر الحال.
 إذن، ذكرنا أساسين لدلالة السكوت عَلَىٰ الإمضاء أحدهما الأساس العقلي والآخر الأساس الاِسْتِظْهَارِيّ.
 ومن خلال هذا العرض اتضح أن السِّيرَة الَّتِي يُرَاد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالَّتِي قسّمناها سَابِقاً إلى قسمين: سيرة فقهية يُرَاد بها إِثْبَاتُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاقِعِيِّ، وسيرة أصولية يُرَاد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّاهِرِيّ.
 والْقِسْمِ الأَوَّل (الْوَاقِعِيِّ) ينقسم بدوره إلى قسمين: 1- الحكم الشَّرْعِيّ الْوَاقِعِيِّ التَّكْلِيفِيّ. و2- الحكم الشَّرْعِيّ الْوَاقِعِيِّ الوضعي.
 وقد تَقَدَّمَ الحديث عنهما وذكرنا الأمثلة لِكُلّ من التَّكْلِيفِيّ (ومثاله جواز التصرف فِي مال الآخرين بمجرد طيب أنفسهم ولو لم يأذنوا بالتصرف) والوضعي (ككون الحيازة سبباً لملكية الحائز).
 وما يهمنا الآن هو أن هذا القسم الأَوَّل (وهو السِّيرَة الفقهية الَّتِي يُراد بها إِثْبَات الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاقِعِيِّ) ينطبق عليه بلا إشكال كلا الأساسين (الأساس العقلي والأساس الاستظهاري) الَّذَيْنِ ذكرناهما لإثبات أن سكوت الْمَعْصُوم - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يَدُلّ عَلَىٰ الإمضاء؛ وذلك باعتبار أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونُ للشارع رأي فِي مسألة أن التصرف فِي مال الآخرين منوط بأي شيء؟! فَلاَ بُدَّ من وجود حكم شرعي واقعي فِي هذه المسألة، فإذا لم يكن حكمه مطابقاً لما يجري عليه النَّاس لكان الحكم الشَّرْعِيّ شَيْئاً آخر وكان الشَّارِع يردع عَمَّا سارت عليه النَّاس. وَحَيْثُ أَنَّ الشَّارِع لم يردع وسكت عنها فسكوته يَدُلّ عَلَىٰ الإمضاء عَلَىٰ أساس كُلّ من العقل والاستظهار. هذا بِالنِّسْبَةِ إلى الحكم الْوَاقِعِيِّ التَّكْلِيفِيّ.
 وكذلك الأمر بِالنِّسْبَةِ إلى الحكم الْوَاقِعِيِّ الوضعي كمسألة أن الحيازة تُملِّكُ وتوجِد الملكيةَ؛ فَإِنَّ للشارع فِي هذه المسألة رأي أَيْضاً، فإن لم يكن الشَّارِع موافقاً لهذه السِّيرَة القائمة لدى النَّاس فِي كون الحيازة مملِّكة لردع عنها، وحيث لم يردع عنها وسكت، فسكوته يَدُلّ عَلَىٰ إمضاء التملك بالحيازة عَلَىٰ أساس كُلّ من العقل والاستظهار.
 لكن إذا أتينا إلى القسم الثَّانِي (أي: السِّيرَة الأصولية) الَّتِي يُرَاد بها إثبات الأحكام الشَّرْعِيَّة الظَّاهِرِيَّة، من قبيل سيرة الْعُقَلاَء عَلَىٰ كُلّ من حُجِّيَّة الظُّهُور وحُجِّيَّة قول أهل الخبرة وحُجِّيَّة قول الأخصائي وحجية قول اللغوي وأمثالها مِنَ السِّيَر الموجودة لدى الْعُقَلاَء، فهناك استشكال فِي تطبيق الأساسين الذين ذكرناهما عَلَىٰ هذه السِّيرَة. وهذا الاستشكال سوف يأتي توضيحه غداً إن شاء الله تعالى.


[1] - الهاشمي، أضواء وآراء: ج2، ص246.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo