< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/28

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: السِّيرَة/الدَّلِيل الشَّرْعِيّ غير اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 قلنا: لاَ بُدَّ من البحث عن حُجِّيَّة القسم الثَّالِث من السِّيرَة، وهذا بحث عن الشرطين أو الركنين الذَّيْنِ ذكرناهما لحجية السِّيرَة، وهما:
 الشَّرْط أو الركن الأَوَّل: معاصرة السِّيرَة لزمن التشريع.
 الشَّرْط أو الركن الثَّانِي: الملازمة بين هذه السِّيرَة وبين الحكم الشَّرْعِيّ.
 أَمَّا الشَّرْط الأَوَّل: فإن أساس هذه المعاصرة واضح (كما تَقَدَّمَ)؛ إذ أنَّ السِّيرَة الَّتِي تلازمُ الحكم الشَّرْعِيّ (كما سوف يأتي فِي الشَّرْط الثَّانِي) إِنَّمَا هي عبارة عن خصوص السِّيرَة الملازمة لحكم الشَّارِع دون غيرها، وبما أَنَّنَا لم نعاصر الشَّارِع فنحتاج فِي إثبات السِّيرَة المعاصرة للشارع إلى طرق من خلالها أو من خلال بعضها نُثبت أن السِّيرَة كانت موجودة فِي عصر الشَّارِع، وَإلاَّ فمن دون هذا يبقى الاستدلال الفقهي ناقصاً؛ لأَنَّ غاية ما يصنعه الفقيه أن يتأمل فِي سيرة النَّاس اليوم ويطمئن ويثق بأن سيرتهم قائمة عَلَىٰ سلوك مُعَيَّنٍ كقيام سيرتِهم عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد فِي الموضوعات. لكن كيف يثبت أن هذه السِّيرَة بذاتها كانت موجودة فِي عصر الشَّارِع، وكان النَّاس يعملون بخبر الثقة فِي الموضوعات آنذاك. هنا يمكن ذكر عدة طرق لإثبات هذه المعاصرة:
 الطريق الأَوَّل: ما يبدو فِي أول وهلة وفِي بادئ النَّظَر وهو أن يقال: لطالما أن هذه السِّيرَة موجودة اليوم فهي كانت موجودة آنذاك أَيْضاً؛ وذلك بِعَقْلِيَّةِ الاستصحاب القهقرائي الَّتِي هي عبارة عن إحراز الماضي عن طريق الواقع الحاضر، سَوَاء كانت تلك السِّيرَة الَّتِي نريد إثبات وجودها فِي عصر التشريع كانت سيرة عُقَلاَئِيَّة أم كانت سيرة مُتَشَرِّعِيَّة؛ فإننا نقول فِي
 1)- السِّيرَة الْعُقَلاَئِيَّة إننا نحدس بأن السِّيرَة القائمة اليوم عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر الواحد فِي الموضوعات ناشئة من القريحة العامة والسليقة النَّوْعِيَّة والنكات الفطرية للعقلاء مِمَّا كانت موجودة فِي عصر الشَّارِع أَيْضاً؛ إذ أن هذه القريحة لا تختلف من عقلاءٍ إلى عقلاء. فيثبت بذلك وجود هذه السِّيرَة فِي ذاك الزمان مثلاً.
 2)- كما بإمكاننا أن نذكر بياناً آخر يعم سيرةَ الْعُقَلاَء وسيرةَ المتشرعة معاً وهو أننا إذا وجدنا اليوم سيرةً قائمةً فِعْلاً ومنعقدة مِنْ قِبَلِ النَّاس (سَوَاء مِنْ قِبَلِ العرف الْعَامّ أو مِنْ قِبَلِ المتشرعة بالخصوص) عَلَىٰ شيء مُعَيَّن اليوم، فمن البعيد جِدّاً أَنْ نفترض أنها حصلت دفعة وبصورة فجائية وانقلابية، مِنْ دُونِ أَنْ تَكُونَ هذه السِّيرَة موجودة سابقاً (فِي عصر الشَّارِع)، بحيث لا نحتمل احتمالاً متعارفاً وعقلائياً أن سيرة النَّاس آنذاك كانت عَلَىٰ شيء ثُمَّ تحولت دفعة إلى شيء آخر نجده اليوم؛ لأَنَّ من المستبعد التحول الفجائي فِي السِّيَر والبناءات الْعُقَلاَئِيَّة والارتكازات. فنقول: الظاهر أن هذه السِّيرَة الموجودة اليوم قد وصلت إلينا يداً عن يد (حسب عقلية الاستصحاب القهقهري) وَإلاَّ فإن انقلاب سيرة النَّاس فجأةً يُعدّ فِي ذاته شَيْئاً عجيباً، أو إذا حدث هكذا تحول فجائي فِي سيرتهم لَنَقَلَتْهُ كتب التأريخ.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ المدعى فِي هذا الطريق الأَوَّل هو أننا عند ما نواجه سيرة موجودة اليوم يحصل لدينا هذا الحدس أو الاطمئنان بوجودها سابقاً؛ لأَنَّهَا إذا كانت عُقَلاَئِيَّة فناشئة من القريحة الْعُقَلاَئِيَّة العامة لدى الْعُقَلاَء، وإذا كانت عُقَلاَئِيَّة ومتشرعية فمن المستبعد أن تتبدل هذه السِّيرَة ولا تنقله كتب التاريخ.
 مثلما لو قلنا بأن سيرة المتشرعة قائمة عَلَىٰ الإخفات فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة، فيقول المدعي هنا: نحن من خلال هذه السِّيرَة سوف نعلم بأن هذه السِّيرَة موجودة فِي الأجيال السابقة وفي عصر التشريع ومتلقاةٌ من ذاك العصر؛ لأَنَّه إن كانت السِّيرَة عَلَىٰ ضد السِّيرَة الموجودة فِي عصرنا فهذا شيء غريب ولو كانت لنقلت فِي كتب التأريخ. ومن الصعب أن يتحول التزام المتشرعة من شكل إلى شكل آخر نقيض له، ولابد أَنْ يَكُونُ له سبب أو ظرف مُعَيَّن لهذا التحول، وحيث لم يذكر هكذا ظرف لهذا التحول ، فنطمئن بعدم وجوده.
 والخلاصة أن هذا الطريق يجعل انعقاد السِّيرَة اليوم دليلاً عَلَىٰ أَنَّهُ كان موجوداً سابقاً وله جذور قديمة ترتفع إلى عهد الأئمة عليهم السلام، بنكتة أَنَّهُ مستعبد أن تتحول السِّيرَة من نقيض إلى نقيض.
 دراسة الطريق:
 هذا الطريق لا يمكننا أن نسلكه لإثبات معاصرة السِّيرَة لزمان الشَّارِع وذلك:
 أوَّلاً: ما ذكر من الحدس والقريحة العامة والنكات الفطرية المشتركة بين جميع الْعُقَلاَء غير تَامّ؛ فَإِنَّ السِّيرَة كما يمكن أَنْ تَكُونَ ناشئة من جهة الاشتراك الموجودة بيننا وبين النَّاس فِي ذاك الزمان، كذلك يمكن أَنْ تَكُونَ ناشئة مِمَّا نمتاز به عنهم. فلا يمكن اعتبار الواقع الحاضر دليلاً عَلَىٰ الماضي.
 وَثَانِياً: أَنَّ ما ذُكر من استبعاد انقلاب السِّيرَة وتحول الالتزام الْعُقَلاَئِيّ أو الْمُتَشَرِّعِيّ فيرد عليه أوَّلاً

أن هذا الانقلاب والتحول إِنَّمَا يكون غَرِيباً لو فرضنا حصوله الفجائي، بل قد نقطع بعدم حصول تحول فجائي مماثل (أي: بحسب حساب الاحتمالات، احتمال أَنْ تكون سيرة الْعُقَلاَء كانت قائمة عَلَىٰ الْعَمَل بخبر الثقة فِي الموضوعات مدة مديدةً، ثُمَّ فجأة تحولت هذه السِّيرَة إلى عدمها)، لكن أصل هذا الافتراض لَيْسَ هو الافتراض الوحيد الموجود عَلَىٰ طاولة البحث، بل بالإمكان أن نفترض التحول التدريجي فِي السِّيَر، فهذا أمر اعتيادي ومتعارف فِي تأريخ المجتمعات.
 ويمكن أن نذكر الإجهار فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة مثاله له؛ فَإِنَّ بالإمكان افتراض انعقاد السِّيرَة فِي أيام الْمَعْصُوم عَلَىٰ الجهر فيها؛ لأَنَّ نظر المتشرعة آنذاك كان عَلَىٰ وُجُوبِ الإجهار باعتبار وجود روايات الجهر فِي يوم الجمعة والتي لا تُحَدِّد أن الجهر فِي يوم الجمعة خَاصّ بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة من ظهر الجمعة، ثُمَّ بعد مضي مدة دقق بعض الفقهاء والتفت أَنَّهُ لا يوجد وجوب للجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة، وَإِنَّمَا الروايات تَدُلُّ عَلَىٰ الجهر من يوم الجمعة، وعمل المتشرعة وإن كان قائماً عَلَىٰ الإجهار ولكن الْعَمَل دليل صامت ولا يَدُلّ عَلَىٰ الوجوب، فلعل المتشرعة كانوا يجهرون فيها لاستحباب الإجهار، وَبِالتَّالِي برزت هذه الفتوى مِنْ قِبَلِ هذا الفقيه أو مِنْ قِبَلِ بعض الفقهاء بأن الجهر فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة غير واجب، وَبِالتَّالِي تبعه مقلِّدوه وأدى ذلك إلى عدم التزام جملة من المتشرعة بالجهر فِيها، ثُمَّ كثر الفقهاء والمحققون الَّذِين أدى نظرهم إلى الإخفات (إما اجتهاداً أو تقليداً)، ثُمَّ بعد مضي زمان استفاد بعض الفقهاء من الجمع بين الأخبار عدمَ استحباب الجهر أساساً، ثُمَّ أتى من يشكك فِي أصل جواز الإجهار فيها.
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ فرضية من هذا القبيل ليست غريبة ولا صعبة التوقع، وتجعل الفقيهَ غير قادر عَلَىٰ الاستدلال بواقع الحاضر الموجود عَلَىٰ ثبوت هذا الواقع فِي الماضي.
 وثالثاً: سلمنا أن من الغريب أن تنقلب السِّيرَة إلى ضدها، لكن من الممكن أن نفترض عدم وجود سيرة قائمة عَلَىٰ أحد الطرفين فِي زمن التشريع كمثال الجهر والإخفات، فَلَعَلَّهُ لم تكن عندهم سيرةٌ قائمة عَلَىٰ أحد الطرفين، بل كان الحكم مختلفاً فيه عند المتشرعة، فكان بعضهم يجهر وبعضهم يخفت، كما أن هناك روايات متعارضة إلى جانب اختلاف السِّيرَة بين المتشرعة والناس باعتبار الروايات المختلفة، ومن هنا كانوا يسألون الإمام × عن حكم الإجهار أو الإخفات فِي صلاة الظهر من يوم الجمعة حيث كان بعض الفرق والجماعات يجهرون والبعض الآخر كانوا يخفتون. فهذه الفرضية ممكنة أَيْضاً ولا تنحصر الفرضية فِي قيام السِّيرَة عَلَىٰ شيء مُعَيَّن آنذاك لكي نثبت أن السِّيرَة الموجودة فِي زماننا هي نفس تلك السِّيرَة آنذاك؛ إذ لعل السِّيرَة اليوم قائمة عَلَىٰ أمر مُعَيَّن ولكن فِي ذاك العصر لم تكن توجد هذه السِّيرَة، كما إذا كان هناك اختلاف بين المتشرعة.
 ورابعاً: قد لا يكون ما نراه اليوم فِي الواقع المعاصر من سيرة المتشرعة سيرةً لهم بما هم متشرعة، وَإِنَّمَا اتفقوا عَلَىٰ هذه السِّيرَة لأمور غير الشرع، فبعضهم من باب الغفلة عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيّ وبعضهم من باب النسيان، وبعضهم من باب الجري عَلَىٰ سيرة الْعُقَلاَء وذوقهم، وبعضهم من باب التقصير، ثُمَّ أتى أبناء هؤلاء ونظروا فِي سيرهم فتخيلوا أنها هي الصحيحة فجروا عليها فاستقرت السِّيرَة عليها، كما فِي مسألة بطلان معاملة الصبي (كما هو المشهور)؛ فَإِنَّ ذوق الْعُقَلاَء لا يميز بين معاملة البالغ وبين الصبي المميز، بينما قامت سيرة المسلمين عَلَىٰ صحة معاملته لكن لا بما هم مسلمون بل بما هم عقلاء أو من باب الغفلة أو من باب النِّسْبَة أو من باب التقصير أو القصور. المهم أن سيرة المسلمين كانت قائمة عَلَىٰ صحة معاملة الصبي.
 إذن أصل مسألة «الواقع الحاضر دليل عَلَىٰ الواقع المعاصر لعصر التشريع» لا نقبله.
 وبذلك نكون قد انتهينا من الطريق الأَوَّل لإثبات المعاصرة، وقد تبين بطلانه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo