< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: تنبيهات مُقَدَّمَات الْحِكْمَةِ/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 قلنا إن العامل وَالسَّبَب الثَّالِث الَّذِي قد يوجِب الانصراف ويمنع عن تَمَامِيَّةِ مُقَدَِّمَاتِ الْحِكْمَةِ والإطلاق عبارة عن مناسبة الحكم وَالْمَوْضُوع المركوزة فِي ذهن العرف والعقلاء حيث أنسوا بهذا الحكم مع هذا الْمَوْضُوع، فلا يَتَعَقَّل العرفُ أَنْ يَكُونُ هذا الحكم ثابتاً لموضوع آخر، بل يرى أن المناسب لهذا الحكم هو هذا الْمَوْضُوع. فتأتي مناسبة الحكم وَالْمَوْضُوع فِي الأحكام الشرعية والتشريعات الدينية التي لها جذور عُرْفِيَّة وَعُقَلاَئِيَّة (بخلاف التشريعات التَّعَبُّدِيَّة المحضة التي هي تأسيس من الشارع؛ لأن العرف لَيْسَ له مثل هذا التشريع، فلا معنى لمناسبة الحكم وَالْمَوْضُوع فيه)؛ لأن للعرف مثل هذا التشريع، فقد يرى العرف أن هذا الحكم وهذا التشريع يناسبه الْمَوْضُوع الفلاني ولا يناسبه الْمَوْضُوع الفلاني. وهذا الاستيناس والارتكاز العرفي يُشَكِّل قرينةً لُبِّيَّة كَالْمُتَّصِلَةِ بِالْكَلاَمِ، بحيث لا تمنع من أن ينعقد للكلام إطلاق. وقد مثّلنا له بالأمس بما لو ورد فِي خطاب شرعي أن «الماء مطهِّر»، فلا يكون الشَّارِع مُؤَسِّساً فِي هذا التشريع؛ إذ أن العرف غير الْمُتَشَرِّعِيّ أَيْضاً يعتبر الماءَ مُنَظِّفاً للقذارات، مع أن الشَّارِع والعرف يختلف عن بعضهما فِي مصاديق النجاسات والقذارات، لكنهما متفقان فِي كون الماء مُطَهِّراً للقذارات والنجاسات وَالتَّلَوُّثَات، وهذا التشريع الشرعي له منشأ وجذر عقلائي؛ فإن من الواضح أن العرف فِي تشريعه العرفيّ لا يرى أن كُلَّ ماء مُنَظِّف، بل له استيناس بِنَوْعٍ مُّعَيَّنٍ من الماء، وهو الماء الَّذِي يكون نَظِيفاً فِي نفسه، وَإلاَّ فإن العرفَ لا يرى الماء الوسخَ مُنَظِّفاً للأوساخ والمتلوثات؛ إذ من الواضح أن القذارة لا تزول بقذارة أخرى. إذن، العرفُ لا يُشَرِّعُ الْمُشَرِّعِيَّةَ فِي تشريعه لمطلق الماء ولو كان الماء فِي نفسه قذراً، وَإِنَّمَا يُشَرِّع الْمُشَرِّعِيَّةَ للماء النظيف. فهنا هذه المناسبة العرفية المركوزة فِي ذهن العرف بين هذا الحكم وهذا الْمَوْضُوع تَتَدَخَّل فِي الموقف وَيُشَكِّل مَانِعاً وَعَائِقاً من أن ينعقد إطلاق فِي قول الشَّارِع عندما قال: «الماء مُطَهِّر» فتقول: «لا يمكن التَّمَسُّك بإطلاق قوله: "الماء مُطَهِّر" ليقال: «الماء مُطَهِّر حتَّى الماء النجس؛ لأن الماء النجس ماء أيضاً ويشمله إطلاق الكلام». فلا يصح هذا الكلام؛ ذلك لأن الْمُقَدَِّمَة الثَّانية (أي: أن لا ينصب الْمُتَكَلِّم قرينة متصلة عَلَىٰ القيد) من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ غير تامة؛ لأن المولى بقوله «الماء مُطَهِّر» نصبَ قرينةً لُبِّيَّة كَالْمُتَّصِلَةِ بهذا الخطاب تقول: «لَيْسَ كُلّ ماء، بل خصوص الماء الطاهر» والقرينة اللُبِّيَّة عبارة عن هذه المناسبة العرفية المذكورة فِي ذهن العرف بين مُطَهِّرِيَّة الماء وطهارة الماء.
 لكن هذه المناسبة التي شكلت قرينةً لُبِّيَّة متصلة بالخطاب، قلنا مناسبة بين خصوص هذا الحكم (المطهرية) وهذا الْمَوْضُوع. ولذا لو تغير الحكم وبقى الموضوعُ (وهو الماء)، كما إذا غيّرنا الحكم وكان الحكم عبارة عن «المحرم لا ينظر فِي الماء»، هنا نتمسك بإطلاق الماء ونقول: النظر الحرام عَلَىٰ المحرم هو النظر فِي كُلّ ماءٍ، سَوَاءً الماء الطاهر أم الماء النجس؛ لأن تلك المناسبة العرفية التي كانت مركوزة فِي ذهن العرف والتي كانت تشكل قرينة متصلة فِي المطهرية، غير موجودة فِي المقام؛ لأن هذا الحكم (وهو حرمة نظرِ المحرِمِ إلى الماء) لَيْسَ له جذر عقلائي، بل هو حكم تعبدي محض، ومن هنا لا توجد لدى العرف مرتكزات حول هذا التشريع، بأن هذا الحكم هل يناسب هذا الْمَوْضُوع أو يناسب مَوْضُوعاً آخر؛ لأَنَّهُ جديدٌ عليه هذا التشريع. ومن هنا نَتَمَسَّك بإطلاق الماء هنا ونقول: إذا حرم النظر فِي الماء عَلَىٰ المحرم يحرم عليه فِي مطلق الماء، سَوَاءً الماء الطاهر أو الماء النجس.
 فلو كان مراد المولى خصوص الماء الطاهر فِي الجملة الثَّانية فكلامه غير واف بمراده. وهذا خلاف ظهوره الحالي؛ فإن ظاهر حال كُلّ متكلم أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده بكلامه. فيجري الإِطْلاَق هناك مِنْ دُونِ مانع.
 إذن، لا يجري الإِطْلاَق فِي مثل هذا.
 كذلك افرضوا مثالا آخر وهو الآية الكريمة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} فإن من الواضح أن المركوز عند العرف أن الناس يمسحون رؤوسهم وأرجلهم بأيديهم، فتدل الآية عَلَىٰ وجوب المسح باليد، فلو مسح رجله برجله الآخر فلا يصح.. فالآية وإن كانت مطلقة من ناحية المسح، بأن الماسح أي شيء كان، ولكن يوجد ارتكاز عرفي يصرف الآية عن ذاك المعنى وهو أن الناس يمسحون رؤوسهم وأرجلهم بأيديهم. وهذا بخلاف الغسل فإن بالإمكان أن يُغمس شخص يده أو رجله تحت الماء ويغسلها بالغمس, ولا توجد مناسبة عرفي فِي المقام.
 موجباً لانصراف الذِّهْن العرفيّ عند سَمَاع لفظ المسح إلى خصوص المسح باليد، فلا ينعقد الإِطْلاَق فِي الخطاب المذكور بحيث يشمل المسح بغير اليد.
 هذا تمام الكلام فِي التَّنبيه الرَّابِع من تنبيهات مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ.
 
 التنبيه الخامس
 إن الإِطْلاَق الْحَكَمِيّ الذي يثبت من خلاله مُقَدَِّمَة الْحِكْمَةِ يختلف عن الإِطْلاَق الْمَقَامِيّ اختلافاً جَوْهَرِيّاً وأساسيّاً؛ ذلك لأَنَّ الأمر المحتمل فِي موارد الإِطْلاَق الْحَكَمِيّ والَّذِي يُراد نفيه بالإطلاق هو شيء عَلَىٰ فرض ثبوته يكون قَيْداً فِي الْمُرَادِ الجدّي من اللَّفْظ وَمُوجِباً لتضييق دائرة مدلوله التَّصْدِيقِيّ. فعلى سبيل المثال حينما يقول: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» فَسَوْفَ يكون الأمر المحتَمل فِي المقام هو «العدالة» مثلاً، وهي عَلَىٰ فرض ثبوتها ودخلها فِي مراد الْمُتَكَلِّم تكون مُقَيَّدَة ومضيّقةً للمراد الجدّي من «العالم»، فيدور أمر المراد الجدّيّ لِلْمُتَكَلِّمِ من قوله «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»» بين أَنْ تَكُونَ العدالة دخيلة فيه وبين أن لا تكون كذلك، وَحِينَئِذٍ فَبِالإِطْلاَقِ الْحَكَمِيِّ نثبت عدم دخلها فيه وذلك عَلَىٰ أساس الظُّهُور الْعَامّ الَّذِي هو عبارة عن ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ القائل بكون الْمُتَكَلِّم بصدد بيان تمام موضوع الحكم المدلول لكلامه من خلال شخص كلامه هذا؛ فالإطلاق الحكمي ينفي القيد بهذا الظُّهُور الْعَامّ ولا يحتاج إلى قرينة وعناية خاصة فِي مورده، ومن هنا كان الإِطْلاَق الْحَكَمِيّ هو مُقْتَضَىٰ الأصل، وأما الإِطْلاَق الْمَقَامِيّ فليس كذلك. بمعنى أن الأمر المحتمل فِي موارد الإِطْلاَق الْمَقَامِيّ والَّذِي يُرَادُ نفيه بالإطلاق الْمَقَامِيّ هو شيء عَلَىٰ فرض ثبوته لَيْسَ قَيْداً فِي الْمُرَادِ الجدّيّ من اللَّفْظ والكلام الَّذِي بأيدينا وليس موجباً لضيق دائرة مدلوله التَّصْدِيقِيّ، بل هو عَلَىٰ فرض ثبوته مطلب آخر ومرام ومراد جدي آخر وراء هذا المرام والمراد الجدّيّ.
 فالإطلاق الْمَقَامِيّ مرتبط بمرام آخر علاوةً عَلَىٰ المدلول التَّصْدِيقِيّ للكلام الموجود. فَمَثَلاً إذا قال الإمام عليه السلام فِي مقام بيان الوضوء: «ألا أعلّمكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ثُمَّ قال عليه السلام: «غسل الوجه من الوضوء، وغسل اليدين جزء، ومسح الرّأْس كُلّ منهما جزء وهكذا إلى آخره. فهنا:
 تَارَةً نَشُكُّ فِي أن غسل الوجه الَّذِي هو جزء هل هو غسل الوجه كيفما اتفق أم غسله من الأعلى إلى الأسفل؟ فهنا تجري مُقَدَِّمَة الْحِكْمَةِ وَنَتَمَسَّك بِالإِطْلاَقِ الْحَكَمِيِّ لإثبات أنَّ الغَسل جزء كيفما وقع؛ ؛ لأَنَّهُ لو كانت الْجُزْئِيَّة مخصوصة بخصوص حصة خاصة من غسل الوجه (وهي حصة غسل الوجه من الأعلى مثلاً) لكان هذا قَيْداً زَائِداً فِي المرام الجدّيّ من كلامه، فكان لابد من بيانه بِمُقْتَضَىٰ الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ القائل بكونه بصدد بيان تمام ما له دخل فِي مرامه الجدّيّ بشخص كلامه، وحيث أن المفروض أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ؛ لأن كلامه لا يقتضيه ولا يَدُلّ عليه، فننفيه بِالإِطْلاَقِ الْحَكَمِيِّ وَيَتَعَيَّنُ بِمُقْتَضَىٰ ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ أن ما هو جزء فِي الوضوء إنما هو طبيعي غسل الوجه ثُبُوتاً؛ ؛ لأَنَّهُ هو الْمُبَيَّن إِثْبَاتاً. إذن، فالمرجع فِي هذه الحالة هو الإِطْلاَق الْحَكَمِيّ.
 وأخرى نَشُكُّ فِي جزئية أمر آخر غير الأمور التي ذكرها، كما لو شككنا فِي جزئية المضمضة مثلاً فِي الوضوء واحتملنا وجوبها، وكان الإمام عليه السلام قد سكت عنها فِي سياق ما ذكره من أجزاء للوضوء، فهنا لا يمكن التمسك بِالإِطْلاَقِ الْحَكَمِيِّ لإثبات عدم جزئيّتها ولا تجري مُقَدَِّمَة الْحِكْمَةِ؛ وذلك لأن المضمضة المحتمل وجوبُها هي عَلَىٰ فرض ثبوت وجوبها وجزئيّتها للوضوء فِي الواقع ليست قَيْداً فِي المرام الجدّيّ من كلامه الدال عَلَىٰ وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين، بل هي عَلَىٰ فرض ثبوت وجوبها وجزئيتها مطلب آخر ومرام جدي آخر وراء مرامه الجدّيّ هذا المدلول لكلامه؛ فوجوب المضمضة وَجُزْئِيَّتهَا حكم آخر وراء الحكم الَّذِي يَدُلّ عليه الكلام، وليس هذا الحكم قَيْداً لذاك، وَإِنَّمَا يمكن التمسك حِينَئِذٍ بالإطلاق الْمَقَامِيّ لفني جُزْئِيَّتِهَا ووجوبها بشرط أن نحرز أن الْمُتَكَلِّم كان فِي مقام استيعاب تمامِ أجزاء الوضوء وقد سكت عن جزئية المضمضة؛ فإن نفس الدَّلِيل الدال عَلَىٰ أَنَّهُ فِي مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء مع سكوته عن جزئية المضمضة يَدُلّ بِالاِلْتِزَامِ عَلَىٰ أن ما سكت عنه ولم يذكره لَيْسَ جُزْءاً للوضوء وليس وَاجِباً، وإلا لكان خلف الدَّلِيل الدال عَلَىٰ أَنَّهُ فِي مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء، ولكن الدَّلِيل الَّذِي يَدُلّ عَلَىٰ أن الْمُتَكَلِّم فِي مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء اتفاقي قد يحصل (كما فِي المثال الَّذِي ذكرناه حيث أن الظاهر من قوله: «ألا أعلّمكم وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» أَنَّهُ فِي مقام استيعاب تمام أجزاء الوضوء)، وقد لا يحصل (كما إذا قال الإمام عليه السلام رأساً وابتداءً: «غسل الوجه جزء من الوضوء»، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ ثَمَّة ما يَدُلّ عَلَىٰ أَنَّهُ فِي مقام استيفاء تمام أجزاء الوضوء، وهذا بخلاف الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ الَّذِي هو الأساس للإطلاق الحكمي؛ فَإِنَّهُ ثابت عَلَىٰ القاعدة فِي كُلّ موردٍ تصدّىٰ فيه الْمُتَكَلِّم لإبراز تمام موضوع الحكم المدلول لكلامه من خلال شخص كلامه؛ فإن ظاهر حاله أَنَّهُ قد بَيَّنَ تمام موضوع ذاك الحكم، ولذا يكون الإِطْلاَق الْحَكَمِيّ عَلَىٰ القاعدة ظُهُوراً عَامّاً ثابتاً عَلَىٰ القاعدة؛ إذ لَيْسَ هناك ظهور عام يقول: إن ظاهر حال كُلّ مَن تصدّىٰ لبيان حكمٍ ومرامٍ هو أن يبيّن حكماً ومراماً آخر أَيْضاً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo