< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/03/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: تنبيهات مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 القسم الثَّانِي (من الانصراف): هو الانصراف النّاشِئ من كثرة استعمال اللَّفظ فِي تلك الحصة الخاصة المأنوسة لدى الذِّهْن من بين سائر حصص الطَّبِيعَة؛ وذلك إما استعمالاً مجازيا، أو بنحو تَعَدّد الدَّال والمدلول؛ فَإِنَّ هذا الاستعمال الكثير والاقتران المتكرّر بين اللَّفْظ وهذه الحصة قد توجب حدوث العلاقة الشديدة بين اللَّفْظ وتلك الحصة بحيث يأنس الذِّهْن بتلك الحصة، ويكون هذا الأنس هو السَّبَب فِي انصراف اللَّفْظ عند سماعه إلى تلك الحصة وتبادرها بالخصوص إلى الذِّهْن.
 ومثاله لفظة >إمام< الَّتِي معناه اللغوي عبارة عن كُلّ من يُقتدى به، لكنها استعملت كثيراً فِي خصوص مَن يُقتدى به فِي الصَّلاَة وأريد منها هذا المعنى كثيراً، إما بنحو المجاز بأن قيل: >رأيت الإمام< وأريد به إمام الجماعة، أو بنحو تَعَدّد الدَّال والمدلول بأن قيل: >رأيت إمام الجماعة< فحصل بين اللَّفْظ وبين هذا الفرد من طبيعي >الإمام< أنس أوجب الانصراف عند استعماله.
 وهذا الأنس الذهني مسبب عن اللَّفْظ ومستند إليه؛ لأَنَّهُ ناشئ من استعمال اللَّفْظ فِي هذه الحصة الخاصة وإفادتها به، فهو أنس لفظي لا خارجي، فهو يختلف حَقِيقَة عن الأنس الموجود فِي الْقِسْمِ الأَوَّل من أقسام الانصراف؛ فَإِنَّ ذاك مسبب كما رأينا عن الغلبة الخارجية، بينما هذا حاصل بسبب اللَّفْظ.
 وهذا الأنس الناشئ من كثرة الاستعمال هو الَّذِي قد يؤدي إلى الوضع التعيّني إذا بلغ مرتبةً عالية فيصبح اللَّفْظ منقولاً عن معناه الأَوَّل أو مشتركاً بينه وبين المعنى الجديد؛ فَإِنَّ هذا الأنس له مراتب بعضها أشد من بعض، فإذا بلغ الأنس مرتبةً نسمّيها بالوضع التعيني (كما تَقَدَّمَ فِي بحث الوضع) وَحِينَئِذٍ فقد يُهجر المعنى الأَوَّل فيكون اللَّفْظ منقولاً (وقد لا يُهجر).
 وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الأنس إذا وصل إلى هذه المرتبة مِنْ دُونِ هجر المعنى الأَوَّل فَسَوْفَ يصبح اللَّفْظ حِينَئِذٍ مشتركاً لفظياً بين المعنى الأعم وبين الحصة الخاصة المأنوسة إلى الذِّهْن. وَحِينَئِذٍ إذا أطلق اللَّفْظ بعد ذلك وتردد بين المعنيين يكون مجملاً، كما هو الحال فِي كُلّ مشترك إذا أطلق ولم يعيّن أحد معنييه أو معانيه بقرينةٍ معينة.
 وَأَمَّا إذا لم يصل الأنس إلى هذه المرتبة (أي: مرتبة الوضع التعيّني) وَإِنَّمَا كان قريبا منها جِدّاً ومجرد أنس وعلاقة شديدة، فَحِينَئِذٍ سوف تصلح هذه المرتبة المعتدّ بها من الأنس لاعتماد الْمُتَكَلِّم عليها فِي مقام بيان إرادة الحصة الخاصة المأنوسة، وإن لم تصلح لإيجاد الوضع، فلا يكون الاعتماد عليها فِي مقام البيان خروجاً عن ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ السِّيَاقِيّ الَّذِي هو الأساس فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ ومخالفةً له.
 وَحِينَئِذٍ يمكن القول بأن إرادة الْمُتَكَلِّم للمقيَّد والحصة (مع وجود هذه المرتبة من الأنس بين اللَّفْظ وبين الْمُقَيَّد والحصة) لا يلزم منها الخلُف بِالنِّسْبَةِ إلى ذاك الظُّهُور؛ لأَنَّ البيان الَّذِي يجب عَلَىٰ الْمُتَكَلِّم أن يوفّره لَيْسَ بأقوى من البيان الَّذِي وفّره فِعْلاً؛ فالانصراف بهذا المعنى إذن قد يوجد الخلل فِي مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ وعدم تماميتها كما أَنَّهُ يوجب إجمال الكلام حِينَئِذٍ كما هو واضح.
 القسم الثَّالث: الانصراف النّاشِئ من المناسبات الموجودة بين الحكم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِيَّة الْعُقَلاَئِيَّة الموجودة فِي الخطاب، وذلك فِي الخطابات المتعرضة لتشريعات لها جذور عُرْفِيَّة مركوزة فِي أذهان العرف وتطبيقات عُقَلاَئِيَّة موجودة لدى الْعُقَلاَء.
 وتوضيح ذلك أن الخطاب الشَّرْعِيّ قد يتعرض لعملية أو تشريع، وهذه العملية عملية عُرْفِيَّة لها تطبيق عرفي مُعَيَّن، أو هذا التشريع هو تشريع له جذور عُرْفِيَّة، والعرف بما هو مركوز عنده من مناسبات بين هذا التشريع وبين موضوعه له نحو استيناس بمقدار هذه العملية وبحدود هذا التشريع، وَحَيْثُ أَنَّ استيناسه يكون بين الحكم وبين حصة معينة لذا فقد يكون هذا الاستيناس الناشئ من تلك المناسبات المركوزة الْعُقَلاَئِيَّة موجباً لانصراف الذِّهْن العرفيّ إلى تلك الحصة الخاصة عند سَمَاع اللَّفْظ.
 ومثاله أن يرد خطاب شرعي يقول >الماء مطهّر< وَحَيْثُ أَنَّ المطهرية حكم وتشريع له منشأ عرفي وجذر عقلائي، والمناسبة المركوزة فِي ذهن العرف بين المطهرية والمطهر هي أن الشيء المطهِّر والمزيل للقذارة لا تزول بقذارة، إذن فالعرف له استيناس بحدود هذا التشريع، وَحَيْثُ أَنَّ استيناسه إِنَّمَا هو بين هذا الحكم والتشريع (أي: المطهرية) وبين حصة معيّنة من الْمَوْضُوع (أي: الماء) وهي عبارة عن الماء الطاهر، لذا يكون هذا الاستيناس الناشئ من تلك المناسبات المركوزة موجباً لانصراف الذِّهْن العرفيّ إلى تلك الحصة الخاصة عند سَمَاع اللَّفْظ، فيفهم من دليل المطهرية بموجب مناسبة الحكم وَالْمَوْضُوع أن المراد من الماء المطهر هو الماء الطاهر فِي نفسه لا النجس، فينصرف لفظ >الماء< إلى هذه الحصة الخاصة.
 فهذا الانصراف ناشئ من مناسبة الحكم وَالْمَوْضُوع (أي: المناسبة الْعُرْفِيَّة القائلة بأن مثل هذا الحكم إِنَّمَا يناسب خصوص هذا الْمَوْضُوع وهذه الحصة الخاصة) ولذا لو تغيّر هذا الحكم إلى حكم آخر كما إذا ورد خطاب شَرْعِيّ يقول: >لا ينظر المُحرم إلى الماء< فَسَوْفَ يتغير الانصراف المذكور ويزول، فلا ينصرف الذِّهْن العرفيّ (فِي الخطاب الثَّانِي) إلى خصوص الماء الطاهر؛ إذ لا توجد مناسبة عُرْفِيَّة تقول بأن مثل هذا الحكم وهو النهي عن النَّظَر إِنَّمَا يناسب خصوص هذا الْمَوْضُوع وهذه الحصة الخاصة (أي: الماء الطاهر)، بل لا يرىٰ العرف بفهمه العرفيّ وبما لديه من مركوزات أي مانع من شمول هذا الحكم لمطلق الماء (طاهره ونجسه) ولذا يتمسك حِينَئِذٍ بإطلاق الماء، بينما فِي الفرض الأَوَّل كان لا يتقبل بفهمه العرفيّ وبما لديه من مركوزات شمول الحكم لمطلق الماء.
 إذن، فالانصراف الناشئ من مناسبات الحكم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِيَّة مانع عن انعقاد الإِطْلاَق وهادم لِلْمُقَدَّمَةِ الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ؛ لأَنَّهُ يوجب ظهوراً للكلام فِي إرادة الْمُقَيَّد والحصة الخاصة؛ لأَنَّ مناسبات الحكم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِيَّة هي قرائن لبّية متصلة تكتنف الدَّلِيل وتشارك فِي ظهوره فِي مرحلة المدلول التَّصْدِيقِيّ، وإذا تَمَّ ظهور الدَّلِيل فِي الْمُقَيَّد لم يَتُِمّ الإِطْلاَق حِينَئِذٍ لعدم تَمَامِيَّة الْمُقَدَِّمَة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، وهي عبارة عن عدم وجود قرينة متصلة عَلَىٰ التقييد.
 ومن هذا القبيل أَيْضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}( [1] ) حيث أن هذا الخطاب بتعرض لعملية مسح الرأس، وهي عملية عُرْفِيَّة لها تطبيق عرفي مُعَيَّن عند العرف وهو عبارة عن المسح باليد، حيث أن أيّ إنسان إذا أراد المسح برأسه أو أراد مسح رجله مسحه بكفّه، فالعرف له نحو استيناس بمقدار هذه العملية وَحَيْثُ أَنَّ استيناسه إِنَّمَا هو بحصة معينة من المسح وهي المسح باليد، لذا يكون هذا الاستيناس موجباً لانصراف الذِّهْن العرفيّ عند سَمَاع لفظ المسح إلى خصوص المسح باليد، فلا ينعقد الإِطْلاَق فِي الخطاب المذكور بحيث يشمل المسح بغير اليد.


[1] - سورة المائدة (5): الآية 6.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo