< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: مقدّمات الحكمة/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 تمخض عمَّا تقدّم أَنَّنَا نوافق عَلَىٰ المقدار المشتَرَط في الاحتمال الأوّل (من الاحتمالات الثَّلاثة فِي القرينة المتَّصلة) لانعقاد الإِطْلاَق (لأَنَّه القَدْرُ المتيَقَّن والأضيق بين هذه الاحتمالات الخمسة)، ونقبل به كمقدّمة ثَانيةٍ من مقدّمات الحِكْمَة وهو عبارة عن عدم وجود ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ التَّقْيِيد، وإلاَّ (فِي فرض وجود ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ) فلا تكون المقدّمة الثَّانية محفوظةً وبالتَّالي لا ينعقد الإِطْلاَق، كما فِي المثال الأوّل وَالثَّانِي والثالث من تلك الأمثلة الخمسة.
 أَمَّا الاحتمالان الآخران فيطرح حولهما سؤالان:
 السُّؤَال الأوّل: هل الاحتمال الثَّالث صحيح؟ أي: هل يشترط فِي انعقاد الإِطْلاَق عدمَ وجود ما يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ أو ما يَدُلّ فعلاً عَلَىٰ التَّقْيِيد أو حتّى ما لا يَدُلّ فعلاً عَلَىٰ التَّقْيِيد لٰكِنَّهُ لو عزل وجيء به بصورة مستقلّة لَدَلَّ عَلَىٰ التَّقْيِيد؟
 فإن قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق»، نرى أن الجملة الثَّانية (= ولا تكرم الفاسق) تَدُلّ فعلاً عَلَىٰ التَّقَييد بأَنَّهُ لا يجب إكرام العالم الفاسق (أي: الجملة الثَّانية لا تقيِّد الأولى)؛ لأَنَّ الجملة الثَّانية مطلقة كالأولى، المطلق إذا اقترن بمطلق آخر لا يَدُلّ عَلَىٰ تقييده، بل اقترانهما ببعضهما يصيّرهما معاً مجملين. ولكن إن كانت الجملة الثَّانية منفصلة ومعزولة وخليت وحدها لدلّت - ولو بإطلاقها - عَلَىٰ عدم وجوب إكرام العالم الفاسق. وعليه، فهل المقدّمة الحِكْمَة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ تبقى محفوظة هنا؟
 الجواب هو عدم الحفاظ عَلَىٰ مقدّمة الحِكْمَة فِي الاحتمال الثَّالث؛ لأَنَّهُ كان يشترط فِي المقدّمة الثَّانية عدمَ وجود جملة من هذا القبيل (عدم وجود ما لو خلي وحده لدل عَلَىٰ التَّقْيِيد)، فلا ينعقد الإِطْلاَق فِي قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» لكي يشمل «العالم العادل» و«العالم الفاسق» معاً؛ لفقدان المقدّمة الثَّانية؛ إذ أنَّها كانت عبارة عن أَنْ لاَّ يَكُونَ فِي الكلام ما لو خلي وحده لدل عَلَىٰ التَّقْيِيد، والحال أَنَّهُ يوجد فِي الكلام ما لو خلي وحده لدل عَلَىٰ التَّقييد (وهو ما يتبناه الاحتمال الثَّانِي) أو لا يشترط هذا الشَّرْط فِي مقدّمة الحِكْمَة، بمعنى أَنَّهُ حتّى لو كان فِي الكلام ما لو خلي وحده لدَلَّ عَلَىٰ التَّقْيِيد لٰكِنَّهُ فعلاً لا يَدُلّ عَلَىٰ التَّقْيِيد. فأي من الاحتمالين الثَّانِي والثالث صحيح؟
 الجواب: هو الثَّانِي، أي: نحن لا نشترط فِي المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ هذا الشَّرْط الثَّانِي، أي: حتّى لو اقترن بِالْمُطْلَقِ كلامٌ، هذا الكلام لو خلي وحده يَدُلّ عَلَىٰ التَّقْيِيد لٰكِنَّهُ فعلاً لا يَدُلّ عَلَىٰ التَّقييد، فإن ذلك لا يضرّ بانعقاد الإِطْلاَق، أي: مقتضى الإِطْلاَق تامّ حتّى مع وجود هذا الكلام؛ لأَنَّ ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي هو الأساس للدِّلالة عَلَىٰ الإِطْلاَق يقول: إن ظاهر حال الْمُتِكَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه بكلامه. فإن أراد من قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» (فِي «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق») إكرامَ خصوص العالم العادل، لا يكون كلامه وافياً ببيان هذا المراد؛ لأَنَّهُ لم يُبَيِّن التَّقْيِيد بالعدالة. بينما ظاهر حاله أن يكون كلامه وافياً بتمام مرامه. إذن، نقول: لازم هذا الظُّهُور الْحَالِيّ هو أَنَّهُ أراد من قوله «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» مطلق العالم. فلو كان يريد مطلق العالم لكان كلامه وافياً. فالمتقضي للإطلاق محفوظ فِي هذه الصُّورَة.
 وبعبارة أخرى: لو أراد المقيَّد لزم خلف الظُّهُور الْحَالِيّ؛ باعتبار أن السَّامِع - عَلَىٰ أي حال - عندما يسمع قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق» لا يتحصل له مراد الْمُتِكَلِّم وهو وجوب إكرام العالم العادل؛ لأَنَّ هذا الكلام بمجموعه «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم الفاسق» لم يُبَيِّن للسامع حكم العالم الفاسق (بأَنَّهُ يجب إكرامه لأَنَّهُ عالم، أو يحرم إكرامه لأَنَّهُ فاسق)، فلم يُبَيِّن الْمُتِكَلِّم تمام مرامه لو كان مراده واقعاً وجوب إكرام خصوص العالم العادل، أي: خالف ظهوره الْحَالِيّ، والأصل أَنْ لاَّ يَكُونَ الْمُتِكَلِّم مخالفاً لظهور حاله، بل يكون قد مشى وَفق ظهوره الْحَالِيّ بأن بيّن كل مرامه فِي كلامه. وهذا معناه أن كلامه مطلق وفِيه اقتضاء الإِطْلاَق. إذن، هذا المقدار الَّذي يشترطه الاحتمال الثَّالث لا نقبله.
 هذا فيما يخصّ السُّؤَال الأوّل من السؤالين الَّذين طرحناهما.
 السُّؤَال الثَّانِي: هل يُشترط فِي الاحتمال الثَّانِي ذاك المقدار الزَّائِد الَّذي يشترطه الاحتمال الثَّانِي إضافةً إلىٰ ما يشترطه الاحتمال الأوّل؟
 وبالرجوع إلى الاحتمال الثَّانِي نرى أَنَّهُ كان يقول: إن القرينة المتَّصلة المشترط عدمها لانعقاد الإِطْلاَق، إما هي عبارة عمَّا يصلح لِلْقَرِينِيَّةِ عَلَىٰ التَّقْيِيد، أو أنَّها عبارة عن كلام يَدُلّ فعلاً (لا لو عُزل) التَّقْيِيد. فجملة «ولا تكرم كل فاسق» فِي «أَكْرِمِ الْعَالِمَ ولا تكرم كل فاسق» (= المثال الخامس) عامّ ولا يصلح أن يكون قرينة عَلَىٰ شيء؛ إذ لَيْسَ من موارد الجمع الْعُرْفِيّ قرينية العامّ عَلَىٰ المطلق، لكن هذه الجملة الثَّانية فعلاً تَدُلّ بدلالة ناجزة ومستقرة (وليس لو عُزلت) عَلَىٰ العموم بدلالة وضعيَّة «لا تكرم كل فاسق»، أي: حتّى لو كان الفاسق عَالِماً. فتَدُلّ هذه الجملة الثَّانية فعلاً عَلَىٰ أن وُجُوب الإِكْرَامِ غير ثابت للعالم الفاسق (أي: تَدُلّ عَلَىٰ التَّقْيِيد). فهل لنا أن نعتبره قرينة متصلة لكي لا ينعقد الإِطْلاَق؟
 كان يقول الاحتمال الثَّانِي: إن هذا قرينة متصلة أيضاً، ويشترط عدمها لانعقاد الإِطْلاَق. فنريد الآنَ أن نرى هل أن هذا الشَّرْط صحيح؟ أي: لو أن المطلق اقترن بعامّ فهل اقترانه بالعامّ يسبب إنهدام المقدّمة الثَّانية من مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ، وبالتَّالي لا ينعقد الإِطْلاَق فِي المطلق أم لا؟ هذا هو السُّؤَال الثَّاني الَّذي نريد أن نجيب عنه.
 هنا يوجد وجهان وكلامان لصحة الاحتمال الثَّانِي:
 الوجه الأوّل: هو صحَّة المقدار الَّذي يشترطه الاحتمال الثَّانِي لانعقاد الإطلاق. أي: أَن العامّ المقترن بالمطلقِ بيانٌ للمقيَّد عند العرف؛ فَإِنَّ قوله: «لا تكرم كل فاسق» عامّ ودلالة العامّ وضعيَّة ويفهم العرف من العامّ العموم والاستيعاب، أي: «لا تكرم كل فاسق، حتّى لو كان الفاسق عَالِماً»، فَيُعتبر هذا الكلامُ بَيَاناً عند العرف لقيد العدالة فِي قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»، فلو أراد الْمُتِكَلِّم المقيَّد هنا لم يكن خالف ظهوره الْحَالِيّ؛ لأَنَّ ظاهر حاله أن يكون كلامه وافياً بتمام مرامه وفعلاً كلامه وافٍ بتمام مراده، فلا معنى لحمل كلامه عَلَىٰ الإِطْلاَق.
 ولطالما حكّمنا العامّ عَلَىٰ المطلق (باعتبار أن دلالة العامّ تنجيزيّة وليست مُعَلّقَةً عَلَىٰ شيء، بخلاف المطلق، حَيْث أَنَّ دلالة المطلق مُعَلّقَة عَلَىٰ تَمَامِيَّة مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ) نسنتيج بالنهاية أن وُجُوب الإِكْرَامِ ثابت لغير العالم الفاسق، أي: نُخرج العالمَ الفاسق الَّذي هو مادّة الاجتماع عن المطلق (وهو قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ») وندخله فِي «لا تكرم كل فاسق». فَالْمُقَيَّدُ هو تمام مرامه ولا يلزم الخلف. إذن، إن وجود العامّ كافٍ فِي رفع الخلف وهدم مقدّمة الحِكْمَة. فالاحتمال الثَّانِي صحيح.
 الوجه الثَّانِي: يستظهر خلاف هذا الوجه الأوّل، وهو أَنَّهُ لا يشترط فِي مقدّمة الحِكْمَة عدمُ وجود عامّ من هذا القبيل، بل حتّى مع وجوده يَتُِمّ الإِطْلاَق وينعقد؛ لأَنَّ الْمُتِكَلِّم لو أراد المقيَّد (أي: خصوص العالم العادل من قوله: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ») لم يكن قد مشى عَلَىٰ وفق الظُّهُور الْحَالِيّ بل خالفه؛ لأَنَّهُ وإن كان كلامه يَدُلّ عرفاً عَلَىٰ التَّقْيِيد، ولكن إن أمعنا النَّظَر فِي الظهور الْحَالِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ (القائل بأَنَّهُ الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه) نرى أَنَّهُ لا يقتضي أَنَّ الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه كيف ما اتفق ليتم الظُّهُور الْحَالِيّ، بل إن الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذي هو أساس الإِطْلاَق) عبارة عن أن يكون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مرامه بكلامه بمعنى أن يكون الكلام وافياً بتمام المرام بالنحو الَّذي يتطابق مع واقع المرام لا كيف ما اتفق. فواقع المرام عبارة عن تقييد العالم بالعدالة، وأين بُيِّن هذا التَّقْيِيد فِي الكلام؟ كلامه لم يكن وافياً بهذا المرام بالنحو الَّذي يتطابق مع واقع هذا المرام.
 وبعبارة أخرى: ظاهر حال الْمُتِكَلِّم أَنَّهُ إن أراد العالم العادل، يكون كلامه بلسان الْقِيْدِيَّة أيضاً، بينما لم يكن كلامه بلسان الْقِيْدِيَّة بل كان كلامه بلسان الإِطْلاَق. أجل، إن الجملة الثَّانية عامّ آخر ونحن حكّمنا العامّ عَلَىٰ المطلق، وبذلك فهم العرفُ بالكاد والقوّة أَنَّهُ لا يجب إكرام العالم الفاسق، ولكن عَلَىٰ أي حال لم يكن لسان العامّ لسان التَّقْيِيد.
 فيقول صاحب الوجه الثَّانِي: الظُّهُور الْحَالِيّ هو أن يكون كلام الْمُتِكَلِّم وافياً بتمام المرام بالنحو الَّذي يتطابق مع نفس المرام، فإذا كان نفس المرام عبارة عن التَّقْيِيد، يكون الكلام أيضاً بلسان التَّقْيِيد، لا بلسان آخر يجمع العرف بينه وبين لسان آخر ليصل إلى التَّقْيِيد فِي نهاية المطاف؛ فَإِنَّ هذا لَيْسَ مقتضى الظُّهُور الْحَالِيّ، بل مقتضى الظُّهُور الْحَالِيّ هو أَنَّهُ إذا كان مرامك التَّقْيِيد إذن يجب أن يكون فِي كلامك التَّقْيِيد أيضاً، والحال أن كلامك لَيْسَ بلسان التَّقْيِيد، نعم فُهم منه التَّقْيِيد بالنتيجة وكيف ما اتفق، لكن اللسان ما كان لسان التَّقْيِيد.
 وبعبارة ثالثة: إن العرف يأخذ التطابقَ بين مقام الإثبات مع مقام الثُّبوت فِي الحسبان والاعتبار، فإذا كانت الْقِيْدِيَّة موجودة فِي عَالَمِ الثُّبُوتِ فيجب أَنْ تَكُونَ مذكورة وموجودة فِي عالم الكلام. والعامّ الوضعيّ (= قوله: لا تكرم كل فاسق) وإن دَلَّتْ بالنتيجة عَلَىٰ أن الحكم المذكور (= إكرام العالم) مختص بالعالم العادل، لٰكِنَّهُ لَيْسَ بلسان قيدية العدالة (أي: قيدية عدم الفسق)؛ لأَنَّ هذا اللسان لَيْسَ لسانَ القيد. فلو كان مراد الْمُتِكَلِّم عبارة عن الْقِيْدِيَّة إذن يكون قد خالف الظُّهُور الْحَالِيّ. إذن، فهذا النَّحْو من بيان المقيَّد لا يوجد ارتفاع الخلف، وبالتَّالي لا يصحّ الاحتمال الثَّانِي، بل ينعقد الإِطْلاَق فِي كلمة «العالم» فِي هذا المثال( [1] ).
 هذا تمام الكلام فِي هذه الاحتمالات والتفاسير الثَّلاثة لهذه المقدّمة الثَّانية من مقدّمات الحِكْمَة، طبعاً بالصياغة المشتركة بين الآخوند والميرزا، وهي عبارة عن عدم نصب قرينة متصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد. فلم نصل بعد إلى الصِّيَاغَة الَّتي ينفرد بها الميرزا وهي عدم نصب قرينة لا متصلة ولا منفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد. فكان الاحتمال الأوّل صحيحاً والاحتمال الثَّالث قَطْعاً غير صحيح، والاحتمال الثَّانِي كان فيه وجهان، بإمكانكم أن تختاروا أيهما شئتم.


[1] - ذكر الأستاذ حفظه اللٰه بعد مجلس بحثه أَنَّهُ يميل إلى عدم صحَّة الاحتمال الثَّانِي (أي: لا يحتمل أكثر من المقدار الَّذي يشترطه الاحتمال الأوّل) بعد وضوح بطلان الاحتمال الثَّالث.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo