< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/02/06

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 بعد أن اتَّضَحَ عدمُ ورودِ الشُّبهَةِ الَّتي أثارها المُحَقِّقُ الخُراسانيُّ حولَ الإِطْلاَقِ فِي مواردِ وجودِ القَدْرِ المتيَقَّنِ فِي مقامِ التخاطبِ، يَتَّضِح أن الصَّحِيحَ جريانُ الإِطْلاَقِ فِي كُلّ الموارد التَّاليةِ:
 1)- المورد الَّذي لا يوجد فيه قَدْرٌ متيَقَّن أصلاً، كما إذا قال: «تَصَدَّق عَلَىٰ الفقير».
 2)- المورد الَّذي يوجد فيه قَدْرٌ متيَقَّن من خارج الخطاب، كما إذا قال: «تصدق عَلَىٰ الفقير» وعلمنا من الخارج أن الفقير المجاهد مثلاً أولى من غيره.
 3)- المورد الَّذي يوجد فيه قَدْرٌ متيَقَّن من داخل الخطاب، كما إذا كان السُّؤَال عن الفقير العالم وأجاب الإمام عليه السلام: «تصدق عَلَىٰ الفقير».
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ وجود القَدْر المتيَقَّن فِي مقام التخاطب لا يضرّ بالإطلاق بتاتاً، ناهيك عنه فِي خارج الخطاب.
 وللمقارنة بين تصوّرنا وتصوّر الخُراسانيّ عن المطلق والْمُقَيَّد نلفت نظر القارئ الكريم إلى مثال «تَصَدَّقْ عَلَىٰ الْفَقِيرِ»! فإذا كان العددُ الكلّي للفقراء مائة، وكان خَمْسُونَ منهم هاشميين وَخَمْسُونَ آخرون غير هاشميين، حينئذٍ يَتَرَدَّدُ الأمر بين ثبوت الحكم (وهو وُجُوب الإِكْرَامِ) لمطلق الفقير وبين ثبوت الحكم لِلْمُقَيَّدِ (= خصوص الهاشميين). وَالنِّسْبَة بين المطلق والْمُقَيَّد هنا هي نسبة الأَقَلّ والأكثر، ولكن أيهما هو الأَقَلّ وأيهما هو الأكثر؟
 الجواب: إذا كان الملحوظ فِي المقارنة بين المطلق والْمُقَيَّد هو مصاديق الحكمِ الخارجيةُ من حيث الكمّيّةِ (بأن تكون مصاديق المطلق أكثر من مصاديق المقيَّد خارجاً أو أقل منها)، فمِنَ الْوَاضِحِ - حسب هذا التَّصَوُّر - أنْ يكون المقيَّدُ هو الأَقَلّ، والمطلقُ هو الأكثر.
 هذا، بينما يلحظ التَّصَوُّر الثَّانِي (فِي المقارنة بين المطلق والْمُقَيَّد) العنوانَ الَّذي يقع مَوْضُوعاً للحكم فِي عالم الجعل، عَلَىٰ أن تنقلب الآيةُ وَالنِّسْبَةُ - وَفق هذا التَّصَوُّر - ليكون المقيَّدُ هو الأكثر، والمطلقُ هو الأَقَلُّ؛ إذ لو كان الحكم (وهو وجوب التصدق) ثابتاً للمطلق (وهو الفقير) - فِي هذا التَّصَوُّر - لكان مَوْضُوع الحكم فِي عالم الجعل عبارة عن ذات الفقير فحسب، خلافاً لما إذا كان الحكم ثابتاً للمقيَّد (وهو الفقير الهاشمي) فحينئذٍ لا يكون مَوْضُوع الحكم عبارة عن ذات الفقير، بل يكون عُنْوَاناً مُرَكَّباً من جزأين هما «الفقير» و«الهاشمي»، وبالتَّالي يصبح المقيَّد هو الأكثر والأزيد والمطلقُ هو الأَقَلّ، عَلَىٰ عكس النَّتِيجَة الَّتي تمخضت عن التَّصَوُّر الأوّل.
 وكلام المُحَقِّق الخُراسانيّ راجع روحه إلى التَّصَوُّر الأوّل؛ لأَنَّ تمام مرام الْمُتِكَلِّم بلحاظ الأفراد الموجودين فِي الخارج عبارة عن وجوب إكرام خمسين منهم؛ لأَنَّ الموجود خارجاً هو خَمْسُونَ هاشميّاً، والمفروض أن كلامه قد وفى بذلك؛ لأَنَّ هؤلاء الخمسين هم القَدْرُ المتيَقَّن فِي مقام التخاطب؛ إذ هم مورد السُّؤَال بحسب الفرض. فلا يلزم الخلف لو أراد المقيِّد، فلا ينعقد لكلامه إطلاق.
 ونحن لنا كلامان مع الخُراسانيّ:
 أوَّلاً: أنَّ أساس التَّصَوُّر الأوّل (عن المطلق والْمُقَيَّد) غير صحيح ومرفوض، وإِنَّنَا نأخذ بالتصور الثَّانِي (القائل بأن الْمُطْلَقِ والْمُقَيَّد إِنَّمَا هما بلحاظ ما هو موضوع الحكم فِي عالم الجعل) ونقول: لو أراد الْمُتِكَلِّم المقيَّدَ (الَّذي هو الهاشمي فحسب) لا يكون قَدْ بَيَّنَ تمامَ مراده (رغم أن المقيَّد هو القَدْر المتيَقَّن؛ لأَنَّهُ وقع مورد السُّؤَال)؛ لأَنَّنَا نقصد بـ«تمام المرام» تمام العنوان الَّذي هو مَوْضُوع (كلي) للحكم فِي عالم الجعل، والمفروض أن يكون كلام الْمُتِكَلِّم وافياً بكل ما هو مَوْضُوع للحكم فِي عالم الجعل.
 إذن، إن الخطاب مرتبط بعالم الجعل وليس مُرْتَبِطاً بالمصاديق الخارجية؛ إِذْ أَنَّ الخطابات لا تَدُلّ إلاَّ عَلَىٰ جعل الحكم عَلَىٰ مَوْضُوع محدّد. فإذا أريد من الكلام أن يكون وافياً بتمام المرام يجب أن يكون الكلام وافياً ببيان كل ما هو مَوْضُوع الحكم فِي عالم الجعل. فإن أراد المولى خصوص المقيَّد (الفقير الهاشمي الَّذي وقع السُّؤَال عنه) لم يُبَيِّن فِي كلامه ما هو تمام مَوْضُوع الحكم فِي كلامه؛ إذ أَنَّ «تَصَدَّقْ عَلَىٰ الْفَقِيرِ» خطاب يتكفَّل بيان حكمٍ ثابت عَلَىٰ مَوْضُوع محدّد هو «الفقير». فإذا فرضنا أن تمام المرام وتمام ما هو مَوْضُوع الحكم عند المولى هو الفقير الهاشمي، لا يكون كلام الإمام وافياً ببيان تمام ما هو مَوْضُوع الحكم.
 أجل، إن إكرام الفقير الهاشمي واجب عَلَىٰ أي حال؛ لأَنَّهُ مَوْضُوع السُّؤَال، لكن هل يجب إكرامه لوجوب إكرام الفقير الهاشمي دون غيره، أو يجب إكرامه من منطلق وجوب إكرام مطلق الفقير، ومن جملتهم الفقير الهاشمي؟!
 فلو أراد المقيَّد لم يكن كلامه وافياً بتمام المرام، لأَنَّ تمام المرام (= مَوْضُوع الحكم) مركب من جزأين (= الفقير والهاشمي) والإمام بيَّنَ جزءاً وهو الفقير الهاشمي ولم يُبَيِّن الجزء الآخر، فلم يكن كلامه وافياً بتمام مراده، فيلزم الخلف، و من هنا نَقُول: ينعقد الإِطْلاَق لكلام الإمام عليه السلام؛ لأَنَّهُ لو لم يرد المطلق وأراد المقيَّد خالف ظهوره الْحَالِيّ. إذن فالظهور الْحَالِيّ يقتضي أَنَّهُ عليه السلام أراد المطلق، وهذا معناه أن القَدْر المتيَقَّن لم يضرّ بالإطلاق.
 وَالْحَاصِلُ أَنَّ المقصود من الظُّهُور الْحَالِيّ (القائل بأن الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام مرامه) هو كون المتكلِّم فِي مقام بيان تمام ما هو مأخوذ فِي موضوع الحكم فِي مقام الجعل؛ لأَنَّ هذا هو مدلول الخطاب (لأَنَّ الخطابات بشكل عامّ تَدُلّ عَلَىٰ جعول وتشريعات) وليس المقصود من الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام ما هو مصداقٌ لحكمه خارجاً. وشتّان بين المطلبين.
 فَيَكُونُ المقيَّد بلحاظ هو الأكثر والمطلق هو الأَقَلّ (أي: أضفنا عنصراً زائداً عَلَىٰ عنصر الطَّبِيعَة. أي: هل الطَّبِيعَة أكثر؟ أو الطَّبِيعَة مع شيء آخر، أكثر؟).
 عَلَىٰ كل حال، بناءًا عَلَىٰ هذا التَّصَوُّر فِي موارد وجود القَدْر المتيَقَّن فِي مقام التخاطب، بُيِّن لِلْمُقَيَّدِ أن وُجُوب الإِكْرَامِ ثابت له، ولكن لم يُبَيِّن أَنَّهُ مَوْضُوع الحكم. فلو أراد المولى هذا لم يكن كلامه وافياً ببيانه. وهذا خلاف ظاهر حال المولى؛ إِذْ أَنَّ ظاهر حاله أَنَّ كلامه وافٍ ببيان موضوع الحكم، والمولى قال: «أكرم الفقير»، فنتمسك بإطلاق الفقير ونقول: إن مَوْضُوع الحكم هو ذات الفقير، هاشميّاً كان أم غيره.
 وثانياً: يَسْتَلْزِم من التَّصَوُّر الأوّل عدّة محاذير نسردها تباعاً:
 المحذور الأوّل: هو ما تقدّم شرحه في البحوث السَّابِقَة من الالتزام بعدم تَمَامِيَّة الإِطْلاَق بناء عَلَىٰ التَّصَوُّر الأوّل فِي موارد وجود القَدْر المتيَقَّن فِي مقام التخاطب، حتّى لو كان ظاهر حال الْمُتِكَلِّم كونه فِي مقام بيان تمام المراد وأنه هو التمام (أي: حتّى إذا كان مفاد الظُّهُور الْحَالِيّ أَمْرَيْنِ).
 المحذور الثَّانِي: عدم إمكانية التَّمسُّك بالإطلاق حتّى فِي موارد وجود القَدْر المتيَقَّن من خارج الخطاب، كما إذا افترضنا أن الإمام عليه السلام قال ابتداءً: «تَصَدَّقْ عَلَىٰ الْفَقِيرِ» (مِنْ دُونِ السُّؤَال والجواب)، وعلمنا من الخارج (ومن القيم الَّتي تهتم بها الشّريعة) أن بعض الفقراء أولى من الآخرين، فمن الطَّبِيعِيّ أن نتمسك بالإطلاق، بينما بناء عَلَىٰ تصوّر الخُراسانيّ المتقدّم لا يَتُِمّ الإِطْلاَق فِي هَذَا الْفَرْضِ. أو المثال الفقهيّ المتقدّم «ثمن العذرة سحت» لا يوجد فيه القَدْر المتيَقَّن فِي داخل الخطاب؛ لأَنَّهُ كلام ابتدائي من الإمام عليه السلام، ولا يوجد فيه سؤال، لكن نعلم من خارج السُّؤَال أن عذرة الحيوان المحرم أكله هو المتيقن، بحيث لا نحتمل أن هذا الحكم يختصّ بعذرة الحيوان المحلل الأكل ولا يشمل الحيوان المحرم الأكل.
 فهنا بناءًا عَلَىٰ تصوّر الخُراسانيّ لا يَتُِمّ الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ معنى كون الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام المراد هو أَنَّهُ فِي مقام بيان تمام الأفراد والمصاديق الَّتي يريدها، وليس معناه بيان تمام ما هو مَوْضُوع للحكم فِي مقام الجعل. فلا يلزم الخلف - بناءًا عَلَىٰ هذا التَّصَوُّر - إذا أراد الْمُتِكَلِّم المقيَّدَ. فعلى سبيل المثال إن كان مقصوده من «الفقير» هو «الفقير المجاهد» (القَدْر المتيَقَّن الَّذي نعلمه من الخارج) لا يلزم الخلف؛ لأَنَّهُ قد بيَّن هذا المرام والمراد فِي كلامه، ولو فِي ضمن بيان المطلق؛ فهو قَدْ بَيَّنَ وجوب إكرام الفقير المجاهد ولو فِي ضمن المطلق. فلا يمكننا أن نقول: «إن أردت المقيَّد لم تمش على ظهور حاله، فمرادك المطلق»، بل يحتمل أن يكون مراده المطلق كما يحتمل أن يكون مراده المقيَّد، فلا ينعقد لكلامه إطلاق.
 فلطالما أن الظُّهُور الْحَالِيّ عند الخُراسانيّ هو أن الْمُتِكَلِّم فِي مقام بيان تمام ما هو مصداق للحكم خارجاً (التَّصَوُّر الأوّل عن المطلق والْمُقَيَّد)، فلماذا تخصصون الْقَضِيَّةَ بالقدر المتيقن فِي مقام التخاطب؟ بل إن القَدْر المتيَقَّن من خارج الخطاب يضرّ بالإطلاق أيضاً؛ للنُّكتة نفسها الَّتي تذكرونها للقدر المتيقن داخل الخطاب.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo