< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/12/24

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 كانَ الكلامُ في التَّقريب الأوّل للفرضية الثَّانية لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، وكان حاصله - كما شرحناه بالأَمْسِ - هو أن اسم الجنس مع تجرده عن القيد مَوْضُوع للدِّلالة عَلَىٰ الإِطْلاَق. فكأنَّ اسم الجنس له وضعان: وضعٌ لاسم الجنس فِي حدّ ذاته للماهيَّةِ (وهي الَّتي نعبر عنها بالمهملة)، ووضع آخر لاسم الجنس مجرداً عن القيد (بشرط لا عن القيد) للماهيَّةِ المطلقة.
 وقد وُجِّه إلى هذا الكلام اعتراض يَقُولُ: إِنَّهُ إذن لو استعمل اسم الجنس وحده مِنْ دُونِ ذكر القيد يصبح اسم الجنس مشتركاً لفظيّاً لما له من معنيين:
 المعنى الأوّل: الْمَاهِيَّة المهملة بحكم الوضع الأوّل.
 والمعنى الثَّانِي: هو الْمَاهِيَّة المطلقة، بحكم الوضع الثَّانِي.
 والمفروض هنا هو تجرد اسم الجنس عن القيد، فيدور مراد الْمُتِكَلِّم بين المعنيين. وعدم وجود قرينة فِي المقام يحيل دون استفادة الإِطْلاَق ويعرقلها.
 وَقُلْنَا: إِنَّ بالإمكان الإجابة عن هذا الاعتراض بأن الأصل الأوليّ فِي المشترك اللَّفظيّ هو أن الْمُتِكَلِّم يريد كلا المعنيين المشتركين لفظيّاً من منطلق كونهما حقيقيّين (لأَنَّ الأصل فِي كُلّ متكلم أن يريد المعنى الحقيقي)، إلاَّ أَنَّنَا إن قلنا بأن الْمُتِكَلِّم إن أراد «كلا المعنيين» المشتركين لفظيّاً (مثل كلمة «قروء» فِي قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} حيث أنها مشترك لَفْظِيّ بين «ثلاثة حيضات» وبين «ثلاثة أطهار») فيلزم منه محذور تعدّد اللِّحَاظ (أي: يلزم منه لحاظ شَيْئَيْنِ متباينين) وإن أراد «أحدهما دون الآخر» فهو ترجيح بلا مرجِّح وإن أراد«أحدهما الْمُرَدَّد» فَيَكُونُ فاقداً للمعنى.
 إذن، إن مَحْذُور تعدّد اللِّحَاظ هو سرّ ابتلاء المشترك اللَّفظيّ بالإجمال (وإلا فكنّا نحمله عَلَىٰ كلا المعنيين)، فنحتاج إلى قرينة معيِّنة لرفع هذا الإجمال (لا القرينة الصارفة الَّتي يحتاجها المجازُ).
 أَمَّا فِي خصوص ما نحن فيه لا مَحْذُور فِي حمل اسم الجنس عَلَىٰ كلا المعنيين ولا يلزم مَحْذُور تعدّد اللِّحَاظ؛ لأَنَّ أحد معنيي اسم الجنس هو الْمَاهِيَّة (بالوضع الأوّل) وَالثَّانِي هو الْمَاهِيَّة المطلقة (بالوضع الثَّانِي). وهذان المعنيان متداخلان؛ إِذْ أَنَّنَّا حينما نلحظ الْمَاهِيَّة بلحاظ واحد نرى أنَّها موجودة فِي ضمن الْمَاهِيَّة المطلقة. إذن، لا يوجد مَحْذُور باسم تعدّد اللِّحَاظ فِي هَذَا الْفَرْضِ.
 هذا هو الجواب الَّذي قد يذكر عَلَىٰ هذا الإشكال. فإن تَمَّ هذا الجواب عندنا فبه ونعم، وإلا فعلينا أن نعدل الجواب تعديلاً لا يرد عليه هذا الإشكال.
 تعديل التَّقريب: هو أن لا نفترض اسم الجنس مَوْضُوعاً بوضعين أحدهما وضعٌ للماهيَّةِ والآخر وضعٌ لـ«عدم ذكر القيد» حيث أَنَّهُ مَوْضُوع فِي اللُّغَة للإطلاق. أي: هذا الأمر المعنويّ الَّذي نعبر عنه بالتجرد عن ذكر القيد هذا وُضع للإطلاق لغةً. وحينئِذٍ لا يوجد لدينا مشترك لَفْظِيّ حتّى يأتي ذاك الإشكال (بأن المشترك اللَّفظيّ يحتاج إلى قرينة مُعَيِّنَة ولا توجد قرينة مُعَيِّنَة فِي المقام)، بل عندنا وضع لاسم الجنس ووضع آخر للتجرد عن ذكر القيد.
 هذا هو التَّقريب الأوّل للفرضية الثَّانية، فهل هذا التَّقريب (سواء بشكله المعدَّل أو بشكله غير المعدَّل) صحيح أو لا؟
 الجواب عن التَّقريب بشكليه: هو أن هذا التَّقريب وإن كان معقولاً ثبوتاً وفي نفسه، لكن يرد عليه أَنَّهُ خلاف الاستظهار الْعُرْفِيّ الخارجيّ؛ فَإِنَّنَا نلاحظ خارجاً فِي موارد عدم تَمَامِيَّة ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ السياقي (الَّذي تحدثنا عنه فِي الْفَرَضِيَّة الأولي)، بل كان (بصدد الإهمال والإجمال) متعمّداً أن يذكر كلامه مُجْمَلاً ومهملاً، لغرض من أغراضه، كالآيات المتشابهة فِي القرآن الكريم، فلا نستفيد الإِطْلاَقَ فِي هذه الموارد، والحال أن المفروض بناءًا عَلَىٰ هذا التَّقريب هو استفادة الإِطْلاَق بينما لا تَتُِمّ استفادته؛ لأَنَّهُ لم يكن بصدد تمام مراده بكلامه، وهذا يكشف أن استفادة الإِطْلاَق منوطة بذاك الظُّهُور الْحَالِيّ، وإلا لو كانت استفادة الإِطْلاَق مرتبطة بوضع اسم الجنس (بالنحو الأوّل وهو أَنَّهُ مع عدم ذكر القيد مَوْضُوع للإطلاق أو بالنحو المعدَّل بأَنَّ اسم الجنس مَوْضُوع للماهيَّةِ وعدم ذكر القيد مَوْضُوع للإطلاق) لكان المفروض أن نستفيد الإِطْلاَقَ حتّى فِي موارد الإهمال والإجمال (= حتّى فِي الموارد الَّتي لا يكون الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مراده بكلامه)؛ فإنكم ربطتم الإطلاق بالوضع، لا بالظهور الحالي، فينخرم هذا التَّقريب الأوّل.
 فهذا منبه وجداني عَلَىٰ عدم صحَّة هذا التَّقريب، وعدم إمكان الاستغناء فِي مقام استفادة الإِطْلاَق من ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ السياقي الَّذي ذكرناه.
 التَّقريب الثَّانِي لهذه الْفَرَضِيَّة الثَّانية أن يقال: إن اسم الجنس فِي حدّ ذاته موضوع لأصل الْمَاهِيَّة وهذا ما قد فرغنا عنه سابقاً، لكن العقلاء تعهدوا بِأَنْ يَّكُونَ عدم ذكر القيد كاشفاً عندهم عن الإِطْلاَق، أي: تبانى العقلاء عَلَىٰ أَنَّهُ متى ما ذَكروا اسم الجنس ولم يذكروا القيد أرادوا الإِطْلاَق، فهذا تعهد عُقَلاَئِيّ يكشف عن الإطلاق.
 وتوضيحه: لو بينينا نحن فِي باب الوضع عَلَىٰ مسلك التَّعَهُّد الَّذي بنى عليه السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله وقال: لَيْسَ الوضع أساساً إلاَّ تعهد مِن قِبَلِ كل متكلم بأَنَّهُ إذا ذكر اللَّفظ (كالأسد) يريد منه المعنى الفلاني (وهو الحيوان المفترس فِي المثال). ومن هنا يرى رحمه الله أنَّ كل متكلم هو واضع، لا أنَّ هناك واضعاً وضع الألفاظ للمعاني ليأتي الآخرون ويستعملوها فِي تلك المعاني. وإذا كان هكذا فَيَكُونُ هذا التَّقريب راجعاً إلى التَّقريب الأوّل؛ لأَنَّ التَّعَهُّد هو وضعٌ، وسوف يكون الإِطْلاَق مستفاداً من الوضع.
 أَمَّا إذا لم نبن عَلَىٰ مبناه رحمه الله ولم نقل بأن حقيقة الوضع هي التَّعَهُّد - كما لم نقل به - بل قلنا بالقرن الأكيد، فحينئذٍ يصبح هذا التَّقريب تقريباً مستقلاًّ عن التَّقريب الأوّل، بل يرتبط بالتزام والتَّعهد العُقَلاَئِيّ المخصوص الَّذي يكشف عن إرادة الإِطْلاَق عند العقلاء، بأنهم كُلَّمَا ذكروا اسم الجنس ولم يذكروا القيد.
 الجواب: أَنَّهُ يرد عَلَىٰ هذا التَّقريب نفس الإيراد الَّذي أوردناه عَلَىٰ التَّقريب السَّابِقَ، وهو أَنَّهُ يلزم من هذا التَّقريب أن نستفيد الإِطْلاَق حتّى فِي موارد عدم تَمَامِيَّة ذاك الظُّهُور الْحَالِيّ (أي: فِي مورد علمنا وجزمنا أن الْمُتِكَلِّم لم يكن بصدد بيان تمام مراده بكلامه)؛ لأَنَّ هذه الْفَرَضِيَّة لا تُربط الإِطْلاَقَ بالظُّهُور الْحَالِيّ لِلْمُتِكَلِّمِ بل يفترض أن هناك تعهداً والتزاماً عُقَلاَئِيّاً بأَنَّهُ كُلَّمَا ذكروا اسم الجنس ولم يذكروا القيد يريدون الإطلاقَ، والحال أَنَّنَا لا نستفيد الإِطْلاَق فِي الموارد الَّتي نعلم بأن الْمُتِكَلِّم بصدد الإجمال قَطْعاً. فلو كان الإِطْلاَق مُرْتَبِطاً بهذا التَّعَهُّد والالتزام الْعُقَلاَئِيّ لكان المفروض أن نستفيد الإِطْلاَق حتّى فِي موارد تعهد الإجمال والإهمال مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم. وهذا دليل عَلَىٰ أن الإِطْلاَق إِنَّمَا هو من شؤون الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِيَّة لذاك الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي ذكرناه، وليس ناشئاً من ملاك مستقلّ، سَوَاءٌ كَانَ هذا الملاك المستقل عبارة عن الوضع، أو كان عبارة عن التَّعَهُّد، أو أي شيء آخر؛ لأَنَّهُ لو كان له ملاك مستقلّ لَمَا ارتبط الإطلاقُ بذاك الظُّهُور وجوداً وعدماً، بينما نحن نرى أَنَّهُ مرتبط به.
 إذن، فالفرضية الثَّانية لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس غير تامَّة (وهي فرضية استفادة الإِطْلاَق من شيء آخر غير الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم ذكره).
 فَالصَّحِيحُ فِي المقام عبارة عن الْفَرَضِيَّة الأولى الَّتي تقول: إن الإِطْلاَق إِنَّمَا يستفاد من قرينة الحِكْمَة، بدعوى أن الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِيّ لظهور حالي ينعقد لِلْمُتِكَلِّمِ عادةً، وهذا الظُّهُور مفاده ومقتضاه أن الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مرامه بكلامه، وهذا الظُّهُور يَسْتَلْزِم (له دلالة التزامية عُرْفِيَّة وعقلية) عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم أراد المطلق؛ لأَنَّ المفروض أن لا يزيد كلامه عَلَىٰ مرامه ولا مرامه يزيد عَلَىٰ كلامه. وهذا الظُّهُور فِي الواقع عبارة عن صياغة فنية لمقدمات الحِكْمَة الَّتي ذكرها الأصحاب.
 والآن بعد أن اتَّضَحَ ارتباطُ استفادة الإِطْلاَق بهذا الظُّهُور الْحَالِيّ، وتبيَّن أن منشأ دلالة الكلام عَلَىٰ الإِطْلاَق هو هذا الظُّهُور الْحَالِيّ، فحينئذٍ لا بُدَّ لنا أن نتعرض لخلافين فِي المقام ويرجع كل من هذين الخلافين فِي الحقيقة إلى تحديد هذا الظُّهُور الْحَالِيّ (بعد أن أثبتنا أصلَه)، فما هو بالضَّبط؟
 الخلاف الأوّل: حول أن المقيِّد المنفصل أو قل القيد المنفصل أو قل القرينة المنفصلة عَلَىٰ التَّقْيِيد، هل هذه تهدم الظُّهُور والإطلاق أو لا؟
 الخلاف الثَّانِي: حول وجود القَدْر المتيَقَّن فِي باب التخاطب هل يخلّ بالظهور والإطلاق أو لا؟ وكل من هذين الخلافين يرجع إلى الخلاف حول هذا الظُّهُور الْحَالِيّ، فلا بُدَّ من أن ندرس الخلافين معاً،
 أَمَّا الخلاف الأوّل حول القرينة المنفصلة، فقد اتفقوا عَلَىٰ أن المقيِّد المتصل يهدم الظُّهُور (مثل: «أكرم الإنسان العالم» حيث أنَّ كلمة «العالم» تمنع من أن ينعقد للإنسان إطلاق) ثم اختلفوا فِي أن المقيِّد المنفصل (مثلما إذا قال: «أكرم الإنسان» ثم سكت سكوتاً طويلاً يعتبره العرف مُنْفَصِلاً عن الكلام الثَّانِي الَّذي ذكر فيه «العالم») هل يهدم ظهور الكلام الأوّل فِي الإطلاق، أو أن هذا لا يهدم ظهور الأوّل المنعقد فِي الإِطْلاَق، بل عندنا كلام مطلق وعندنا كلام آخر مقيِّد، فيتكاذبان بعضهما البعض ويدخلان فِي باب التعارض، والعرف حينئذٍ يجمع بينهما بحمل المطلق عَلَىٰ المقيَّد. أي: يسبب الكلام الثَّانِي أن نرفع اليد عن الكلام الأوّل. أي: تسقط حجية الكلام الأوّل ولا يسقط ظهوره الإطلاقي.
 وسوف ندرس الصَّحِيح منهما إن شاء اللٰه فِي يوم السبت، أَمَّا غداً فيصادف استشهاد الإمام السجاد عليه السلام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo