< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

33/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول
 
 قلنا إن الْمُسْتَفَادَ من اسم الجنس حين استعماله مِنْ دُونِ القيد هو الإطلاق، رغم أن اسم الجنس لم يوضع فِي اللُّغَة للماهية مع الإِطْلاَق، وإنَّما وضع لذات الْمَاهِيَّة، مع ذلك يستفاد منه الإِطْلاَق. وقلنا إِنَّه توجد فرضيتان لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، كلتا الفرضيتين تُسَلِّم وتقبل أن اسم الجنس لم يوضع للماهية المطلقة، بل هي مَوْضُوع لذات الْمَاهِيَّة، لكن مع ذلك يُستفاد منه الإِطْلاَق. هَاتَانِ الفرضيتان نذكرهما تباعاً:
 الْفَرَضِيَّة الأولى: هي أنَّ الإِطْلاَق يُستفاد من اسم الجنس (رغم أَنَّهُ لَيْسَ مدلولاً وَضْعِيّاً لاسم الجنس)؛ لأَنَّ هذا الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِيّ لظاهر حال الْمُتِكَلِّم القاضي بأَنَّهُ فِي صدد بيان تمام مراده بكلامه، ولازم هذا الظُّهُور الْحَالِيّ (اللاَّزِم العَقْلِيّ أو الْعُرْفِيّ) هو أَنَّهُ عندما يقول: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» مثلاً يريد من «العالم» الطَّبِيعَةَ المطلقة ولم يرد الطَّبِيعَةَ المقيّدة بقيد العدالة أو بأي قيد آخر؛ لأَنَّهُ لو كان قد أراد من قوله «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» المقيَّدَ وهو وجوب إكرام العالم العادل بالخصوص، فمعنى ذلك أَنَّهُ لم يُبَيِّن تمام مراده؛ لأَنَّ المفروض أن تمام مراده هو المقيَّد، بينما فِي كلامه أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ الْمَاهِيَّة ولم يأت بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ التَّقْيِيد (= على العدالة). إذن، لو كان قد أراد «العالم العادل» والحال أَنَّهُ قال: «العالم» فهذا معناه أَنَّهُ قد بَيَّن بكلامه بعض مراده، وهذا خلاف الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم ذكره.
 فإرادة المقيَّد مخالفة مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم لهذا الظُّهُور الْحَالِيّ، وهذا بخلاف ما إذا افترضنا أَنَّهُ أراد من قوله «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» المطلقَ، فلو كان مراده المطلق لكان يبيّن تمام هذا المراد بكلامه؛ لأَنَّ تمام مرامه حَسَبَ الْفَرْضِ هو ذات الْمَاهِيَّة، مِنْ دُونِ دخل القيد، وقد أتى فِي الكلام بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة، وهو اسم الجنس. فقد تقدّم فِي الجهة الأولى من البحث فهو لم يرتكب مخالفة لذات الظُّهُور الْحَالِيّ. إذن فلازم الظُّهُور الْحَالِيّ المذكور هو أن يكون الْمُتِكَلِّم قد أراد المطلق لا المقيِّد.
 هذا هو جوهر وروح قرينة الحِكْمَة.
 قلنا: إن هذا الكلام قد يُعترض عليه بأن هذا الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي ذكرتموه صحيح؛ إذ لا إِشْكَال فِي أن ظاهر حال كل متكلم حينما يتكلم أَنَّهُ فِي صدد بيان تمام مراده بشخص كلامه، لكِنَّنََا لا نقبل قولكم «إنَّ لازم هذا الظُّهُور الْحَالِيّ هو أَنَّهُ أراد المطلق»، فلا نقبل أن يكون الإِطْلاَق مدلولاً اِلْتِزَامِيّاً لهذا الظُّهُور الْحَالِيّ؛ لأَنَّهُ عَلَىٰ كل تقدير (سَوَاءٌ كَانَ قد أراد المطلق أو أراد المقيِّد) لم يمش وَفق الظُّهُور الْحَالِيّ بل ارتكب مخالفة؛ لأَنَّهُ إما يريد المقيَّد وإما يريد المطلق. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني. أَمَّا عَلَىٰ الأوّل فواضح بأَنَّهُ ارتكب مخالفة، وأمّا لو كان مراده المطلق أيضاً لم يبيّن تمامَ مراده بكلامه؛ لأَنَّ تمام مراده حَسَبَ الْفَرْضِ هو الْمَاهِيَّةُ والإطلاق، بينما لم يأت فِي كلامه بما يَدُلّ عَلَىٰ الْمَاهِيَّة والإطلاق، بل أتى فِي كلامه بما يَدُلّ عَلَىٰ الْمَاهِيَّة وهو اسم الجنس، وقد فرغنا فِي الجهة الأولى من أن اسم الجنس يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة ولا يَدُلّ عَلَىٰ الإِطْلاَق. إذن يكون قد خالف الظُّهُور الْحَالِيّ أيضاً. إذن، ارتكب هذا الْمُتِكَلِّم مخالفة للظهور الْحَالِيّ سواء أراد التَّقْيِيد أو أراد الإِطْلاَق، ومن المقطوع أَنَّهُ أراد أحدهما (المطلق أو المقيَّد) من «أَكْرِمِ الْعَالِمَ».
 وعلى كل تقدير هو ارتكب مخالفة الظُّهُور الْحَالِيّ، فكيف تقولون إن الظُّهُور الْحَالِيّ المذكور يَسْتَلْزِم عقلاً أو عرفاً أن نقول إن هذا الْمُتِكَلِّم أراد المطلق. كلا، لا يَسْتَلْزِم أن يكون قد أراد المطلق ولا يَسْتَلْزِم أن يكون أراد المقيِّد، بل يَسْتَلْزِم أن يكون قد أراد ذات الْمَاهِيَّة. هذا هو الاعتراض.
 بالإمكان التَّخلُّص من هذا الاعتراض بأحد هذه الأجوبة بنحو الترتيب:
 الجواب الأوّل: أن نقول إن الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذي تمسكنا بدلالته الاِلْتِزَامِيَّة وَقُلْنَا: إِنَّ مدلوله الاِلْتِزَامِيّ هو الإِطْلاَق) المتقدّم ذكره ما هو بالتحديد؟ فهو بالتحديد عبارة عن كون الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مراده ومرامه، ونقصد بالمَرام والمراد الملحوظ والمتصوَّر والمرئي لهذا الْمُتِكَلِّم. أي: ما وقع تحت لحاظه وتصوره وما رآه. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمُتِكَلِّم لو كان قد أراد من قوله «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» المطلقَ، فَيَكُونُ ملحوظه فِي هذه الصُّورَة هو ذات الْمَاهِيَّة؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق كيفيَّة اللِّحَاظ والرؤية، وليس دخيلاً فِي الملحوظ والمرئي، بل المرئي بالرؤية الإطلاقية هو ذات الْمَاهِيَّة (كما تقدّم شرحه سابقاً). أي: هذه الكيفيات الثَّلاثة الآنفة الذكر (اللابشرط الْقِسْمِيّ والبشرط شيء، والبشرط لا) هذه كَيفِيَّات لرؤية الْمَاهِيَّة ولحاظها، أَمَّا الملحوظ فهو ذات الْمَاهِيَّة.
 إذن، إن خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق لا تدخل فِي المرئي والملحوظ، بينما نحن مقصودنا من «المراد» فِي الظُّهُور الْحَالِيّ المتقدّم ذكره (حيث قلنا إن ظاهر حال كل متكلم أَنَّهُ بصدد بيان كل مراده) هو ملحوظه ومتصوَّره، لا كل ما هو موجود فِي ذهنه؛ فَإِنَّه إن أراد الْمُتِكَلِّم المطلقَ فيوجد فِي ذهنه شيئان: 1- ذات الْمَاهِيَّة. و2- كيفية لحاظ هذه الْمَاهِيَّة (وهي كيفيَّة اللابشرطية). ولكننا لا نقصد بالمراد والمرام كل ما هو موجود فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وتصوَّره ولاحظه، لا الشَّيْء الملحوظ فِي ذهنه وَالَّذِي لَيْسَ ملحوظاً له كنفس اللِّحَاظ والرؤية مع أَنَّهُ أمر ذهني ولٰكِنَّهُ لا يدخل فِي المقام.
 فحينئذٍ بناء عَلَىٰ هذا المبنى وهو الصَّحِيح (حيث قلنا فِي اللابشرط الْقِسْمِيّ إِنَّهُ عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِيَّة ولا تلحظ معها قيداً، فالملحوظ فِي اللابشرط الْقِسْمِيّ هو الْمَاهِيَّة ذاتها، ولا يوجد شيء آخر زائد عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة). فلو قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ» ودار الأمر بَيْنَ أَنْ يَّكُونَ قد أراد المطلق أو أراد المقيَّد نقول: إذا كان قد أراد المقيَّد فمعنى ذلك أَنَّهُ وقع تحت نظر الْمُتِكَلِّم ولحاظه شيئان: ذات الْمَاهِيَّة، والقيد (قيد العدالة مثلاً)، فملحوظه ومتصوَّره شيئان، أَمَّا هي فواحدة.
 أَمَّا لو افترضنا أَنَّهُ أراد المطلق (ولاحظ الْمَاهِيَّةَ بنحو اللابشرط الْقِسْمِيّ)، فَيَكُونُ ملحوظه هو ذات الْمَاهِيَّة، ولم يقع تحت ملحوظه شيئان. فالأمر دائر بَيْنَ أَنْ يَّكُونَ ملحوظه ومتصوره شَيْئَيْنِ (ذات الْمَاهِيَّة والقيد) وبين أن يكون ملحوظه ومتصوره شيئاً واحداً وهو ذات الْمَاهِيَّة.
 فإن كان قد أراد الأوّل (أي: المقيِّد) إذن هو لم يبين تمام ملحوظه ومراده بكلامه، ويكون مخالفاً للظهور الْحَالِيّ؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِيّ كان عبارة عن كونه بصدد بيان تمام مراده وملحوظه ومتصوَّره بكلامه، والمفروض أن متصوره وملحوظه شيئان: الْمَاهِيَّة والقيد. فَيَكُونُ قد بين الْمَاهِيَّة مِنْ دُونِ القيد، وهذا هو المخالفة لظهوره الْحَالِيّ.
 وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أَنَّهُ أراد المطلق؛ فَإِنَّ ما تصوّره فِي المطلق هو ذات الْمَاهِيَّة، وقد أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة. وهذا هو المطلوب ولا نطالب الْمُتِكَلِّم بشيء أكثر من هذا وهو الإتيان بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ تمام مراده ومقصوده، والمقصود من المراد والمقصود هو المتصوَّر والملحوظ، وليس كل شيء يوجد فِي ذهنه. وخُصُوصِيَّة الإِطْلاَق كيفيَّة من كَيفِيَّات اللِّحَاظ ولا تقع تحت اللِّحَاظ؛ لأَنَّ الإطلاق عندنا لم يكن إلاَّ عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِيَّة فقط. فتمام المراد هو ذات الْمَاهِيَّة وقد أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة، فلم يرتكب مخالفة فيما لو فرضنا أَنَّهُ أراد المطلق. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني. فليس الأمر كما تَوَهُّمه صاحب الإشكال أَنَّهُ عَلَىٰ كلا التقديرين خالف الْمُتِكَلِّم الظُّهُور الْحَالِيّ؛ فإِنَّهُ عَلَىٰ تقدير أن يكون أراد المقيَّد يكون قد خالف الظُّهُور الْحَالِيَّ؛ لأَنَّ مراده وملحوظه شيئان ولٰكِنَّهُ أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ أحد الشيئين فقط.بينما عَلَىٰ فرض أن يكون أراد المطلق لا يكون قد خالف الظُّهُور الْحَالِيّ حيث أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ تمام ملحوظه؛ لأَنَّ تمام ملحوظه (عندما يريد المطلق) هو الْمَاهِيَّة ذاتها؛ لأَنَّ هذا هو معنى الإِطْلاَق؛ فإن الإِطْلاَق هو أن تلحظ الْمَاهِيَّة فقط.
 إذن، فنرجع مرّةً أخرى إلى ما قلناه من أن الظُّهُور الْحَالِيّ المذكور يَسْتَلْزِم أن يكون قد أراد الإِطْلاَق. فلم تنخرم الملازمة (بَيْنَ أَنْ يَّكُونَ قد بين تمام مرامه وبين أن يكون أراد المطلق) بهذا الإشكال.
 هذا هو الجواب الأوّل، وهو جواب صحيح عَلَىٰ مبنانا المتقدّم فِي تفسير «اللابشرط الْقِسْمِيّ» حيث قلنا بأَنَّهُ عبارة عن لحاظ الْمَاهِيَّة وعدم لحاظ شيء آخر معه؛ لأَنَّهُ وَفقاً لهذا المبنى لا تقع خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق تحت لحاظ الْمُتِكَلِّم، لَيْسَ الإِطْلاَق أن تلحظ الْمَاهِيَّة وتلحظ الإِطْلاَق (أي: أن تلحظ عدم القيد)، بل حقيقة الإِطْلاَق عندنا عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِيَّة ولا تلحظ معها شيء. فبناء عَلَىٰ هذا المبنى يَتُِمّ هذا الجواب؛ لأَنَّ الأمر دائر بَيْنَ أَنْ يَّكُونَ قد لاحظ الْمَاهِيَّة ولاحظ قيداً، وبين أن يكون قد لاحظ الْمَاهِيَّة مِنْ دُونِ أي قيد. فإن أراد الأوّل لا يكون قد بيّن كلَّ ما أراده بكلامه، وإن أراد الثَّانِي يكون قد بيَّن تمام مراده بكلامه.
 أجل، بناء عَلَىٰ مبنى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله القائل بأن الإِطْلاَق (وهو اللابشرط الْقِسْمِيّ عنده) عبارة عن شَيْئَيْنِ: أن تلحظ الْمَاهِيَّة وأن تلحظ عدم دخل القيد، ومن هنا أصبح الإِطْلاَق والتقييد عنده أَمْرَيْنِ وجوديين (لحاظُ عدم دخل القيد ولحاظ القيد). وحينئِذٍ سواء أراد الْمُتِكَلِّم المطلق أم أراد المقيِّد، فما وقع تحت لحاظه شيئان:
 أ) - عَلَىٰ تقدير أن يكون مراده المقيَّد فواضح أَنَّهُ وقع تحت لحاظه أَمْرَانِ: 1- ذات الْمَاهِيَّة و 2- القيد، بينما أتى فِي كلامه بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة، فَيَكُونُ كلامه ناقصاً ولا يكون مبيِّناً تمامَ مرامه بكلامه، وهذا خلاف الظُّهُور الْحَالِيّ.
 ب) - وعلى تقدير أن يكون قد أراد المطلق فأيضاً وقع تحت لحاظه شيئان: 1- ذات الْمَاهِيَّة و2- لحاظ عدم القيد (= الإِطْلاَق)، بينما ما أتى فِي كلامه بما يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة فقط. فيأتي الإشكال عَلَىٰ مبنى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله ولا يَتُِمّ هذا الجواب الأوّل. أي: يجب أن يفتش السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله عن جواب آخر عن هذا الإشكال.
 الجواب الثَّانِي: هو أن نقول إنَّنا نسلّم بأن الإِطْلاَق كما يقول السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله عبارة عن لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد، مع ذلك هذا الإشكال المتقدّم هنا غير تامّ؛ وذلك لأَنَّنَا مع ذلك نقول هذا المتكلم لو أراد المقيِّد خالف الظُّهُور الْحَالِيّ ولٰكِنَّهُ لو أراد المطلق لم يخالف ظهوره الْحَالِيّ الْمُسْتَلْزَم بأَنَّهُ أراد المطلق؛ وذلك بأن نَقُول: إِنَّ هذا الظُّهُور الْحَالِيّ (الَّذي نريد أن نتمسك بدلالته الاِلْتِزَامِيَّة عَلَىٰ إرادة الإِطْلاَق) تحديداً عبارة عن كون الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمام مرامه. ونقصد بـ«المرام» المراد الْجِدِّيّ، لا المراد الاستعماليّ والتّصوّريّ. ظاهر حال كل متكلم عُرْفِيّ وعاقل هو أَنَّهُ بصدد بيان تمام مرامه الْجِدِّيّ، لا تمام ما تصوّره وإن لم يرده جِدّاً؛ فقد يتصوّر الْمُتِكَلِّم أمورا لٰكِنَّهَٰا غير داخلة فِي مراده الْجِدِّيّ، فلا يكون حال الْمُتِكَلِّم ظاهراً فِي أَنَّهُ بصدد بيان هذه الأُمُور، بل ظاهر حال الْمُتِكَلِّم الْعُرْفِيّ أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده الْجِدِّيّ من كلامه، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق حتّى عَلَىٰ مبنى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله (الَّذي عم نحكي عَلَىٰ مبناه فِي هذا الجواب الثَّانِي) داخلة تحت اللِّحَاظ والتصوّر (لأَنَّ الإِطْلاَق عنده عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِيَّة وتلحظ معها رفضَ القيد)، لٰكِنَّهَٰا قَطْعاً غير داخلة فِي المراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ. أي: حتّى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله يقبل ويسلّم بأن خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق وإن كانت ملحوظة للإنسان عندما يريد المطلق؛ لأَنَّهُ لاحظ الْمَاهِيَّة ولاحظ عدم القيد. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. أَمَّا فِي مرحلة الْمَدْلُول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ لِلَّفْظِ الَّتي هي مرحلة الإسناد وجعل الحكم لا يمكن أَنْ تَكُونَ خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق داخلة ضمن المراد والمدلول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ من اللَّفظ؛ لأَنَّهُ يَسْتَلْزِم أن يكون الحكم مجعولاً لا عَلَىٰ هذا الْمَوْضُوع بما هو فانٍ فِي الخارج، بل مجعولاً عَلَىٰ هذا الْمَوْضُوع بما هو مطلق ومجرّد عن القيد؛ لأَنَّ الملحوظ والمتصور هو هذا (وَفقاً لمبناه)، وهذا لازم فاسد. أي: من الواضح أَنَّهُ لَيْسَ من أفراد هذا الْمَوْضُوع فِي الخارج ما يكون مطلقاً ومجرداً عن القيد، بينما قَطْعاً هو يقصد من الْمَوْضُوع ما له فرد فِي الخارج حتّى يمكن إكرامه، وإلا فإن الإنسان المطلق غير موجود فِي الخارج حتّى نكرمه. وكذلك الأمر فِي قوله: {أحل اللٰه البيع}، فلو فرضنا أن الإِطْلاَق داخل فِي المراد الْجِدِّيّ للآية الكريمة، فَيَكُونُ معناها: «أحل اللٰه البيع المطلق»، ولكن أين البيع المطلق خارجاً؟ فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ البيع الخارجيّ لا يكون مطلقاً، بل إما يكون بشرط شيء (كالبلوغ) أو بشرط لا.
 إذن، خُصُوصِيَّة الإِطْلاَق عَلَىٰ فرض إرادة المطلق وإن كانت داخلة تحت اللِّحَاظ عَلَىٰ رأي السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله، لٰكِنَّهَٰا ليست داخلة تحت المراد الْجِدِّيّ، بينما الظُّهُور الْحَالِيّ الَّذي شرحناه عبارة عن ظهور حال الْمُتِكَلِّم أَنَّهُ بصدد بيان تمام مراده الْجِدِّيّ، لا تمام ما هو فِي ذهنه وما هو متصوَّر له.
 فلو أراد المطلق يكون مراده الْجِدِّيّ هو ذات الْمَاهِيَّة (ماهيَّة البيع) وقد أتى بلفظ يَدُلّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة وهو اسم الجنس الدَّالّ عَلَىٰ ذات الْمَاهِيَّة، ومراده الْجِدِّيّ ذات الْمَاهِيَّة أيضاً حتّى عَلَىٰ رأي السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله، وليس ذات الْمَاهِيَّة مع الإِطْلاَق؛ لأَنَّه بناء عَلَىٰ مبناه يكون الإِطْلاَق مراداً تصوُّريّاً واستعماليّاً وليس مراداً جديّاً وإن لم يكن عَلَىٰ مبنانا مراداً تصوُّريّاً حتّى فضلاً عن أن يكون مراداً جديّاً.
 إذن، إذا لاحظ ما هو موضوع الحكم جِدّاً، فالأمر دائر بين الأَقَلّ والأكثر: إمّا أن مراده الْجِدِّيّ عبارة عن الْمَاهِيَّة مع القيد (البيع + البلوغ) وإما أن يكون مراده شيئاً واحداً وهو الْمَاهِيَّة (=البيع). نعم إن مراده التَّصوُّريّ الاستعماليّ حتّى فِي الفرض الثَّانِي عبارة عن ماهيَّة البيع مع الإِطْلاَق، لٰكِنَّهُ مراد تصوُّريّ، ولٰكِنَّهُ لَيْسَ ما كان الْمُتِكَلِّم بصدد بيان تمامه؛ فإِنَّهُ كان بصدد بيان تمام مراده الْجِدِّيّ، فهو لم يرتكب مخالفةً لهذا الظُّهُور الْحَالِيّ، حتّى لو بنينا عَلَىٰ مبنى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله.
 إذن هذا هو الجواب الثَّانِي عن الإشكال، وهو جواب يَتُِمّ عَلَىٰ كل المباني، سواء عَلَىٰ مبنانا أم عَلَىٰ مبنى السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رحمه الله. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه. 2025 كلمة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo