< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/10/22

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الوجه الثَّالث من وجوه إثبات أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ يفيد العموم والاستيعاب هو أن يقال: بأن لا إِشْكَال فِي دلالة «اللاَّم» لغةً وعرفاً عَلَىٰ التّعيّن، وأن مدخول هذه الكلمة (هذا المدخول، مدخول «اللاَّم») معناه متعيّن ومشخص وليس مردّداً ولا غموضَ ولا إجمال فيه عرفاً. وأمّا لغةً فقد نص علماء الْعَرَبِيَّة عَلَىٰ أن «اللاَّم» تَدُلّ عَلَىٰ التّعيين، فلا بُدَّ من أن يكون مدخولها مُتَعَيَّناً بنحو من أنحاء التّعيّن.

 وحينما تدخل هذه «اللاَّم» عَلَىٰ الجمع مثل «علماء» فِي «العلماء»، يبقى للاَّمِ هنا المفاد نفسه الَّذي ذكرناه، أي: «اللاَّم» تَدُلّ عَلَىٰ أن هذا الجمع الَّذي دخلت عليه «اللاَّم»، جمعٌ متعين ومشخص. إلى هنا واضح، ولا إِشْكَال فيه.

 وحينئِذٍ يبقى أن نعرف كيفيَّة تصوّر الجمع الْمُتَعَيّن، وأنَّه ما معنى تعيّن الجمع؟!

 فِي الإجابة عن هذا السُّؤَال نَقُول: إِنَّ تعين الجمع له أحد الأنحاء الثَّلاثة التالية:

النَّحْو الأوّل: أَنْ يَكُونَ هذا التّعيّن تعيناً عهديّاً، أي: أَنْ يَكُونَ الجمعُ جمعاً معهوداً (جماعة معهودة)، سَوَاءٌ كَانَ هذا العهد عهداً ذِهْنِيّاً (أي: توجد جماعة معهودة من العلماء فِي ذهن الْمُتِكَلِّم وفي ذهن السَّامِع) أم كان عهداً ذِكريّاً (كما إذا قال الْمُتِكَلِّم: «أكرم العلماء» وكانا قد أتيا عَلَىٰ ذكر جماعةٍ معهودة) أم كان عهداً خارجيّاً (كما إذا كان هناك جماعة مُعَيَّنَة من العلماء جالسون بين يدي الْمُتِكَلِّم والسامع، وقال الْمُتِكَلِّم للسامع: «أكرم العلماء».

 عَلَىٰ كلٍّ، لا إِشْكَال فِي أن التّعيّن الَّذي من «اللاَّم» تعين عهدي فِي كُلّ مورد يُفترض فيه وجودُ عهدٍ بنحو من الأنحاء الثلاثة. أي: أنّ «اللاَّم» تَدُلّ عَلَىٰ جماعة معهودة، ولا دلالة للام هنا عَلَىٰ العموم والاستيعاب (= كل العلماء)؛ لأَنَّ العهد قرينة قوية تمنع من أن تَدُلّ «اللاَّم» عَلَىٰ شيء غير هذه الجماعة المعهودة. فلا إِشْكَال فِي عدم دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم وعدم استفادة العموم منه فِي موارد العهد. أي: عدم التّعيّن العهديّ أصلٌ موضوعيٌّ مفروغ عنه فِي باب دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم. هذا هو النَّحْو الأوّل من التّعيّن وهو واضح.

النَّحْو الثَّانِي من التّعيّن هو أن يكون التّعيّن تعيناً جنسيّاً. أي: أن «اللاَّم» الداخلة عَلَىٰ اسم الجنس (مثل العالم أو الرَّجُل أو المرأة) تَدُلّ عَلَىٰ تعيّن الجنس([1] ). والتعين الجنسي واضح فِي المفرد (مثل: العالم خير من الجاهل)، ومعناه أن ذات الطَّبِيعَة (كطبيعة الرَّجُل) لها نحو من التعيّن والتشخص، ولا توجد طبيعة غامضة ومجملة.

 أَمَّا إذا دخلت اللام عَلَىٰ الجمع، فَتَدُلُّ حينئذٍ عَلَىٰ الجنس أيضاً. أي: سوف يكون مقصود الْمُتِكَلِّم جنس الجمع، جنس الكثرة، مثلاً إذا قال: «العلماء خير من العالم الواحد» فإِنَّهُ لا يقصد من العلماء، علماء معهودين، ولا يقصد منه العموم (عموم الأفراد) بل يقصد جنس الجمع والكثرة (أي: كثرة العلماء خير من العالم الواحد). هذا نحو آخر من التّعيّن. فلم يتجاوز الْمُتِكَلِّم هنا الوضعَ والمعنى الوضعيّ، ولم يتجوّز فِي استعماله واستعماله حقيقي.

 فيا تُرَىٰ هل لنا أن نحمل التّعيّن (فِي قوله: «أكرم العلماء») عَلَىٰ التّعيّن الجنسي؟

 الجواب: لا؛ لأَنَّ التّعيّن الجنسي وإن كان نحواً من أنحاء التّعيّن، واستعمال «اللاَّم» فِي هذا النَّحْو من التّعيّن وإن كان صحيحاً وعرفيّاً، إلاَّ أَنَّهُ بحاجة إلى قرينة. فإن فِي قولنا: «العلماء خير من العالم الواحد»، توجد قرينةٌ عَلَىٰ أن مقصوده من العلماء، كثرةُ العلماء. وهذه القرينة عبارة عن أن هذا الْمُتِكَلِّم أوجد تقابلاً بين العلماء وبين العالم الواحد، مِمَّا جعلنا نفهم من هذا التقابل أَنَّهُ يريد أن يقيس الجمع بالمفرد. فمقصوده من العلماء «جمع العلماء». إذن، فلا إِشْكَال فِي أن الكلام يحمل عَلَىٰ هذا التّعيّن الجنسي.

 أما إذا لم تكن هناك قرينة عَلَىٰ أن الْمُتِكَلِّم قصد التّعيّن الجنسي (أي: قصد جنس الجمع)، كما فِي قول القائل: «أكرم العلماء». فلا توجد قرينة عَلَىٰ أَنَّهُ أراد جنس الجمع، فلا موجب هنا عَلَىٰ حمل الكلام عَلَىٰ التّعيّن الجنسي. بل هناك قرينة ارتكازية عَلَىٰ خلاف هذا العهد الجنسي، وهي عبارة عن أَنَّهُ من المرتكز لدى العرف أن الْمُتِكَلِّم عندما يتلفظ بلفظ الجمع، يكون نظره إلى ذوات الأفراد، لا إلى جنس الجمع والكثرة. وهذا الارتكاز يسبب انصراف الكلام إلى التّعيّن الجنسي (اللهم إلاَّ إذا كانت هناك قرينة، وقد تقدّم أَنَّها مسألة أخرى. أَمَّا لو خلي الكلام وطبعه تقول القرينة الاِرْتِكَازِيَّة أن نظر الْمُتِكَلِّم إلى ذوات الأفراد، وليس نظره إلى جنس الجمع وجنس الكثرة).

النَّحْو الثَّالث: التّعيّن المصداقي وهو أَنْ يَكُونَ مدخول «اللاَّم» مُتَعَيَّناً خارجاً من حيث المصداق، وليس مردّداً من حيث المصداق بين اثنين أو ثلاثة أو أربعة. وإذا بطل الأوّل وَالثَّانِي يَتَعَيَّنُ هذا النحو الثَّالث.

 مثاله ما إذا دخلت «اللاَّم» عَلَىٰ الجمع وقيل: «أكرم العلماء»، فَحَيْثُ أَنَّ «اللاَّم» وضعت لغة وعرفاً لتدل عَلَىٰ أن مدخولها متعين، لا تعيّناً جنسيّاً (لأَنَّنَا قلنا أَنَّ هناك قرينة ارتكازية عَلَىٰ خلافه) ولا تعيّناً عهديّاً (لأَنَّ المفروض أَنَّهُ لا توجد قرينة عَلَىٰ العهد)، فَيَنْحَصِرُ التّعيّن بالتعين المصداقيّ. أي: «اللاَّم» تَدُلّ هنا عَلَىٰ أن مدخولها متعين من حيث المصداق خارجاً. ولا يتحقّق هذا التّعيّن المصداقي خارجاً إلاَّ إذا كان مراده من «العلماء» «كل العلماء»؛ لأَنَّه لا مصداق خارجاً لتمام المائة من إلاَّ مصداق واحد (إذ لا توجد أكثر من مائة داخل المائة). وأَمَّا لو أراد الْمُتِكَلِّم من العلماء ما هو أقل من المائة، كالتسعين أو الثمانين، فَتُتَصَوَّرُ هناك عدّة تسعينات وثمانينات داخل العلماء المائة.

 إذن، أثبت هذا النحو الثَّالث أن الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ يَدُلّ عَلَىٰ العموم.

إلاَّ أن الصَّحِيح (كما أفاد سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رحمه اللَه) هو أنَّ هذا الوجه أيضاً لا يُثبت لنا أنَّ «اللاَّم» تَدُلّ عَلَىٰ العموم وحدها. نعم، نحن نقبل بنتيجة أن قوله: «أكرم العلماء» يفهم منه الشُّمُول والاستيعاب. أي: يفهم منه وجوب إكرام تمام المائة إذا كان عدد العلماء مائة مثلاً. وهذا واضح ولا نريد أن نناقشه. ولكن هل هذا الفهم (فهم الشُّمُول والاستيعاب) مستند إلى «اللاَّم» بالبيان الَّذي ذكره صاحب هذا الوجه؟ أو مستند إلى مجموع «اللاَّم» مع قرينة الحِكْمَة المتوفرة فِي قوله: «أكرم العلماء»؟!

توضيح ذلك: أَنَّنَا لا نناقش فِي أن «اللاَّم» وضعت وتدلّ عَلَىٰ التّعيّن (تعين المدخول) ولا نناقش أيضاً فِي أن التّعيّن هو تعين مصداقي. بل نتساءل أن قوله: «أكرم العلماء» الَّذي يَدُلّ عَلَىٰ وجوب إكرام تمام الأفراد (المائة)، عَلَىٰ أي أفراد يَدُلّ؟ هل يَدُلّ عَلَىٰ تمام أفراد الْمَادَّة (= مادّة العلماء، يعني العالم)؟ أم تَدُلّ عَلَىٰ أَنَّهُ أراد تمام أفراد «العالم العادل»؟ أم أراد تمام أفراد «العالم المؤلف»؟ أم أراد أفراد العالم الفقيه وهكذا سائر القيود الْمُتَصَوَّرَة والمحتملة؟! إذن، تَدُلّ «اللاَّم» عَلَىٰ أن مراده تمام الأفراد، لأَنَّ التّعيّن المصداقي منحصر فِي أن يكون مراده تمام الأفراد، وليس مراده عدداً صحيحاً أقل من التمام (كالتسعين؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد بين أكثر من واحد) ولا عدداً كسراً أقل من العلماء (كنصف العلماء وثلث العلماء؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد) ولا نسبةً مئوية أقل (كعشرين بالمائة من العلماء؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد أيضاً). إلى هنا مقبول ولا نقاش فِيه.

 لكن السُّؤَال هو أن مراده تمام أفراد «العالم» (أي: تمام أفراد الطَّبِيعَة المطلقة)، فَيَكُونُ مقصوده كل المائة، أم تمام أفراد «العالم العادل» من بين هؤلاء المائة، فإن مصداق تمام «العلماء العدول» من هؤلاء المائة، مُعَيَّن وليس مردداً وليس له مصداقان، فإذا قال الْمُتِكَلِّم: «أكرم العلماء» وأراد تمام أفراد العلماء العدول من بين المائة، لا يكون كلامه مردداً؛ إِذْ أَنَّ عدد العلماء العدول مُعَيَّن داخل المائة (مثلاً ثمانون منهم عدول وَعِشْرُونَ منهم فساق). إذن، التّعيّن محفوظ ولكن بماذا ننفي احتمال أن يكون مراده تمام علماء العدول، واحتمال أن يكون مراده الفقهاء من العلماء أو المتهجدين منهم أو ...؟! هل ننفيه بـ«اللاَّم»؟ الجواب: «اللاَّم» حيادية حيال ذلك؛ إذ أنَّها تريد تمام الأفراد حتّى لا تكون مصداقه مُرَدَّداً فِي الخارج. وحينئِذٍ يصل الدّور إلى إجراء الإِطْلاَق وقرينة الحِكْمَة فِي طبيعة «العالم»، والقول بأَنَّهُ لطالما قال: «أَكْرِمِ الْعَالِمَ»، تَدُلّ مَادَّة الجمع عَلَىٰ الطَّبِيعَة المطلقة (أي: هو أراد تمام أفراد الطَّبِيعَة المطلقة، وتمام الأفراد هو المائة).

 والخلاصة أن فهمنا للعموم يكتمل فيما إذا ضممنا قرينة الحِكْمَة إلى جانب «اللاَّم»، وقلنا: إن «اللاَّم» تَدُلّ عَلَىٰ أَنَّهُ أراد تمام الأفراد، وقرينة الحِكْمَة تَدُلّ عَلَىٰ أَنَّهُ أراد تمام أفراد الطَّبِيعَة المطلقة؛ إذ لو كان مراده تمام أفراد «العالم العادل» لذكر القيد، ولو أراد تمام أفراد العالم الفقيه لذكر القيد. فلم يثبت ما أراده صاحب الوجه من أن فهم العموم والشمول والاستيعاب مستند إلى «اللاَّم»، باعتبار أنَّها وضعت للتعين ولا يكون تعيّن الجمع إلاَّ بالعموم (لكل المائة).

 هذا هو التلفيق الَّذي يقوله سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رحمه اللَه. أي: مِنْ دُونِ التلفيق بين «اللاَّم» وبين مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لا يَتُِمّ هذا الوجه.

 يبقى عندنا الوجه الرَّابع وهو الوجه الأخير من وجوه دلالة الجمع الْمُحَلَّىٰ بِاللاَّمِ عَلَىٰ العموم يأتي إن شاء اللٰه تعالى يوم الأحد؛ لأَنَّ يوم السبت يصادف ذكرى استشهاد الإمام الصادق عليه السلام. إعداد وتقرير: الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه.

[1] - فإنّ جنس الرَّجُل له تعيّن، وجنس المرأة له تعيّن، وجنس العالم له تعين كجنس، لا كفرد مُعَيَّن، أي: ذات الطَّبِيعَة؛ لأَنَّ اسم الجنس تَدُلّ عَلَىٰ الطَّبِيعَة، ذات الرَّجُل متميزة عن الطَّبَائِع الأخرى. فكل طبيعة من الطَّبَائِع لها نوع من التّعيّن والتشخص الخاصّ بها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo