< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/06/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الاعتراض الثَّالث: (الَّذي أُورِد على ما قاله النائيني من أن العموم فِي طول الإطلاق) ما أورده السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ أيضاً، وهو أَنَّهُ يَسْتَلْزِم من قول الميزرا باطلٌ، وهو عدم إمكان التصريح بالعموم أصلاً؛ لأَنَّ العموم دائماً فِي طول الإِطْلاَق ومُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ، فلو أُنِيطَتْ دلالة الأداة على العموم بإجراء مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ فِي مدخولها (كما هو المفروض بناءًا على هذا القول)، لزم من ذلك أَنْ لاَّ يَكُونَ الْمُتِكَلِّم قادراً على التصريح بالعموم، مهما استعمل من الألفاظ (حَتَّى لو قال: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ قاطبةً» وجاء بمختلف الألفاظ) فلا يكون كلامه صريحا فِي العموم؛ إذ أنَّ غاية ما تفيده هذه الألفاظ والأدوات إِنَّمَا هو استيعاب ما يُراد من مدخولها، أمّا تعيين أَنَّهُ ماذا يُراد من مدخولها فهذا على عاتق مُقَدِّمَات الْحِكْمَةِ لكي يتعيَّنَ أنَّ المراد من مدخول هذه الألفاظ هو المطلق، لتأتي الأداة بعد ذلك وتدلّ على استيعاب أفراد هذا المطلق. بينما مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا اللاَّزِم (أي: عدم إمكان التصريح بالعموم) باطل بالوجدان الْعُرْفِيّ؛ فإِنَّهُ يحكم بأن بإمكان الْمُتِكَلِّم أن يصرح بالعموم بحيث يستغني من مُقَدِّمَات الحِكْمَةِ رأساً[1] .

هذا الاعتراض أيضاً لا يمكن قبوله وذلك يُحتمل أن يكون مراده أحد هذه المحتملات الثَّلاثة:

المحتمل الأوّل: أَنْ يَكُونَ مقصود السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ من هذا الكلام أنَّ الْمُتِكَلِّم لا يتمكن من أن يجعل كلامَه صريحاً فِي العموم من خلال أداة العموم؛ لأَنَّ الميرزا يقول بأن دلالة الأداة على العموم متوقّفة على إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة فِي المدخول؛ إِذْ أَنَّ الإِطْلاَق ظهور وليس صَرِيحاً فِي العموم، فلا يمكن لِلْمُتِكَلِّمِ أن يجعل كلامه صَرِيحاً فِي العموم من خلال أداة العموم ومدخولها. هل هذا ما يريد السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ أن يقوله؟

إذا كان هذا ما أراده السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ، فهذا اللاَّزِم مِمَّا لا ينكره أصحاب هذا القول ولا يأبون منه، بل هذا مُدَّعَاهُم، وهذا لَيْسَ إِشْكَالاً على الميرزا ومن يقول بمقولته.

المحتَمَل الثَّانِي: أَنْ يكون مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ من هذا الكلام هو أنَّه يَسْتَلْزِم من قول الميرزا أن لا يتمكن الْمُتِكَلِّم من التصريح بالعموم واستيعاب جميع أفراد مدخول الأَدَاة أصلاً، وبأي وجه من الوجوه، ولو بواسطة ألفاظ أخرى غير أداة العموم.

وهذا لَيْسَ صحيحاً؛ لأَنَّ من البديهي أن من الممكن التصريح بالعموم فِي اللُّغَة الْعَرَبِيَّة من خلال ألفاظ أخرى كما إذا قال: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ بلا قيد ولا استثناء»، فَيَكُونُ الكلام صَرِيحاً ولا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة؛ لأَنَّ غاية ما تُثبته مُقَدِّمَاتُ الْحِكْمَةِ هو أن السُّكوت وعدم ذكر القيد يَدُلّ على الإِطْلاَق (ويدلّ على عدم التَّقْيِيد)، بينما المفروض أن الْمُتِكَلِّم صَرَّحَ هنا بعدم القيد (حيث قال: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ بلا قيد ولا استثناء»)، لا أَنَّهُ سكت عن ذكر القيد. فتكون الدِّلاَلَة على عدم القيد دلالة لفظية صريحة وليست دلالة سُكُوتِيَّة حَكَمِيَّة ومعه فلا حاجة إلى إجراء مُقَدَِّمَات الْحِكْمَةِ لإِثْبَاتِ عدم القيد. إذن، إمكان التصريح بالعموم بهذا النَّحْو لَيْسَ مِمَّا يَسْتَلْزِم قول الميرزا عدمَه؛ إِذْ أَنَّ المرزا يقول: لا يمكن التصريح بالعموم من خلال الأداة وليس من خلال شيء آخر غير الأداة.

المحتمل الثَّالث: هو أن يكون مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ مجرّد هذه الدَّعْوَىٰ وهي أن أداة العموم صريحة فِي العموم، بخلاف الإِطْلاَق، فيلزم من كلام الميرزا إنكار هذا الأمر الواضح (أي: إنكار صراحة الأداة فِي العموم، أي: أنَّ المرزا سلب من الأداة صراحتَها وقَيَّدها بالظهور الَّذي هو لَيْسَ صَرِيحاً).

 ولعلّ هذا الاحتمال هو مقصوده، وهذا ما سنتعرض له قَرِيباً - إن شاء الله - وإن كانت عبارة الكتاب لا تساعد على إرادة هذا المعنى.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا الاعتراض لا يمكن مساعدته، كالاعتراضين السابقين.

الاعتراض الرَّابع: على كلام الميرزا هو ما أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ وهو الوجه الصَّحِيح المختار من وجوه الاعتراض على قول الميرزا، وهو أَنَّهُ ما هو المقصود من قولكم: «إنَّ الأداة وضعت لاستيعاب المراد من المدخول»؟ إذ يحتمل فيه أربعة احتمالات وسوف نرى أن كُلّهَا غير تامَّة، وبالتَّالي لا يَتُمّ أصل هذا الكلام (وهو أنَّ الأداة وضعت لاستيعاب المراد من المدخول).

الاحتمال الأوّل: أَنْ يَكُونَ المقصود هو استيعابُ المرادِ الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ من المدخول.

الاحتمال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المقصود هو استيعابُ المراد الاستعمالي لِلْمُتِكَلِّمِ من المدخول.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ يَكُونَ المقصود هو استيعابُ ما فِي ذهن الْمُتِكَلِّم من المراد الاستعماليّ.

الاحتمال الرَّابع: أَنْ يَكُونَ المقصود هو استيعابُ المدخول، تماماً كما يقوله أصحاب القول الآخر فِي المسألة (أي: قول صاحب الكفاية حيث كان يقول بأنَّ الأداة وضعت لاستيعاب ما يصلح المدخول للانطباق عليه)، غاية الأمر تريدون أن تقولوا: إن استفادة العموم من الأداة بنحو الاستفادة التصديقية (أي: أَنْ يَكُونَ الحكم فِي عالم الثُّبُوت والمراد الْجِدِّيّ مستوعِباً لتمام الأفراد، هذه الاستفادة تابعة لجريان الإِطْلاَق ومقدّمات الحِكْمَة. وفيما يلي نوضح هذه المحتملات وندرسها:

أما الاحتمال الأوّل (القائل بأن الأداة موضوعة لاستيعاب أفراد المراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ من المدخول، ونُعَيِّنُ المرادَ الْجِدِّيَّ لِلْمُتِكَلِّمِ ونحدِّدُه بالإطلاق أوَّلاً، ثم تأتي الأداة وتَدُلّ على استيعاب أفراد هذا المطلق. فَيَكُونُ العموم فِي طول الإِطْلاَق، وبحاجة إلى جريان الإطلاق فِي مدخول الأداة) فيرد عليه بأَنَّهُ احتمال باطل، لأَنَّهُ يَسْتَلْزِم منه ثلاثة محاذير:

المحذور الأوّل: هو أَنَّهُ يلزم من هذا الكلام أَنْ لاَّ يَكُونَ للأداة معنىً ومدلولاً ولا يُفهم منها العموم فِي الموارد الَّتي لا يوجد فيها مراد جدي لِلْمُتَكَلِّمِ، كما فِي حالة الهزل. فإن قال الْمُتِكَلِّم هازلاً: «أكرم كلَّ بني أميةَ»، يجب أَنْ لاَّ يَكُونَ للأداة معنىً ومدلولاً تصوُّريّاً؛ لأَنَّ مدلولها التَّصوُّريّ الحقيقيّ (الَّذي وضعت له الأداةُ) مرتبطٌ بالمراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ (حسب الفرض)؛ ففي المورد الَّذي لا يوجد مراد جدي لِلْمُتِكَلِّمِ تصبح الأداة بلا معنى. فيلزم منه أن لا تكون الأداة ذات معنى ولا يفهم منها العموم.

 بينما من الواضح أنَّ للأداة معنى تصوري حقيقي يأتي إلى الذِّهْن قَطْعاً، وأَنَّ العموم يحضر في ذهن العرف حتّى فِي حالات الهزل هذه.

المحذور الثَّانِي: هو لزوم تفكّك الجملة المتضمّنة للأداة فِي مرحلة مدلولها التَّصوُّريّ والاستعماليّ، وعدم وجود أيّ ترابط بين مفرداتها من حيث الدِّلاَلَة التَّصوُّريّة والاستعماليّة. أي: أن المحذور الثَّانِي الَّذي يلزم من هذا الكلام هو أَنَّهُ لا يتحصل معنىً جَمْعي "تصوري واستعمالي" للجملة، سَوَاءٌ أكَانَ هناك مراد جدّي لِلْمُتَكَلِّمِ أو لم يكن.

 فنحن لا نريد أن نطرح مَحْذُور الهزل هنا، بل نريد أن نقول: حتّى فِي حالة ثبوت المراد الْجِدِّيّ لِلْمُتِكَلِّمِ يلزم مَحْذُور آخر من كلام الميرزا (لو كان مراده هذا الاحتمال الَّذي طرحناه، وهو أَنَّهُ لطالما فرضتم أن الأداة وضعت لاستيعاب المراد الْجِدِّيّ لأفراد مَدْخُولهَا) وهو أنَّ الأداة فِي دلالتها متَّجِهة إلى المراد الْجِدِّيّ مباشرة، فلا دلالة لها فِي مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال، وإذا لم يكن للأداة معنىً فِي مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال، إذن سوف لن يكون هناك ربط بين أطراف الجملة المتضمنة للأداة. أي: سوف لن يتحصل للجملة معنىً جمعي وتصوري؛ لأَنَّ المعنى الجمعي التَّصوُّريّ للجملة بما هي جملة متقوّم بوجود الرَّبْط بين مفردات الجملة وأطرافها، وهذا الرَّبْط قوامه المعنى التَّصوُّريّ والاستعمالي لكل واحد من ألفاظ الجملة.

 فإن فرضتم أن واحداً من ألفاظ الجملة (وهو الأداة) لا معنى تصوري واستعمالي له، فلا ربط بين المفردات، وبالتَّالي لا يبقى للجملة بما هي جملة معنى فِي مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال؛ لأنكم فرضتم أن الأداة فِي دلالتها متجهة إلى المدخول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ مباشرة، إذن فِي مرحلة التَّصَوُّر لا معنى للأداة، وإذا لم يكن للأداة معنى فتفكّكت الجملة (لأَنَّ الأداة من عناصر الجملة)، وهذا واضح البطلان، ضرورةَ أن الجملة بما هي جملة لها معنى تصوري بِغَضِّ النَّظَرِ عن المعنى التَّصديقيّ والمراد الْجِدِّيّ.

المحذور الثَّالث: أَنَّهُ يلزم من هذا الكلام التَّهافت والتناقض فِي لحاظ السَّامِع للمدلول التَّصديقيّ للكلام. أي: أنَّ السَّامِع فِي لحاظه وتصوره للمراد الْجِدِّيّ من مَجْمُوع الْجُمْلَةِ يبتلي بالتضادّ والتناقض؛ وذلك لأَنَّ المفروض بحسب هذا القول هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ وضعتْ لاستيعاب أفراد المراد الْجِدِّيّ من المدخول، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المدخول وحده لا مدلولَ جدّي له، وإنَّما يُتصور له مدلول ومراد جدّي فِي ضمن المراد والمدلول الْجِدِّيّ لمجموع الكلام (أي: فِي ضمن الْمَدْلُول التَّصديقيّ للكلام)، وإلاَّ فإنَّه ليس للأداة وحدها مدلول تصديقي ومراد جدّي (بل فِي ضمن الْمَدْلُول التَّصديقيّ الْجِدِّيّ للكلام)، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَدْلُول التَّصديقيّ لكلامٍ لَيْسَ متعدّداً بعدد مفردات الكلام (أي: لا يقتنص ولا يقتبس المرادُ الْجِدِّيّ من كل كلمةٍ كلمةٍ، وإنَّما يقتبس من مجموع الكلام).

 إذن، المدلول الْجِدِّيّ لمدخول الأداة هو الْمَدْلُول الْجِدِّيّ نفسه لمجموع الكلام، ولا يُتصور إلاَّ فِي ضمن الْمَدْلُول الْجِدِّيّ للكلام. فلو كانت الأداة موضوعة لاستيعاب أفراد المدلول الْجِدِّيّ لمدخولها (كما يقول أصحاب هذا القول) يلزم منه حصولُ التهافت والتناقض فِي اللِّحَاظ والتصوّر فِي ذهن السَّامِع؛ لأَنَّهُ الأداة موضوعة لاستيعاب المراد الْجِدِّيّ من المدخول، فلا بُدَّ للسَّامِع أن يتصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّيّ للكلام فِي المرحلة السَّابقة، (قبل تصوّر معنى الأداة عليه أن يتصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّيّ للكلام؛ لأَنَّهُ قلنا لا يتصوّر لِلْمَدْخُولِ مراد جدّي إلاَّ فِي ضمن المراد الْجِدِّيّ للكلام ككل، فَيَكُونُ تصوّر معنى الأداة فِي طول تصوّر المراد الْجِدِّيّ من مجموع الكلام). هذا من جهة.

 ومن جهة أخرى يُقتبس المرادُ الْجِدِّيّ للكلام من مجموع الكلمات، ومن جملة هذا المجموع الأداة نفسها (أي: يَدُلّ مجموع الكلام دلالة تَصْدِيقِيَّة جدية على نسبةٍ تامَّةٍ يكون أحد طرفيها مدخول الأداة نفسها.

 مثلاً قوله: «أَكْرِمْ كُلَّ عَالِمٍ» يَدُلّ على نسبة إرسالية مِن قِبَلِ الْمُتِكَلِّم للسامع نحو «إكرام كل عالم». إذن، يجب أن يتصوّر السَّامِعُ معنى الأداةِ ومدخولها فِي الرُّتْبَةِ السَّابِقَة على تصوّره للمراد الْجِدِّيّ للكلام؛ لأَنَّ معنى الأداة ومدخولها طرف لهذه النِّسْبَة، فيجب أن يتصوّر معنى الأداة ومدخولها حتّى يمكن أن يتصوّر النسبةَ. فَيَكُونُ تصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّيّ للكلام فِي طول تصوّر معنى الأداة، وقبل ذلك فرضنا أن تصوّر معنى الأداة فِي طول تصوّر المراد الْجِدِّيّ (أي: فِي ذهن السَّامِع هذا متوقّف على ذاك وذاك متوقّف على هذا، أي: ستكون النَّتِيجَة فِي ذهنه توقّف الشَّيْء على نفسه).

 وَالنَّتِيجَة أَنَّهُ يَسْتَلْزِم تهافت وتناقض فِي تصوّر السَّامِع فِي ذهنه ولحاظه، وهذا (التهافت والتناقض فِي اللِّحَاظ والتصوّر فِي آن واحد بِالنِّسْبَةِ إلى شيء واحد) محال.

 فيبطل الاحتمال الأوّل لوجود هذه المحاذير الثَّلاثة، ويبقى أن ندرس الاحتمالات الأخرى، وهذا ما سيأتي إن شاء الله.

[1] - هامش أجود التقريرات: ج1، ص 440 وما بعدها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo