< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

32/05/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: العامّ /دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كانَ الكلامُ في تخريج هذه الظاهرة الملحوظة الَّتي ذكرناها بالأَمْسِ وهي أن كلمة «كلّ» إذا دخلت على المعرفة أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ وإذا دخلت على النَّكِرَة أفادت الاستيعاب الأفرادي، فما هو تفسيرها؟

 قلنا إن الْعِرَاقِيّ رحمه الله ذكر تفسيراً عُرْفِيّاً لهذه الظَّاهِرَة، لكِنَّنَا لاحظنا أنّ هذا التَّفْسِير قابل للمناقشة كما تقدّم بالأَمْسِ، فلا بُدَّ من تفسير وتخريج آخر لهذه الظَّاهِرَة.

الصَّحِيح في مقام تخريج هذه الظَّاهِرَة هو أن يقال إنَّ مقتضى الأصل والطبع الأولي في كلمة «كلّ» (كما تقدّم سابقاً) هو الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، أي: استيعاب أجزاء المفهوم الآخر الَّذي دخلت عليه كلمة «كلّ»، سواء كان مدخولها مُفْرداً كقولنا: «أكرم كُلَّ عالم» و«اقرأ كُلَّ كتابٍ» أو كان مثنى أو جمعاً (كما سوف نوضّح)، وهذا المفهوم الآخر إنّما يكون طبيعةً ومفهوماً بأجزائها الذَّاتيَّة (أي: الطَّبيعة واجدةٌ لأجزائها بالذّات، وطبيعةٌ بأجزائها وبعناصرها المقوِّمة لها).

 فالاستيعاب الأَجْزَائِيّ الَّذي نفهمه في موارد دخول كلمة «كلّ» على المعرفة أمرٌ على القاعدة ولا يحتاج إلى تخريج، فعندما يقول: «اقرأ كلَّ الكتاب» «صمتُ كلَّ النهار» فَتَدُلُّ كلمة «كُلٍّ» على استيعاب مفهومِ الكلمة الَّتي دخلت عليه كلمة «كُلٍّ» وهو مفهوم الكتاب، ومفهوم الكتاب واجد لأجزائه؛ فَإِنَّ الكتاب بأجزائه يكون كتاباً، وكذلك الصيام.

 وإنَّما الَّذي يحتاج إلى التَّفْسِير والتخريج هو استفادة الاستيعاب الأفرادي في موارد دخول الكل على النَّكِرَة. أي: لماذا نفهم الاستيعاب الأَفْرَادِيّ عندما يقال: «أكرم كل عالم» أو «اقرأ كل الكتاب» ولا نفهم الاستيعاب الأَجْزَائِيّ؟ أي: ما يحتاج إلى القرينة وَالتَّفْسِير وَالتَّخْرِيج هو صرف الاستيعاب إلى الأفراد، وحينئِذٍ نقول في مقام تخريج دلالة كلمة «كُلٍّ» على الاستيعاب الأَفْرَادِيّ عند دخولها على النَّكِرَة: إِنَّنّا لو حذفنا أداةَ العموم (وهي كلمة «كلّ») ولم نقل: «قرأت كلَّ سورة» بل قلنا «قرأت سورةً»، فسوف نفهم الإطلاق الْبَدَلِيّ من كلمة «سورةً»، باعتبار أنَّها نكرة وَمُنَوَّنَة بتنوين التَّنْكِير، ومعنى الإطلاق الْبَدَلِيّ هو أن هناك ملاحظة للأفراد، أي: الْمُتِكَلِّم لاحظ الأفرادَ وأشار إليها ولٰكِنَّهُ أرادَ أحدها على سبيل البدل. هذا فيما إذا لم تأت كلمة «كلّ».

 أما إذا دخلت كلمة «كُلٍّ» (وهي موضوعة لغةً للاستيعاب) في هذا الجو الَّذي كان وَاضِحاً فيه أن النَّظَر إلى الأفراد (لكن أحدها على سبيل البدل)، أفادت استيعاب الأفراد لا على سبيل البدل. فالمقصود أن الأفراد استفدناها قبل دخول كلمة «كلّ» (أي: عند حذف كلمة «كلّ» كُنَّا نفهم أن النَّظَر إلى الأفراد)؛ بدليل أَنَّنَا كُنَّا نفهم الإطلاق الْبَدَلِيّ. والإطلاق الْبَدَلِيّ معناه أن المطلوب هو أحد الأفراد.

 وعليه فإنَّ الأفراد هي الملحوظة وليست الأجزاء، ولكن عندنا تأتي كلمة «كلّ» وهي موضوعة في اللُّغَة للاستيعاب فسوف تدلّ على استيعاب الأفراد، دون الأجزاء.

 وهذا هو سرّ استفادة الاستيعاب الأفرادي عند دخول كلمة «كلّ» على النَّكِرَة.

وبعبارة أخرى: التَّكَثُّر الملحوظ الَّذي يراد إفادة الاستيعاب بلحاظه (ببركة أداة العموم وببركة الكلّ) إنّما هو الأفراد، لا الأجزاء، فقد استفدنا هذا التَّكَثُّر بغض النَّظَر عن كلمة «كلّ»، حيث كُنَّا نفهم الإطلاق الْبَدَلِيّ هناك، فبعد أن حضرت كلمة «كُلٍّ» الموضوعة للاستيعاب، فَتَدُلُّ على استيعاب هذا التَّكَثُّر استيعاباً أَجْزَائِيّاً.

 إذن، فاستيعاب الأفراد ملازم دائماً لهذه النُّكتة، وهي أَنَّهُ لولا أداة العموم (= كلمة «كلّ») لكان الإطلاق بَدَلِيّاً، أي: لكان المفهوم المدخول لكلمة «كلّ» شاملاً للأفراد على نحو الشمول الْبَدَلِيّ. وحيث أن الأداة دخلت على المفهوم، وهي موضوعة للعموم، فكما تصلح الأداةُ للاستيعاب الأفرادي تصلح للاستيعاب الأَجْزَائِيّ؛ إذن تدلّ هنا على الاستيعاب الأَفْرَادِيّ.

فحاصل ما نريد أن نقوله في المقام هو أن الَّذي يظهر من ملاحظة الظهورات هو أن كلمة «كُلٍّ» دائماً تكون معاندة لِبَدَلِيَّة مدخولها. فكُلَّما كان مدخول كلمة «كُلٍّ» بَدَلِيّاً (فيما إذا كان المدخول نكرةً)، تقضي كلمة «كُلٍّ» عليها وتستخلفها باستيعاب أَفْرَادِيّ وتفيد بأنَّ الْمُتِكَلِّم لاحظ الأفراد على سبيل الاستيعاب الأفرادي.

أما إذا كان مدخول كلمة «كلّ» معرفةً، فكلمة «كلّ» تدلّ على الاستيعاب الأَجْزَائِيّ؛ لأَنَّ المعرفة في نفسها لا تقتضي الْبَدَلِيَّة بخلاف النَّكِرَة، وإنَّما المعرفة (كأي مفهوم آخر) تدلّ على أجزاء نفسها بمقتضى طبعها الأولي وإطلاقها الأولي. فاستفادة الاستيعاب الأَجْزَائِيّ في المعرفة أمر ثابت على القاعدة.

ولا يرد النقض على ما ذكرناه بالآية الشريفة «كل الطّعام كان حِلاً لبني إسرائيل» بدعوى أن كلمة «كلّ» في هذه الآية المباركة تدلّ على الاستيعاب الأَفْرَادِيّ (أي: كل أفراد الطّعام)، رغم أن الطّعام هنا معرفة تدلّ على الاستيعاب الأفرادي، بينما قلتم بأنَّ الـ«كُلَّ» إذا دخلت على المعرفة أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ.

هذا النقض غير وارد؛ لأَنَّ مفهوم الطّعام سِنخ مفهومٍ يمكن عَدُّ أفراده أجزاءً له، بخلاف مفهوم الإنسان؛ فإن مفهوم الإنسان لا يمكن عَدّ أفراده أجزاءً له؛ ولذا في مقام الاستيعاب الأَفْرَادِيّ لا يصحّ أن يقال: «كل الإنسان حيوان ناطق» ويُقصد به استيعاب الأفراد، بينما يصحّ القول: «كلّ إنسان حيوان ناطق»؛ لأَنَّ أفراد الإنسان لا يمكن عَدُّها أجزاءً للإنسان، بخلاف مثل مفهوم الطّعام أو مفهوم الماء؛ إذ يمكن عد أفراده أجزاءً له.

 فالاستيعاب الأفرادي في هذه الآية (كما قلنا) في الواقع استيعابٌ أجزائي ومطابق للقاعدة، فلم نخرج من القاعدة الَّتي أسسناها وهي أن كلمة «كلّ» إذا دخلت على المعرفة أفادت الاستيعاب الأَجْزَائِيّ، لكن يمكن عَدّ أفراد الطّعام في هذه الآية أجزاء للطعام. مثل الماء، فإنَّ من الممكن أن يكون أفراد الماء أجزاء له، فَيَصِحُّ أن نقول: «كل الماء يحلّ شربه». فالاستيعاب في هذه الآية ليس أمراً شَاذّاً، وليس أمراً يمكن أن ينقض به على ما قلناه.

 ومما ذكرناه يَتَّضِح حال ما إذا دخلت كلمة «كلّ» على الجمع، مثل «قرأت كل الكتب» أو ما هو بحكم الجمع مثل اسم الجمع كـ«النَّاس» و«القوم» في «رأيت كل النَّاس» أو «رأيت كُلَّ القوم». فهنا العموم والاستيعاب الَّذي نفهمه من أمثال هذه الجمل له وجهان وتخريجان تَامَّانِ:

الأوّل: أن يكون العموم عموماً أَجْزَائِيّاً. فيمكن أن نفهم من جملة «قرأت كلَّ الكتب» استيعاباً أَجْزَائِيّاً (أي: أجزاء تلك الكتب). فكلمة «كُلٍّ» تستوعب جميع أجزاء مدخولها، ومدخولها هو الجمع، وأجزاء الجمع بما هو جمع أفراده. فيمكن اعتبار كل واحد من آحاد الجمع جزءاً من أجزاء الجمع. فيمكن اعتبار الاستيعاب استيعاباً أَجْزَائِيّاً فيما إذا دخلت كلمة «كُلٍّ» على الجمع. وهذا ممكن وصحيح.

 كما يمكن أيضاً أن يكون الاستيعاب استيعاباً أَفْرَادِيّاً، أي: استوعبت كلمة «كلّ» تمامَ أفراد المدخول هنا؛ لأَنَّ المدخول عبارة عن الجمع (=الكتب) وأفراد الكتب عبارة عن كل واحدٍ واحدٍ من الكتب. فكلاهما ممكن في حق الجمع (أي: إذا دخلت كلمة «كُلٍّ» على الجمع يمكن أن نقول: إن الاستيعاب أجزائي - لأَنَّ كل كتاب جزء من الجمع -، كما يمكن أن نقول: إن الاستيعاب أفرادي- لأَنَّ كل كتاب هو فرد من أفراد الكتب-).

لكن لا يبعد عندي أن يكون الأظهر فيه هو الأوّل (= الاستيعاب الأَجْزَائِيّ)، كما هو الحال في دخول كلمة «كُلٍّ» على اسم العدد المعرَّف، مثل «العَشَرَة»، في قولنا: «كُلّ العشرة»؛ فَإِنَّ الاستيعاب الَّذي نفهمه من كلمة «كُلٍّ» في «كُلّ العشرة» استيعابٌ أجزائي (أي: استيعاب ناظر إلى أجزاء العشرة)، و«أجزاء العشرة» تعني «آحاد العشرة» (= كل واحد من أجزاء العشرة هي آحاد العشرة)، والعشرة مركبة من عشرة أجزاء. أما أفراد العشرة فهي العشرات العديدة الَّتي يكون كل واحدة منها فرداً من أفراد العشرة (أفرادها مثلاً عشرة أشخاص، وعشرة تفاحات، وعشرة كتب وهكذا..)[1] . فإن الآحاد المنضوية تحت كل عددٍ أجزاء له وليس أفرادا له؛ فَإِنَّ الأعداد المنضوية تحت عدد «الخمسة» ليست مصاديق وأفراد للخمسة وإنَّما هي أجزاء للخمسة.

 فالاستيعاب إنّما هو استيعاب بالنظر إلى كل واحد واحدٍ من آحاد العشرة، في قبال قولنا: «رأيتُ كل العشرة إلاَّ واحداً منهم» فنكون قد استثنينا جزءاً من مفهوم العشرة، أي: التسعة.

فالحاصل: أَنَّنَا نريد أن نقول فليكن اسم الجمع أو الجمع مثل اسم العدد المعرَّف، أي: الاستيعاب الموجود في الجمع مثل الاستيعاب الموجود في اسم العدد، فإذا دخلت كلمة «كلّ» على الجمع أفادت نفس الاستيعاب الَّذي تفيده هذه الكلمة إذا دخلت على اسم العدد المعرَّف.

 فالاستيعاب في «كل الكتب» ناظر إلى الأجزاء أيضاً، أي: أجزاء الكتب بما هي كتب عبارة عن هذا الكتاب وذاك الكتاب و..؛ لأَنَّ الكتب جمع وأجزاء الكتب عبارة عمَّا يتركّب منه الجمع. فيفيد الاستيعاب الأَجْزَائِيّ.

 هذا تمام الكلام بالنسبة إلى دخول «كُلّ» على المعرفة وعلى النَّكِرَة، وعلى الجمع.

[1] - لا ننسى أن الكلام هنا حول «العشرة» الَّتي هي اسم العدد، أي: العشرة في مقابل أحد عشر واثنا عشر و..، أما «العشرة» الجنس فهي الَّتي تحتوي تحتها أفراد العشرة، كما لا نتحدث في المقام عن أفراد «العشرة» الجمع، ولا عن «العشرات» الجمع (هذا ما أفاده الأستاذ - حفظه الله - جواباً عن أسئلة عدّة من التلاميذ).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo