< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/04/07

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الاستثناء/المفاهيم/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

البحث الثَّاني: وهو البحث الدائر حول سعة وضيق منطوق هذه الجملة. فهل تدلّ الجملة الغائية على أن الحكم المذكور فيها يشمل الغاية أيضاً بحيث أن الغاية تكون داخلة في المغيَّا بحسب الحكم أم لا يشمل ولا تكون الغاية داخلة في المغيَّا بحسب الحكم.

 وقد قلنا: إن هذا البحث مختص بما إذا كانت الغاية غايةً لموضوع الحكم (أي: القسم الأوّل) أو إذا كانت الغاية غايةً لمتعلق الحكم (أي: القسم الثَّاني).

 ومثال القسم الأوّل (= غاية الموضوع) الآية الشريفة: «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق»[1] ، فإن « إلى المرافق» غاية للأيدي، والأيدي موضوع لوجوب الغسل. وكذلك في الجملة الأخرى في الآية «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» فإن «إلى الكعبين» غاية للأرجل الَّتي هي موضوع الحكم.

 ومثال القسم الثَّاني (= غاية للمتعلق) الآية الشريفة: «أتموا الصيام إلى الليل»[2] فقد جُعل الليلُ غايةً للصيام الَّذي هو متعلق الحكم والوجوب.

 فيُعقل البحث في هذين القسمين عن دخول الغاية في المغيَّا أو لا، فإن في القسم الأوّل يعقل أن نتحدث حول أن المرافق (= الغاية) هل هي داخلة في الأيدي من حيث الحكم، ليكون غَسله واجباً كوجوب غسل الأيدي أو لا. أو الكعبين الَّذي هو غاية للأرجل فهل هي داخلة في الأرجل حكماً (طبعاً الكعبان داخلان في الأرجل حقيقيةً وإنَّما الكلام في دخولهما حكماً).

 وكذلك بالنسبة إلى القسم الثَّاني فإن في «أتموا الصيام إلى الليل» يُعقل الكلام عن أن الليل هل هو داخل في الصوم حكماً وليس حقيقةً؛ فإن من البديهي عدم دخول الليل (الَّذي هو أمر تكويني) في الصوم (الَّذي هو فِعْل المكلَّف) حقيقةً. لكن السؤال هو: هل أن حكمَ الليلِ حكمُ الصيام، وأن وجوب الصيام هل هو ثابت في الليل أيضاً أم لا؟

أمّا في القسمين الأخيرين، أي: فيما إذا كانت الغاية غايةً لنفس الحكم (لا لموضوعه ولا لمتعلقه)، سواء بُيّن الحكم بنحو المعنى الاسمي (وهو القسم الثالث) كما إذا قال: «الصيام واجب إلى الليل» أو بُيّن الحكم بنحو المعنى الحرفي (وهو القسم الرابع) كما إذا قال: «صم حتى تصبح شيخاً»، حيث أن الغاية هنا غاية للحكم نفسه؛ فلا معنى للبحث عن أنَّ الغاية داخلة في المغيَّا أو لا؛ فإن المغيَّا هو الوجوب والحكم والغاية هو الليل أو الشيخوخة، فلا معنى للبحث عن دخول (لا حكماً ولا حقيقةً) هكذا غاية في المغيَّا وعدم دخولها فيه.

 بل قد يستحيل دخول الغاية في المغيَّا إذا كانت الغاية غايةً لنفس الحكم؛ لأنه قد يلزم منه اجتماع الضدين. مثلاً في قوله عليه الصَّلاة والسلام: «كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنَّه قذر»، فإن الغاية في الحديث هو «حتى تعلم أنَّه قذر» وحالة العلم بالنجاسة، والمغيَّا هو «كل شيء لك طاهر» والحكم بالطهارة. فالحكم بالطهارة في هذا الحديث مُغَيّاً بالعلم بالنجاسة. فلا يُعقل هنا دخول الغاية في المغيَّا، لأنه مستحيل (أي: حالة العلم بالنجاسة داخلة في المغيَّا الَّذي هو الطهارة)؛ إذ سيكون معناه «حتى مع العلم بالنجاسة سيكون هذا الشَّيْء محكوماً بالطهارة. فلا يعقل جريان النزاع فيما إذا كانت الغاية غاية للحكم، وعلى كل حال فإن هذا البحث يختصّ بالقسمين الأولين.

 وحينئِذٍ نأتي إلى محلّ البحث، هناك من يقول بدخول الغاية في المغيَّا مطلقاً وهناك من يقول بعدم دخول الغاية في المغيَّا مطلقاً (كما يظهر من صاحب الكفاية ره تبعاً للنحوي المعروف نجم الأئمة).

 وهناك قول ثالث يُفَصِّل بينما إذا كانت أداة الغاية من قبيل كلمة «إلى» وبين ما إذا كانت أداة الغاية من قبيل كلمة «حتى» (كما اختاره الزمخشري على ما نُسب إليه وبعض النحاة ادعى الإجماع على أنَّه إذا كانت أداة الغاية من قبيل «حتى» فالغاية داخلة في المغيَّا إجماعاً)؛ لأن «حتى» تُستعمل لبيان أخفى أفراد المغيَّا من حيث الحكم المذكور في المغيَّا، كقولنا: «مات النَّاس حتى الأنبياء»، فإن الأنبياء أخفى أفراد البشر من حيث شمول الحكم له، فقد يتصوّر شخص بأن هذا نبي وهو أقوى النَّاس مقاومة أمام الموت فلا يجب أن يموت، ولذلك يقول القرآن الكريم: «إنك مَيِّت»[3] ، فقطعاً ما بعد «حتى» داخل في المغيَّا.

 أما إذا كانت أداة الغاية من قبيل «إلى» فيقول صاحب هذا القول بعدم دخول الغاية في المغيَّا.

أقول: أما أصل التفصيل ففيه ما لا يخفى؛ لأن كلمة «حتى» الَّتي استعملت لبيان الفرد الخفي خرجت عن كونها أداة الغاية وجارةٍ وخافضة، بل أصبحت حرف عطف، ولذلك نقول: «مات النَّاس حتى الأنبياءُ» بالرفع عطفاً على «النَّاس» ولذلك لم تَجُرّ «حتى» مدخولها. فالواقع أن هذا التفصيل خلطٌ بين «حتى» الجارة والخافضة وبين «حتى» العاطفة. هذا إن كان كلامنا عن «حتى» الغائية، وإلا فهي خارجة عن البحث. هذا بالنسبة إلى القول الثالث فلا وجه له أصلاً.

أما القولين الأولين: فالصحيح أنَّه لا يوجد ضابطٌ كلي لدخول الغاية في المغيَّا ولا قاعدة لخروجها منه، وإنَّما الأمر يختلف باختلاف الموارد والقرائن الخاصّة، فإن وجدت قرينة في مورد على أن الغاية داخلة في المغيَّا فيؤخذ بها، وإن لم توجد قرينة (لا على دخول الغاية في المغيَّا ولا على عدم دخولها) أصبح الكلام مجملاً من هذه الناحية، فلا يدلّ الكلام على أن الغاية محكومة بحكم المغيَّا أم ليست محكومة بحكم المغيَّا. وبهذا السَّبب نفسه لا يُدرى حينئذٍ أن للغاية مفهوم أم ليس لها مفهوم؛ لأن المنطوق إن كان مجملاً (فهل هو موسع يشمل الغاية أو هو ضيق فلا يشمل الغاية، وعليه) فسوف يصبح المفهوم مجملاً أيضاً، فإن المنطوق إذا كان مجملاً من حيث السّعة والضيق فيكون مفهوم الجملة أيضاً مجملاً؛ لأنه على تقدير دخول الغاية في المغيَّا يكون للغاية حكم المنطوق فليس لها حكم المفهوم، وعلى تقدير عدم دخول الغاية في المغيَّا لا يكون للغاية حكم المنطوق فلها حكم المفهوم.

 وحيث أننا لا ندري بأن الغاية داخلة في المغيَّا أو غير داخلة فيها (حسب الفرض)، وبالتالي فلا علم لنا بأن الغاية محكومة بحكم المنطوق ولا علم لنا بأنها محكومة بحكم المفهوم. فالكلام مجمل من حيث الغاية مفهوماً ومنطوقاً. وحينئِذٍ يجب الرجوع إلى أدلة أخرى لمعرفة حكم الغاية، إن كانت توجد هناك أدلّة، وإلا فالمرجع حينئذٍ هو الأصول العملية.

 فإن لم تقم قرينة في مثل قوله تعالى: «وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» على أن الكعبين (قُبّة القدم) داخلان في الأرجل (=دخول الغاية في المغيَّا) ولم تقم قرينة على أن الكعبين خارجان عن الأرجل (=عدم دخول الغاية في المغيَّا)، فحينئذٍ تصبح الآية مجملاً من حيث حكم الكعبين بأَنَّهُ هل يجب مسحهما أو لا، فنرجع إلى الأصول العملية، فنجري أصالة البراءة عن الوجوب.

وأمّا صاحب الكفاية ره فقد استدل على قوله بأن الغاية حدُّ الشَّيْء والحدُّ خارج عن المحدود، فالغاية خارجة عن المغيَّا.

وجواب هذا الاستدلال واضح؛ لأنه:

أوَّلاً: أن تفسير الغاية بالحد تفسيرٌ للمجمل بالمجمل، فما مقصودكم من قولكم «الغاية حدّ الشَّيْء»؟ فهل المقصود من الحد هو أوَّلُ جزء من أجزاء ما يجاور الشَّيْء ويلاصقه، أو آخر جزء من أجزاء الشَّيْء نفسه؟! مثل حدّ بيتكم عبارة عن أوَّل جزء من أجزاء بيت جاركم، أو آخر جزء من أجزاء بيتكم هو حدّ بيتكم.

 فإن كان الحد عبارة عن الأوّل (أوَّل جزء من أجزاء ما يجاور الشَّيْء) فسوف يكون حدّ الشيء خارجاً عن الشَّيْء، ولكن إن كان الحدّ بالمعنى الثَّاني (آخر جزء من أجزاء الشَّيْء نفسه)، فحينئذٍ ليس هذا خارجاً عن المغيَّا. ومن قال أن معنى الحدّ هو المعنى الأوّل؟

وثانياً: أساساً ليس كلامنا هنا في الخروج والدخول الحقيقيين، حتى يأتي صاحب الكفاية ويقول إن حدّ الشَّيْء خارج عن الشَّيْء حقيقة وليس داخلاً فيه، فإنه ليس كلامنا عن خروج الغاية عن المغيَّا حقيقةً، بل عن خروج الغاية عن المغيَّا حكماً، وإن كانت خارجة عن المغيَّا حقيقة. مثل مثال «الليل والصوم» المتقدم، حيث قلنا إن الليل خارج عن الصوم حقيقةً، لكن يعقل النزاع في الدخول والخروج الحكميين بأن الليل هل هو داخل في حكم الصوم أو لا. إذن فهذا الاستدلال غير تام. والنتيجة أنَّ في بحث دخول الغاية في المغيَّا وعدم دخولها يكون الأمر كما قلناه من اتباع القرائن إذا وجدت وإلا فنرجع إلى الأصول العملية.

 هذا تمام الكلام في هذا البحث الحادي والعشرين من بحوث دلالات الدليل الشرعي اللفظي وهو بحث مفهوم الغاية، وبعد ذلك ندخل في البحث الثَّاني والعشرين وهو بحث دلالة الاستثناء على المفهوم ونأمل أن نكملهما خلال هذا الأسبوع، حتى ندخل في العامّ بعد العطلة.

البحث الثَّاني والعشرون

مفهوم الاستثناء

 طبعاً لا يخفى أن المقصود من الاستثناء واضح، وهو إخراج واقتطاع شيء من شيء. فهل لهذا مفهوم أو لا؟

 تارة يكون الاستثناء استثناءً من السلب والنفي كما إذا قال: «لا يجب تصديقُ المخبِر إلا الثقة»، وأخرى يكون الاستثناء من الإثبات والإيجاب، كما إذا قال: «أكرم العلماءَ إلا فسّاقَهم» فإنه استثناء من الإيجاب. فهذان نحوان من الاستثناء ينبغي البحث عنهما.

أما النحو الأوّل فلا إشكال في ثبوت المفهوم للاستثناء من السلب، أي: يدلّ على انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى. فمثلاً في مثال «لا يجب تصديقُ المخبِر إلا الثقة» يكون الحكم المذكور للمستثنى منه هو عدم الوجوب (= لا يجب تصديق المخبر)، وبعد ذلك استثنى الثقة من عدم الوجوب، فلا شك في أن هذا الاستثناء له مفهوم. أي: يدلّ على انتفاء ذاك الحكم وهو عدم وجوب التَّصديق إلا الثقة، ومن المعلوم أن نفي (= المفهوم) النفي إثبات، فثبت المفهوم.

 وهذا واضح، بل نرى أنَّه أوضح من أن يُستدلّ عليه بدليل ولا يحتاج إلى إقامة دليل على أن هذا النحو من الاستثناء له مفهوم وإن كان صاحب الفصول ره حاول أن يستدلّ عليه (على أن الاستثناء من النفي إثبات وهو المفهوم) أيضاً، إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه فقد حاول أن يستدلّ على ذلك بدليل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل إسلام من كان يقول: «لا إله إلا الله». فإن من يقول «لا إله إلا الله» يكون قد استثنى (إلا الله) من النفي (= لا إله). فلو لا أن الاستثناء من النفي إثبات، إذن من قال «لا إله إلا الله» ليس يثبت وجود الله فلا يكون مسلماً، وهذا يدلّ على أن الاستثناء من النفي إثبات. أي: يثبت وجود الله. ولذا يعبر عن هذه الجملة بكلمة التوحيد.

أقول: لا حاجة إلى الاستدلال وأمثاله وواضح أن الاستثناء من النفي إثبات. فبالنسبة إلى هذا القسم لا أظن وجودَ مشكلة.

 وإن كان قد خالف (وإن لم يكن من دأبي أن أذكر أمثال هؤلاء الذين يتميزون باستدلالات سطحية وقشرية، والذي سُمّوا - وللأسف - بأئمة الفقه ومنهم) أبو حنيفة حيث قال: إن الاستثناء من النفي لا يفيد الإثبات (على ما هو المحكي عنه)، واحتج واستدل على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا صلاة إلا بطهور» فقال: لو كان الاستثناء من النفي يفيد الإثبات فلا صلاة إلا بطهور، حيث نفى صدقَ الصَّلاة ثم استثنى الطهور، ولو كان الاستثناء دالاًّ على الطهور كان هذا الكلام يدلّ على صدق الصَّلاة بمجرّد الطهور، أي: بمجرّد أن يتوضأ الإنسان تصدق عليه أنَّه صلى وإن كان فاقداً لسائر الأجزاء والشرائط.

 والعيب والخلل واضح في هذا الكلام؛ فإن المستثنى منه في هذا الحديث الشريف وأمثاله الكثيرة الواردة على هذا السياق (كـ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» و«لا صلاة إلا إلى القبلة» و«لا صلاة إلا بالطهور»)، فإن المستثنى منه في هذه التعابير عبارة عن الفعل التام الجامع للشرائط والأجزاء غير هذا المذكور. مثلاً قوله «لا صلاة إلا بطهور» يعني أن المستثنى منه عبارة عن الصَّلاة الواجدة لسائر الأجزاء والشرائط. إعداد وتقرير: الشيخ محسن الطهراني عفي عنه وواضح أن الصَّلاة لا تصدق عليه، لأننا (في بحث الصحيح والأعمّ) إما من القائلين بأن ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح فالصحيح هو الواجب والصلاة الفاقدة للطهور ليست صلاةً أساساً، وإما أن نقول أن الألفاظ موضوعة للأعمّ فالصلاة الفاقدة للطهور ليست صلاة صحيحة.

 إذن المفهوم هو أنَّه الصَّلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشروط حتى الطهور صلاة وصحيحة كذلك.

 فالمنطوق في هذا الحديث الَّذي ذكره عبارة عن نفي الصلاتية عمَّا هو واجد لجميع ما يُعتبر في الصَّلاة إلا الطهور. هذا هو المفهوم. والمفهوم عبارة عن إثبات الصلاتية لواجد الأجزاء والشروط حتى الطهور. فالحكم بعدم الصلاتية هنا مختص بالمستثنى منه، ومنفي عن المستثنى، فدلالة هذا الحديث على ما قلناه من انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى واضحة وظاهرة.

 بعد ذلك نأتي إلى النحو الثَّاني من الاستثناء وهو الَّذي يقع البحث فيه وهو الاستثناء من الإيجاب، وهذا ما يأتي غدا إن شاء الله.

[1] - سورة المائدة (5): الآية 6.

[2] - سورة البقرة (2):الآية 187.

[3] - سورة الزمر (39):الآية 30.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo