< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/03/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الأدلة المحرزة/الدليل الشرعي/الدليل الشرعي اللفظي/دلالة الدليل/المفاهيم/مفهوم الوصف

قلنا إن الطريق الأول لاقتناص المفهوم من الكلام هو اقتناصه بحسب الدلالة التصورية للكلام، وهذا متوقف على أمرين:

أن يدل الكلام على التوقف. أن يدل الكلام على أن المتوقف هو الطبيعي.

وهذان الشرطان غير متوفرين في الجملة الوصفية (في مثل أكرم الفقير العادل). أما الشرط الأول غير متوفر فلأن هذا الكلام لا دلالة فيه على التوقف (أي: توقف وجوب الإكرام على قيد العدالة). وذكرنا دليلين بهذا الصدد:

أولاً: شهادة الوجدان بعدم دلالة هذه الجملة على التوقف.

وثانياً: عدم اشتمال هذه الجملة على ما يدل على هذا التوقف؛ لأن كلمة «التوقف» أو «المتوقِّف» أو ما أشبههما مما يدل على التوقف بالمعنى الاسمي غير موجود في هذه الجملة. وأما ما يدل على النسبة التوقفية (أي: المعنى الحرفي للتوقف) فيجب البحث عنه في الهيئات الموجودة في الجملة، ولا يوجد في هذه الجملة إلا ثلاث هيئات قد لاحظنا بالأمس أن شيئاً منها لا يدل على النسبة التوقفية. بقي الدليل الثالث وهو كالتالي:

وثالثاً: أن هذه النسبة التوقفية التي قد يُتوهم دلالةُ هيئةٍ من الهيئات - أياً كانت - الموجودة في هذه الجملة عليها - بغض النظر عما قلناه في الدليل الثاني - إما تامة أو ناقصة؛ لأن النسب على قسمين لا ثالث لهما.

فعلى الفرض الأول - وهو أن تكون النسبة التوقفية ناقصة - فلا تنفع النسبة الناقصة في اقتناص المفهوم؛ وذلك لأن النسبة التوقفية وحدها غير كافية في اقتناص المفهوم؛ لما تقدم في بحث مفهوم الشرط حيث قلنا - لدى إثبات مفهوم الشرط حسب الرأي المختار -: إن دلالةَ الجملة على التوقف (أو بتعبير آخر على الالتصاق المساوق لعدم الانفكاك) غير كافية - وحدها - لإثبات المفهوم واقتناصه من الكلام. فلنفرض أن كلاماً ما دل بنحو أو آخر على أن «ب» متوقف على «أ»، لكن هذا لا يكفي لإثبات أن هذا الكلام يدل بالمفهوم على أنه إذا انتفى «أ» ينتفي «ب»! بل لا بُدَّ من دلالة الكلام على أن هذا التوقف مطلقٌ (أي: لا بُدَّ من إثبات الإطلاق في التوقف وهو غير الإطلاق في المتوقِّف الذي سوف يأتي في الشرط الثاني، أي: التوقف في كل الحالات). كما تقدم في الجملة الشرطية أن (في مثل «إن كان الفقير عادلاً فأكرمه») لا يكفي - لاستفادة المفهوم - أن يكون الكلام دالاً على أن الجزاء متوقف على الشرط، بل لا بُدَّ بالإضافة إلى الدلالة على أصل التوقف من أن يدل الكلام على أن هذا التوقف مطلق (أي: توقف وجوب الإكرام على عدالة الفقير توقّفٌ ثابتٌ في كل الحالات، غير مختص بحالة دون أخرى).

مثالٌ فقهيٌّ: إن ورد في دليل «إن بلغ الماءُ قدرَ كُرٍّ لا ينجسه شيء»، وأردنا إثبات دلالة هذا الكلام على المفهوم (= إن لم يكن الماء كُرّاً ينجّسه كلُّ شيء من النجس والمتنجس) فنحتاج إلى إثبات أن بانتفاء الشرط (أي: إن كان الماء قليلاً) ينتفي الاعتصام وينفعل الماء. وهذا المفهوم إنما يمكننا اقتناصه من هذه الجملة فيما إذا كان الاعتصام متوقفاً على الكرية وكان هذا التوقف مطلقاً. أي: انفعال الماء متوقف على كريته مطلقاً وفي كل الحالات، سواء كان الماء مثلاً له مادّة (مثل ماء البئر والنبع والعين) أو لم يكن له مادّة (مثل ماء الحوض والماء القليل)، فإذا كان هكذا فيدل بالمفهوم على أن الماء إن لم يكن كرّاً فهو غير معتصم حتى لو كان له مادّة.

والحاصل أنه لا بد من دلالة الكلام على التوقف، ولكن هذا التوقف وحده لا يكفي ولابد من أن يدل الكلام على أن التوقف مطلق أيضاً. وحينئذٍ يدل الكلام على أن الماء القليل ينفعل. وهذا مطلب شرحناه سابقاً.

إذن، فنريد أن نقول الآن: إنه لو فرضتم أن النسبة التوقفية التي نفهمها من قوله: «أكرم الفقير العادل» نسبةٌ ناقصة، فلا تكفي لاقتناص المفهوم؛ لأن النسبة التوقفية تدل على توقف وجوب الإكرام على العدالة، ولكن صرفُ التوقف لا يكفي، بل لا بُدَّ من إجراء الإطلاق في التوقف. وفي المقام لا يمكن إجراء الإطلاق في هذه النسبة التوقفية؛ لأن إجراء الإطلاق في هذه النسبة التوقفية متوقفٌ على أن تكون هذه النسبة التوقفية هي المراد الجديُّ للمتكلم؛ إذ من المعلوم أن الإطلاق من شؤون المدلول التصديقي الجدي للكلام (أي: نجري الإطلاق لإثبات أن المتكلم أراد المطلقَ من كلامه وليس المقيد.)، وليس من شؤون المدلول التصوري والذي يؤخذ من الوضع.

فكما أثبتنا في الجملة الشرطية أن المراد الجدي من قوله: «إن كان الفقير عادلاً فأكرمه» هو بيان أن وجوب الإكرام متوقف على العدالة، كذلك يتوقف وجوب الإكرام على عدالة الفقير.

وحينئذٍ نقول: لا يمكن أن يكون المراد الجدي للمتكلم من هذه الجملة هو النسبة التوقفية (بين وجوب الإكرام وبين العدالة)؛ لأننا افترضنا أن هذه النسبة التوقفية ناقصةٌ (فقد قلنا في البداية: إما نفترض أنها تامة أو ناقصة، ولا ثالث لهما، ونحن الآن نتحدث في الفرض الأول وهو نقصان النسبة التوقفية)؛ لأن النسبة الناقصة ناقصةٌ لا يمكن السكوت عليها، بينما المراد الجدي للمتكلم من جملة «أكرم الفقير العادل» تامة يصح السكوتُ عليها. ولا يشك عربي في تمامية هذه الجملة.

وعلى الفرض الثاني (= تمامية النسبة التوقفية) لا يأتي المحذور الأول؛ لأنه خاصّ بالنسب الناقصة، لكن يرد عليه إشكال أسوأ وهو وجود نسبتان تامتان في الجملة الواحدة وهو محال؛ وذلك لأننا نحصل على نسبة تامة في جملة «أكرم» (حيث تدل على نسبة إرسالية وهي نسبة تامة) ونسبة تامة أخرى هي نسبة الجملة. والنسبة التامة تمثل المراد الجدي والنهائي للمتكلم ولا يمكن تعدد المراد النهائي من الجملة.

فافتراض أن تدل الجملة على نسبة توقفية تامة يستبطنُ تجريدَ النسبة الإرسالية التي نفهمها من «أكرم« عن كونها نسبة تامة وجعلها طرفاً من طرفي النسبة التوقفية؛ وذلك لأن هذا هو معنى التوقف، فإن التوقف هو «توقف وجوب الإكرام - أي: توقف النسبة الإرسالية لوجوب الإكرام - على العدالة». فوجوب الإكرام أصبح طرفاً من طرفي نسبةٍ كبرى ولا يمكن لطرف النسبة أن يصبح نسبةً تامةً. إذن، انسلخ وجوب الإكرام عن كونه نسبة تامة وأصبح نسبة ناقصة (طرفاً من طرفي النسبة الكبرى).

ومن الواضح بطلانه؛ فإنه خلاف الوجدان الواضح والبديهي الذي يحكم بأن النسبة الإرسالية والبعثية والتحريكية التي تدل عليها هيئة «أكرم» في قولنا: «أكرم الفقير العادل» هي النسبةُ التامةُ في هذه الجملة. بينما على فرضكم يجب أن نلتزم بأن هذه النسبة انسخلت عن كونها تامة، كما هو الحال في الجملة الشرطية حيث انسلخت فيها النسبةُ الإرسالية التي تدل عليها «أكرم» عن كونها تامة في قوله: «إن كان الفقير عادلاً فأكرمه»؛ فإن «أكرمه» الموجودة ضمن الجملة الشرطية (بخلاف الموجودة خارج الجملة الشرطية) لا تدل على نسبة تامة، وإنما تدل على طرف من طرفي النسبة التوقفية التي تدل عليها الجملة الشرطية الكبرى والتي تدل على توقف وجوب الإكرام على كون الفقير عادلاً. فوجوب الإكرام طرف من هذه النسبة التوقفية وكون الفقير عادلاً طرف آخر والجملة الشرطية (هيئتها أو أداة الشرط) وضعت في اللغة لدلالة على هذه النسبة التوقفية.

وبهذا اتضح أن الشرط الأول من شرطي دلالة الجملة دلالةً تصورية على المفهوم (وهو أن تدل الجملة على الربط التوقفي أو الالتصاقي) غير موجود في الجملة الوصفية.

أما الشرط الثاني: - وهو دلالة الكلام على أن المتوقف هو الطبيعي فغير موجود في الجملة الوصفية أيضاً؛ لأن هذا الشرط إنما يتم من خلال إجراء الإطلاق في المتوقِّف حتى يثبت أن المتوقف هو الطبيعي. وقد ذكرنا في التنبيه الخامس من تنبيهات مفهوم الشرط أن إجراء الإطلاق في المتوقف إنما يصح فيما إذا كان تقييد الحكم بهذا القيد - أياً كان القيد - من خلال نسبة تامة، كما هو الحال في الجملة الشرطية (حيث قُيِّد فيها الحكمُ - وهو وجوب الصلاة - بزوال الشمس من خلال نسبةٍ تامةٍ دلّت عليها جملةُ «زالت الشمس» والتي تدل على نسبة تامة، فيتم إجراء الإطلاق في المتوقف لإثبات أن طبيعي وجوب الصلاة متوقف على زوال الشمس. أما إن قال «صل عند الزوال» فيكون الحكم مقيداً بزوال الشمس أيضاً لكن قُيّد بالزوال من خلال نسبة ناقصة؛ لأن «عند» ظرف و«الزوال» مضاف إليه، وجملة مضاف ومضاف إليه جملة ناقصة).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo