< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الاصول

32/02/17

بسم الله الرحمن الرحیم

قلنا إن الظهور (الأول) الذي يدل على عدم التداخل مقدم على الظهور (الثاني) الذي يدل على التداخل، بنكتة أقوائية الظهور الأول لكونه ظهوراً وضعياً بخلاف الثاني الذي هو ظهور إطلاقي، والوضعي بحد ذاته أقوى من الظهور الإطلاقي.

ثم طرحنا إشكالاً بقي جوابه، وكان حاصل الإشكال أن الظهور الأول ليس عبارة عن ظهور القضية في الحدوث عن الحدوث، فإن هذا لا يكفي وحده لإثبات عدم التداخل، بل لا بد وأن ينضم إليه الإطلاق الأزماني الدالُّ على بقاء الحكم الأول إلى زمان حدوث الشرط الثاني، وهذا الإطلاق الأزماني ليس وضعياً، فيحصل التعارض مرة أخرى بين ظهورين إطلاقيين، حيث لا أقوى في بين الإطلاق الأزماني وإطلاق مادة الجزاء.

الجواب عن الإشكال:

أولاً: صحيحٌ أن ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث قد لا يكفي وحده لإثبات عدم التداخل، بل يحتاج إلى الإطلاق الأزماني - كما قلنا - لكننا لا نحتاج إلى إثبات بقاء الحكم الأول إلى زمان حدوث الحدث الثاني بالإطلاق الأزماني في خصوص القضايا التي هي محل ابتلائنا في الفقه، كي يقال إن التعارض حصل بين إطلاقين ولا أقوى في البين، وإنما نقطع - في تلك القضايا - عادةً ببقاء الحكم الذي حدث بالشرط الأول (النوم) إلى زمان حدوث الحدث الثاني (البول)، ولا نحتمل ولا واحداً بالمائة بأن ذاك الوجوب الذي حدث بسبب النوم قد حان أجلُه، بل نقطع بأنه باق، فلا نحتاج إلى الإطلاق الأزماني كي يثبت لنا هذا البقاء والاستمرار. على أن النزاع بين الفريقين (القائل بالتداخل والقائل بعدم التداخل) إنما هو في توجه حكم واحدٍ أو حكمين للوضوء بعد حدوث الشرط الثاني (البول)؟ القائل بالتداخل يقول بالثاني، والقائل بعدم التداخل يقول بالأول.

فالفريقان متفقان - حتى القائل بالتداخل - على إمكان امتثال الحكم الأول الحكم الأول (الحادث بالنوم) بعد حصول الشرط الثاني (البول)! وإنما يتنازعان في حدوث حكم ثان بحدوث الشرط الثاني (البول)، فيرفض القائل بالتداخل حدوث حكم ثان بعد حصول الشرط الثاني ويقول: إن السببين (النوم والبول) قد تداخلا وأوجدا وجوباً واحداً، فأصبح كل منهما جزء من العلة.

مثلاً إذا أحدث مكلفٌ الجنابةَ ومسَّ الميتَ، فلا إشكال عند الفريقين (القائل بالتداخل والقائل بعدم التداخل) في أنه يصح منه غسلُ الجنابة حتى بعد مسه للميت، وإنما الخلاف بينهما في ثبوت وجوب آخر للغسل بعد مس الميت، لأجل مس الميت؟ وهل أن مقتضى القاعدة هو عدم التداخل أو أن مقتضاها هو التداخل وعدم حدوث وجوب آخر؟

وهذا شاهدٌ على أن بقاء الحكم الأول إلى زمان حصول الشرط الثاني أمر مفروغ عنه. ومن هنا لا يناقشه أحد في احتمال انتهاء أمد غسل الجنابة قبل مس الميت. فيعتبر هذا الغسل امتثالاً لذاك الوجوب، فلا نحتاج إلى الإطلاق الأزماني، وإلا لو لم يكن باقياً لم يُعقل امتثالُه.

وخلاصة الجواب: أن لا حاجة إلى الإطلاق الأزماني عادة، للقطع - وهو أقوى من الإطلاق الأزماني - ببقاء الحكم الأول إلى زمان حدوث الشرط الثاني. فيكون الظهور المقتضي لعدم التداخل هو ظهور وضعي (وهو الحدوث عند الحدوث)، بينما الظهور المقتضي للتداخل إطلاقي (إطلاق مادة الجزاء)، فيأتي الوجه الذي ذكرناه وهو التقديم بنكتة الأقوائية.

وثانياً: لو سلمنا أننا بحاجة إلى الإطلاق الأزماني (الذي ينتج عدم التداخل) ليقع التعارض بينه وبين إطلاق مادة الجزاء (الذي ينتج التداخل)، لكننا لا نسلم بتقديم الإطلاق الأزماني على إطلاق مادة الجزاء؛ وذلك بنكتة الأقوائية العرفية بين الإطلاقين، فلقائل أن يقول: إن ظهور الكلام في الإطلاق الأزماني أقوى من ظهور مادة الجزاء في الإطلاق وإرادة الطبيعي؛ فإن مادة الوضوء (فتوضأ) وإن كانت ظاهرة في الطبيعي، ولكن الإطلاق الأزماني يدل على أن الحكم موجود في كل الأزمان، وهذا الإطلاق الأزماني أقوى من إطلاق مادة الجزاء؛ لأن الطبيعي كثيراً ما يتقيد بقيدٍ، فلا يُراد من الوضوء مطلقُ الوضوء بل حصة منه، وهذا ليس نادراً، خلافاً للإطلاق الأزماني حيث من النادر أن لا يريده المتكلم.

فمثلاً حينما يقول: «عند ما تنام يحدث وجوب للوضوء» (والذي هو ترجمة للحدوث عند الحدوث) وإن كنا نحتاج إلى إطلاق أزماني إلى جانب هذا الظهور لإثبات بقاء هذا الوجوب في أزمنة متأخرة، ولكن هذا الإطلاق الأزماني أقوى، لأن من النادر جداً أن لا يريد المتكلم هذا الإطلاق الأزماني، وإنما يكون مقصوده حدوث الوجوب بحدوث النوم ولكن ينتهي أمده بعد قليل. إن هذا نادر. فندرةُ عدم إرادة الإطلاق الأزماني تقوي عرفاً الإطلاقَ الأزماني في مقابل إطلاق مادة الجزاء. ولكن ليس من النادر أن يريد بالوضوء حصةً منه وليس طبيعيه. أي: تقييد الطبيعي ليس نادراً لكن تقييد الإطلاق الأزماني نادر.

إشكال آخر: وهو تقدم إطلاق مادة الجزاء (الذي يقتضي التداخل) دائماً على ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث (الذي يقتضي عدم التداخل) بنكتة الورود؛ لأن مادة الجزاء الذي يقتضي التداخل واردٌ - وليس حاكماً - على ذاك الظهور الثاني؛ ومعلومٌ أن معنى الورود هو نفي الموضوع حقيقةً، وهذا الإطلاق يرفع موضوع ذاك الظهور حقيقةً؛ لأن موضوع الظهور المقتضي لعدم التداخل وشرطه هو أن يكون تعدد الحكم ممكناً كما شرحنا هذا في الجهة الثانية من جهات البحث، أما إذا لم يمكن تعدد الحكم في مورد فهو خارج عن محل النزاع - كما قلنا -، فلا تدل القضية على الحدوث عند الحدوث، كما نرى وجداناً في المورد الذي نقطع فيه بعدم تعدد الحكم. مثل مسألة الوضوء، حيث نقطع فقهياً بأن من نام ثم بال لم يجتمع عليه وجوبان، فقوله «إن بلت فتوضأ» ليس له دلالة على حدوث حكم آخر بسبب البول.

فموضوع الظهور المقتضي لعدم التداخل هو إمكان تعدد الحكم، بينما مادة الجزاء الدال على أن الوجوب متعلق بطبيعي الوضوء - إذا كانت المادة مطلقة - يرفع هذا الموضوع (وهو إمكان تعدد الحكم) تكويناً، حيث لا يمكن تعدد وجوبين على طبيعي الوضوء، لاستحالة اجتماع المثلين. فيقدم عليه بالورود، يعني انقلبت الآية حيث أردنا تقديم الظهور المقتضي لعدم التداخل على هذا، فتبين أن هذا مقدم على ذاك.

الجواب عن هذا الإشكال: هو أنه لو فرضنا ثبوتَ عدم إمكان تعدد الحكم، فتارة يثبت هذا بالقطع واليقين - وليس بالإطلاق - فليس للكلام حينئذ ظهور في الحدوث عند الحدوث - كما قلنا - لأننا نقطع بعدم إمكان تعدد الحكم.

أما لو فرض أن التعدد كان ممكناً في نفسه ولا نقطع بخلافه، وإنما اقتضى إطلاقُ مادة الجزاء استحالةَ اجتماع وجوبين على طبيعي الوضوء، فيستحيل تعدد الحكم. فظهور القضية في الحدوث عند الحدوث ثابت (وهو يقتضي حدوث حكمين) يتعارض مع إطلاق مادة الجزاء (وهو يقول باستحالة حكمين على الطبيعي)، وحينئذ نرجع إلى الوجه الذي ذكرناه من تقديم الأقوى وهو ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث لأنه وضعي ذكرنا أنه بحد ذاته أقوى من الإطلاق.

هذا تمام الكلام في هذا المقام الأول، وهو البحث عن تداخل الأسباب. وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أننا نوافق الرأي المشهور - ومن جملتهم الآخوند، وإن ذكر وجهاً غير الوجه الذي ذكره المشهور - القائل بأن مقتضى القاعدة عدمُ تداخل الأسباب، ونقول: بأنه كلما وجد الظهورُ المقتضي لعدم التداخل قُدِّم على الظهور المقتضي للتداخل، لكننا نخالفهم في ما ذهبوا إليه من أن هذا الظهور المقتضي لعدم التداخل موجود دائماً في كل قضية شرطية وفي جميع الموارد، بل نرى أن هذا الظهور إنما هو موجود في قضية شرطية تتوفر فيها شروط ثلاثة - كما أكّدنا ذلك - :

أن يكون الجزاء فعلاً من الأفعال. أن يكون الشرطان متعاقبين حدوثاً ولا مقترنين زمانين. أن يكون الحكم الحادث بالسبب الأول باقياً ومستمراً إلى زمان حدوث الشرط الثاني.

طبعاً قلنا إن الشرط الثالث موجود عادةً، فما ادعاه المشهور من أن مقتضى القاعدة عدم التداخل مطلقاً غير صحيح، كما أن ما ادعاه غير المشهور من أن مقتضى القاعدة هو التداخل مطلقاً هذا غير صحيح أيضاً. بل نحن نفصل بين فرض تعاقب الشرطين وكون الجزاء فعلاً من الأفعال وبين غيره من الفروض. فإن في هذا الفرض مقتضى القاعدة عدم التداخل، وفي غيره من الفروض مقتضى القاعدة التداخل.

طبعاً هذا كله بحسب القاعدة، وأما إذا فرض قيام دليل خاص على التداخل، أو فرض قيام دليل خاص على عدم التداخل، فهذا مطلب آخر خارج عن محل الكلام، فلا شك أننا نتبع ذاك الدليل الخاص.

ومثال ما إذا قام دليل خاص على التداخل هو ما إذا قام الدليل - كما قام الدليل فعلاً - على أن من اجتمع لديه الحدث الأصغر والحدث الأكبر، وكان الحدث الأكبر عبارة عن الجنابة، فاجتمع عليه سبب الوضوء وسبب غسل الجنابة، فيجزي الغسل عن الوضوء. فهذان يتداخلان ويوجدان وجوباً واحداً للغسل.

ومثال ما إذا قام الدليل الخاص على عدم التداخل أيضاً موجود في الفقه وهو قيام الدليل على من اجتمع عليه سبب كفارة التظليل في حال الإحرام وأيضاً سبب كفارة التقبيل في حال الإحرام، فعليه كفارتان، فإن الدليل الخاص دل على عدم التداخل. فلا شك أننا نأخذ بهذا الدليل ولا نتكلم عن مقتضى القاعدة الأولية. وهذا كله واضح.

هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو تداخل الأسباب وعدم تداخلها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo