< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/11/09

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 تحصّل مِمَّا ذكرناه أن كل الوجوه الَّتي ذكرت فِي مقام تعريف الْمَفْهُوم وبيان تلك النُّكتة الَّتي توجب أن يصبح الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ للكلام مفهوماً فِي المصطلح الأُصُولِيّ، كانت غير تامَّةً. فلا زال السُّؤَال باقياً حول النُّكتة الَّتي تصيّر المدلول الاِلْتِزَامِيّ مفهوماً فِي المصطلح الأُصُولِيّ، أو قل: ما هو تعريف الْمَفْهُوم بالدِّقَّة؟! وهذا ما نجيب عنه كالتالي:

الوجه الخامس: وهو الصَّحِيح الَّذي يقتضيه التَّحْقِيق فِي مقام تعريف الْمَفْهُوم، وهو ما أفاده سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّهُ عبارة عن لازم ربط الحكم المنطوق بطرفه. وبعبارة أخرى: هو الْمَدْلُول الالتزامي المتفرّع على الرَّبْط الخاصّ القائم بين طرفيْ الكلامِ. وبعبارة ثالثة: هو الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيُّ الَّذي تكون نكتة اللزوم فيه قائمة بربط الحكم بموضوعه لا بالحكم بخصوصه، ولا بالموضوع بخصوصه.

توضيح ذلك: أنَّ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيَّ أو بتعبير آخر: «الحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمة» تارةً يكون مَتَفَرّعاً على خصوص الموضوع الَّذي يَدُلّ عليه الكلام بالمطابقة (أي: يكون لاَزِماً لطرف الحكم بما هو طرف للحكم) على نحوٍ يزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيُّ وتنتفي الملازمة بزوال الموضوع وطرف الحكم وتغيّره واستبداله بموضوع وطرف آخر، فاللازم لازم لِلطَّرَفِ بما هو طرف. أو قل: «لازم للموضوع بخصوصه»، بحث كما أَنَّهُ قد يكون تغيّر أصل الحكم موجباً لانتفاء الملازمة لخروج الطَّرَف عن كونه طرفاً لذلك الحكم، كذلك قد يكون تغيّر طرف الحكم موجباً لانتفاء الملازمة أيضاً، وذلك كما فِي مفهوم الموافقة.

 فقولنا: «يجب إكرام خدّام العلماء» يَدُلّ (بِمَفْهُوم الموافقة والفحوى وَالأَوْلَوِيَّة) على وجوب إكرام العلماء أنفسهم، وقولنا مثلاً: «إذا زارك ابن كريمٍ وجب احترامه، يَدُلّ كذلك على وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته، وقولنا: مثلاً: «أكرم ابن العلوية» يَدُلّ كذلك على وجوب إكرام العلوية نفسها، وهكذا فِي سائر أمثلة الفحوى ومفهوم الموافقة؛ فَالْمَدْلُولُ الاِلْتِزَامِيّ والحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمة فِي هذه الأمثلة (وهو وجوب إكرام العلماء ووجوب احترام الكريم ووجوب إكرام الْعَلَوِيَّة) متفرع على خصوص الموضوع المذكور فِي الكلام ومرتبط به، أي: هو لازم لطرف الحكم بما هو طرف للحكم، أي: هو لازم لخدام العلماء ولابن الكريم ولابن الْعَلَوِيَّة بما هو طرف للوجوب.

 فإذا تغيّر أصل الحكم المذكور فِي المنطوق وهو الوجوب، بأن قيل: «يستحب إكرام خدام العلماء» أو قيل: «إذا زارك ابن كريم استحب احترامه» أو قيل: «يستحب إكرام ابن الْعَلَوِيَّة»، أو تغيّر طرفه بأن قيل: «تجب الصَّلاة» انتفت الملازمة ولا يثبت اللاَّزِم وهو وجوب إكرام العلماء، ووجوب احترام الكريم، ووجوب إكرام الْعَلَوِيَّة.

وأخرى: يكون الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ والحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمة مَتَفَرّعاً على خصوص المحمول الَّذي يَدُلّ عليه الكلام بالمطابقة، أي: يكون لاَزِماً لأصل الحكم المذكور فِي المنطوق على نحو يزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ وتنتفي الملازمة بينه وبين المنطوق بزوال الحكم و تغيّره واستبداله بحكم آخر، بخلاف ما لو زال الموضوع المذكور فِي المنطوق وتَغيَّرَ طرف الحكم الْمَنْطُوقِيّ إلى موضوع آخر، فإِنَّهُ لا تنتفي الملازمة حينئذٍ بين الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ وبين المنطوق، بل يتغيّر حينئذٍ طرفُ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيِّ وَمَوْضُوعُ الحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمة، فاللازم فِي هذا الفرض لازم لنفس الحكم لا لطرفه، أو قل: لازم للمحمول بخصوصه.

 فقولنا (فِي المثال السَّابِقَ): «إذا زارك ابن كريمٍ وجب احترامه» يَدُلّ بالملازمة على وجوب مقدّمة احترام الابن الزائر، وقولنا (فِي المثال السَّابِقَ): «أكرم ابن الْعَلَوِيَّة» يَدُلّ بالملازمة على وجوب توفير المقدّمات الَّتي يتوقَّف عليها إكرام ابن الْعَلَوِيَّة.

 وهكذا فِي سائر أمثلة وجوب مقدّمة الواجب؛ فَإِنَّ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيَّ والحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمة فِي هذه الأمثلة (وهو وجوب مقدّمة الواجب) مَتَفَرّع على خصوص الحكم المذكور فِي الكلام ومرتبط به، فهو لازم لِنَفْس وجوب ذي المقدّمة. فلو تَغَيَّرَ الحكم من الوجوب إلى حكم آخر، بأن فُرض الاستحباب بدلاً عن الوجوب فِي الأمثلة المتقدّمة انتفت الملازمة بين المنطوق ووجوب المقدّمة، بخلاف ما إذا بقي الحكم هو الوجوب ولكن تَغَيَّرَ طرف الحكم، بأن فُرض الواجب شيئاً آخر؛ فَإِنَّ الملازمة بين المنطوق وبين وجوب المقدّمة باقية على حالها؛ ففي المثال الأوّل مثلاً إذا بقي الحكم على حاله وهو الوجوب ولكن تَغَيَّرَ طرفه (وهو إكرام خدام العلماء) إلى طرف آخر، بأن فُرض الواجب عبارة عن الصَّلاة مثلاً، فإن الملازمة بين المنطوق وبين وجوب المقدّمة باقية على حالها، وإنَّما يتغيّر (بِتَبَعِ تغيُّر طرف الحكم الْمَنْطُوقِيّ) طرف الحكم اللاَّزِم، فتكون المقدّمة الواجبة عبارة عن الوضوء مثلاً فِي المثال (بوصفه مقدّمة للصَّلاَة) بدلاً عن أن تكون عبارة عن مقدّمة إكرام خدّام العلماء.

وثالثةً: يكون الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيَّ والحكم الْمُسْتَفَاد بالملازمةِ مَتَفَرّعاً على الرَّبْط الخاصّ القائم بين طرفي الْقَضِيَّة الَّذي يَدُلّ عليه الكلام بالمطابقة، أي: يكون لاَزِماً لا لأصل الحكم المذكور فِي المنطوق، ولا لطرفه المذكور فِي المنطوق، بل لربط الحكم الْمَنْطُوقِيّ بطرفه، على نحو لا يزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيُّ ولا تنتفي الملازمة بينه وبين المنطوق لا بزوال الحكم وتغيُّره إلى حكم آخر، ولا بزوال طرفه واستبداله بطرف آخر، بل يبقى محفوظاً ولو تبدّل كِلا طرفي الْقَضِيَّة (أي: المحمول والموضوع، أو قل: الحكم وطرفه)، فَمَهْمَا تغيَّر أصل الحكم أو تغيَّر طرفه أو تغيَّر كلاهما كانت الملازمة ثَابِتَة على حالها، فاللازم فِي هذا الفرض لازم لربط الحكم بطرفه، لا للحكم نفسه، ولا لطرفه، وهذا اللاَّزِم منحصر فِي الانتفاء عند الانتفاء.

 فقولنا (فِي المثال السَّابِقَ): «إذا زارك ابن كريمٍ وجب احترامه» يَدُلّ بالملازمة على عدم وجوب الاحترام المذكور فِي حالة عدم الزِّيَارَة، وهذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيُّ مَتَفَرّعٌ على الرَّبْط الخاصّ القائم بين طرفي الْقَضِيَّة الَّذي تَدُلّ عليه الجملة (أي: الرَّبْط بين الجزاء والشرط، أو قل: بين الحكم وطرفه) وهذا الرَّبْط عبارة عن «التَّوَقُّف» أو «التَّرَتُّب العلي الانحصاري» (على ما يأتي إن شاء الله) ولازمه انتفاء الجزاء والحكم عند انتفاء الشَّرْط وطرف الحكم.

 وهذا اللاَّزِم ثابت، والملازمة باقية على حالها مهما تَغَيَّرَ الجزاء والحكم أو تَغَيَّرَ الشَّرْط وطرف الحكم، فلو غُيِّر الحكم وجميع أطرافه فِي الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة مع التَّحَفُّظ على نفس الرَّبْط كانت الملازمة بينها وبين الاِنْتِفَاءِ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ ثابتة وإن أوجب ذلك تَغْيِيراً فِي أطراف الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ؛ فَالتَّغْيِيرُ فِي مفردات المنطوق لا يغيّر الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ، بل يظلّ بروحه ثابتاً ومعبِّراً عن اِنْتِفَاء الجزاءِ عِنْدَ اِنْتِفَاءِ الشَّرْط، وإن كان التَّغْيِير فِي مفردات المنطوق ينعكس على هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيِّ فيغيّرُ من مفرداته إلاَّ أَنَّهُ نفسه لا يتغير.

 ففي المثال السَّابِقَ إذا غيّرنا الشَّرْط وطرف الحكم وقلنا: «إذا زارك اليتيم وجب احترامه» أو غيَّرنا الجزاء والحكم نفسه وقلنا: «إذا زارك ابن كريمٍ استحب احترامه» أو غيَّرنا كِلَيْهِمَا وقلنا: «إذا أحدثتَ فِي الصَّلاة بطلتْ صلاتُك»؛ فَإِنَّ هذا التَّغْيِير كُلّه فِي مفردات المنطوق لا يوجب زوال الملازمة بين المنطوق وبين لازمه الَّذي هو عبارة عن انتفاء الجزاء (مهما كان) بانتفاء الشَّرْط (مهما كان) بل الملازمة باقية واللازم ثابت بروحه (وهو الاِنْتِفَاءُ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ) وإن كانت مفردات هذا اللاَّزِم وأطراف الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ تتغيّر طبعاً بِتَبَعِ تَغَيُّرِ مفردات المنطوق.

 فبينما كان اللاَّزِم فِي مثالنا السَّابِقَ عبارة عن انْتِفَاءِ وجوب الاحترام عند انْتِفَاء زيارة ابن الكريم، يُصبح (بعد تغيير الشَّرْط فِي المثال) عبارة عن انْتِفَاء وجوب الاحترام عند انْتِفَاء زيارة اليتيم، ويُصبح (بعد تغيير الجزاء فِي المثال) عبارة عن انْتِفَاء بطلان الصَّلاة عند انْتِفَاء الحَدَث.

 إذن، فهذا القسم الثَّالث من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ هو «المفهوم» المصطلح المبحوث عنه فِي هذه السلسة من البحوث المعروفة بـ«الْمَفَاهِيم»، فهو عبارة عن لازم ربط الحكم الْمَنْطُوقِيّ بطرفه، بلا فرق بين كون اللاَّزِم بَيِّناً وكونه غير بين خلافاً لِلتَّعْرِيفَيْنِ الأوّلَيْنِ، وبلا فرق أيضاً بين كون الملزوم عبارة عن نفس المعنى وكونه عبارة عن خُصُوصِيَّة المعنى، خلافاً لِلتَّعْرِيفِ الثَّالث، وبلا فرق أيضاً بين كون حَيْثِيّة فهم اللاَّزِم مأخوذة ومذكورة فِي المنطوق وعدم كونها كذلك، خلافاً لِلتَّعْرِيفِ الرَّابع([1]

[2] ).

 وأمّا القسم الثَّانِي من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ وهو لازم نفس الحكم فلا يُبحث عنه هنا، بل يُبحث عنه (كما يأتي إن شاء الله تعالى) فِي مباحث الدَّلِيل العَقْلِيّ والملازمات الْعَقْلِيَّة.

 وأمّا القسم الأوّل من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِيّ وهو لازم طرف الحكم، أي: مفهوم الموافقة فليس مِمَّا يستشكل فيه ولا مِمَّا يُبحث عنه إلاَّ ببعض مراتبه وهو قياس الأَوْلَوِيَّة، وهذا مِمَّا يأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - فِي مبحث القياس وَالأَوْلَوِيَّة فِي مباحث الدَّلِيل العَقْلِيّ.

[1] - قد يقال: لماذا لا نعرّف «المفهوم» بأَنَّهُ اللاَّزِم الَّذي هو عبارة عن الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ؟

[2] والجواب: أن اللاَّزِم قد يكون عبارة عن الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ، ومع ذلك لا يكون «مفهوماً» فِي المصطلح، كما إذا علمنا إجمالاً بوجود أمرٍ بشيء أو بانتفاء أمرٍ آخر عند انْتِفَاء شيء ثالث، وجاء دليل يَدُلّ على انْتِفَاء الأمر الأوّل؛ فَإِنَّ هذا الدَّلِيل يَدُلّ بالملازمة على انْتِفَاء الأمر الثَّانِي عند انْتِفَاء الشَّيْء الثَّالث، مَعَ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا ليس «مفهوماً».

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo