< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/29

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا سابقاً: إن النَّهْي إذا تعلّق بالشيء فلا يكفي فِي مقام امتثال هذا النَّهْي تركُ أحد أفراد ذاك الشَّيْء وأحد مصاديقه، بل لا بُدَّ من ترك جميع الأفراد والمصاديق؛ لأَنَّ الكلّي الطَّبِيعِيّ لا ينعدم إلاَّ بانعدام جميع أفراده.

 وقلنا بالأَمْسِ فِي التَّنبيه الثَّانِي: إن هذا يصحّ فيما إذا كان مُتَعَلَّق النَّهْي جامعاً حقيقيّاً، أي: لا يُمتثل النَّهْي الْمُتَعَلَّق بهذا الجامع إلاَّ بترك كل أفراد هذا الجامع ومصاديقه. أما إذا كان الجامع الَّذي تعلّق به النَّهْي جامعاً انتزاعيّاً من قبيل عنوان: «أحدهما» أو «أحدها»، فلو تعلّق النَّهْي بعنوان وقال: «أنهاك عن أحدهما» أو «نَهَىٰ النَّبِيّ صَلَّىٰ الله عليه وآله وسلم عن أحدهما»، فهنا لا يَتُِمّ ما قلناه، أي: يكفي فِي امتثال هذا النَّهْي أن يترك أحد الفردين، وليس امتثاله بحيث لا يتحقّق إلاَّ بترك كلا الفردين؛ وذلك لأَنَّ الجامع الاِنْتِزَاعِيّ لَيْسَ جامعاً فِي الحقيقة، بحيث ينطبق على كل الأفراد، وإنَّما كما قلنا بالأَمْسِ هو عنوان مشير يشير إلى فرد واحد، وليس جامعاً حقيقيّاً. أي: يختلف عن الجوامع وَالطَّبَائِع الأخرى فِي نقطة وهي أَنَّهُ يمكن أن يُحمل عليه الوجود والعدم فِي آن واحد (أحدهما موجود فِي هذه الغرفة الآنَ، وفي الوقت نفسه نقول: أحدهما معدوم فِي هذه الغرفة الآنَ)، فنحمل الوجود والعدم فِي آن واحد على هذا الجامع. فمثل هذا لا يصحّ فِي الجوامع الحقيقيَّة (فلا يصحّ أن نقول: الإنسان موجود فِي هذه الغرفة الآنَ، والإنسان معدوم فِي هذه الغرفة الآنَ).

والشَّاهد والبرهان على أن الجامع الاِنْتِزَاعِيّ ليس جامعاً فِي الحقيقة هو أن الجامع الحقيقي يستحيل انطباقه على خُصُوصِيّات الأفراد (أو بتعبير آخر: على الأفراد بخصوصياتها)؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا يتحصّل بعد عزل الخُصُوصِيّات وفرزها عن الأفراد وتجريد الأفراد عن خصوصياتها، فيكف ينطبق عليها؟ بينما العنوان والجامع الاِنْتِزَاعِيّ قد ينطبق على الخُصُوصِيّات بما هي خُصُوصِيّات، وذلك فيما إذا انتُزع من الخُصُوصِيّات نفسها، كما فِي عنوان «إحدى الخُصُوصِيّات». هذا تمام الكلام فِي الجهة الخامسة.

وأمّا الجهة السَّادسة: ففي البحث عن دلالة النَّهْي فِي مورد الأمر أو توهّمه، وهو عكس البحث السَّابِع المتقدّم (أي: بحث دلالة الأمر فِي مورد الحظر أو تَوَهُّمه) فَكَمَا أَنَّ الأمر قد يرد فِي مَوْرِد النَّهْيِ أو تَوَهُّمه، كذلك النَّهْي قد يرد فِي مورد الأمر أو تَوَهُّمه.

 كَالنَّهْيِ عن العبادة مثلاً، من قبيل النَّهْي عن صوم يوم عاشوراء؛ فَإِنَّ العبادة من حيث أنَّها عبادة شيء يترقّب ورود الأمر به أو يتوهّم فيه ذلك، فالعبادة فِي معرض الأمر بها.

 وأيضاً كَالنَّهْيِ عن خُصُوصِيَّة من خُصُوصِيّات العبادة الَّتي يُتَوَهَّم فيها أنَّها جزء للعبادة أو شرط لها أو وصف لها، كَالنَّهْيِ عن قراءة فاتحة الكتاب فِي الصَّلاة على الميِّت؛ فَإِنَّ المركوز فِي الأذهان هو أَنَّهُ لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، فيترقّب حينئذٍ كون الفاتحة جزءاً من الصَّلاة على الميِّت.

 وَكَالنَّهْيِ عن الوضوء لصلاة الميِّت؛ فَإِنَّ المركوز فِي الأذهان أن الوضوء وَالتَّطَهُّر شرط للصَّلاَة، فَيُتَرَقَّبُ حينئذٍ الأمرُ به لها.

 وَكَالنَّهْيِ عن الإخفات فِي القراءة فِي الصَّلاة يوم الجمعة، حيث يُتَرَقَّبُ ورود الأمر به كما فِي سائر الأيام. وهكذا فِي أمثال هذه الأمثلة.

والقاعدة الكلّيّة هنا كالقاعدة المتقدّمة فِي بحث دلالة الأمر فِي مورد الحظر أو تَوَهُّمه، فكما قلنا هناك: إن المدلول التَّصوّري للأمر محفوظ، إلاَّ أن المدلول التَّصديقيّ المناسب له غير منحصر فِي الطّلب، فَيَكُونُ مُجْمَلاً من حيث المدلول التَّصديقيّ ولا يستفاد منه أكثر من عدم الحظر والحرمة، فكذلك نقول هنا: إن المدلول التَّصوُّريّ لِلنَّهْيِ محفوظ، حيث يخطر فِي ذهن السَّامِع بمجرّد سَمَاعِ النَّهْيِ الزَّجْر التَّكوينيّ والإبعاد الحقيقي والجرّ عن الفعل.

 إلاَّ أن المدلول التَّصديقيّ المناسب له غير منحصر فِي الزَّجْر وَالرَّدْع التّشريعيّ عن الفعل، بل كما يحتمل هذا، يحتمل أيضاً أن يكون المولى قد أراد كسر وسوسة المُكَلَّف وتردّده فِي الإقدام على الفعل وذلك عن طريق إبعاده وجرّه عنه من دون أن يكون قد أراد ترك الفعل واقعاً؛ فَإِنَّ المُكَلَّف فِي مورد توهّم الأمر يَتَرَدَّدُ فِي إيجاد الفعل، فلأجل القضاء على حالة التردد النَّفْسِيَّة الموجودة لديه يسلك المولى أحسن طريق لذلك وهو جَرُّهُ عن الفعل.

 إذن، فورود النَّهْي فِي مورد الأمر يوجب إجمال النَّهْي فِي مدلوله التَّصديقيّ رغم انحفاظ مدلوله التَّصوُّريّ، فلا يستفاد منه أكثر من عدم الوجوب (فِي مثل المثال الأوّل) أو عدم الجزئية (فِي مثل المثال الثَّانِي) أو عدم الشَّرْطِيَّة (فِي مثل المثال الثَّالث) أو عدم الوصفية (فِي مثل المثال الرَّابع)، وأمّا الحرمة فلا ظهور له فيها.

 هذا تمام الكلام فِي الجهة السَّادسة.

وأمّا الجهة السَّابعة: ففي البحث عن دلالة الجملة الخبريّة النافية المستعملة فِي مقام النَّهْي، وهو نظير البحث الرَّابع المتقدّم، أي: بحث دلالة الجملة الخبريّة المستعملة فِي مقام الطّلب، فَكَمَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ قد تستعمل فِي مقام طلب الفعل، كذلك قد تستعمل فِي مقام الزَّجْر عن الفعل، كقوله تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فِي الحج([1] ) وكقوله: «لا يرتمسُ الصائم فِي الماء» و«لا يَقْتُلُ المحرمُ الصيدَ» ونحوها.

 ولا إشكال فِي صحَّة الاستعمال المذكور، كما لا إشكال فِي دلالة هذه الجملة على الزَّجْر والحرمة عند ظهور حال الْمُتِكَلِّم فِي كونه فِي مقام إعمال المولويَّة لا فِي مقام الإخبار الصرف، وأمّا تفسير هذه الدِّلالة (أعني دلالتها على الزَّجْر ودلالتها على الحرمة) فالكلام فيه هو الكلام المتقدّم فِي بحث دلالة الْجُمْلَة الْخَبَرِيَّة المستعملة فِي مقام الطّلب حول تفسير دلالتها على الطّلب وتفسير دلالتها على الوجوب.

 فمثلاً بناءًا على المسلك المشهور المتقدّم هناك يقال هنا فِي تفسير دلالة الجملة على الزَّجْر عن الفعل: إِنَّها مستعملة فِي نفس المعنى الَّذي وضعت له الْجُمْلَة الْخَبَرِيَّة النافية، وهو نفي صدور الفعل. فقوله مثلاً: «لا يرتمسُ الصائم فِي الماء» مستعمل فِي عدم صدور الارتماس من الصائم، فَيَكُونُ مقتضى الطبع أن يُفهم منه الإخبار عن عدم الارتماس، لا الزَّجْر عنه، لكن بسبب إعمال عناية من العنايات أصبح دالاًّ على الزَّجْر عن الارتماس، والعناية عبارة عن أحد الوجوه الأربعة الَّتي ذكرناها فِي بحث دلالة الْجُمْلَة الْخَبَرِيَّة المستعملة فِي مقام الطّلب، ولا نعيدها هنا خوفا من الإطالة، وإنَّما نقتصر على الوجه الأوّل منها من باب المثال ومن أجل التذكير، فيقال هنا:

 إن الْجُمْلَة الْخَبَرِيَّة النافية بحسب طبعها الأوليّ ذات مدلول تصوري وهو عدم صدور الفعل، وذات مدلول تصديقي وهو الإخبار عَنْ عَدَمِ الصُّدُورِ، وبالإمكان التَّحَفُّظُ على كِلا المدلولين فِي موارد استعمال هذه الجملة فِي مقام الزَّجْر عن الفعل، فيحمل قوله: «لا يرتمس الصائم فِي الماء» على أَنَّهُ يحكي حقيقة ويُخبر عن أن الصائم سوف لا يرتمس فِي الماء، لكن هذا الإخبار ليس إخباراً عن عدم صدور الارتماس فِي الماء من كل صائم، بل من خصوص الصائم الملتزم الَّذي يطبّق أعماله وَتُرُوكه على موازين الشّريعة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كون الصَّائِم الَّذي يطبّق أعماله وَتُرُوكه على موازين الشّريعة تَارِكاً لِلاِرْتِمَاسِ فِي الماء ملازم لا محالة لكون الشّريعة قد زجرته عن الارتماس فِي الماء. فَيَدُلُّ هذا الإخبار حينئذٍ على الزَّجْر عن الارتماس بالملازمة.

 هذا عن تفسير دلالة هذه الجملة على الزَّجْر عن الفعل فِي ضوء المسلك المشهور المتقدّم هناك.

 وللبحث صلة تأتي إن شاء الله تعالى.

[1] - سورة البقرة (2): الآية 197.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo