< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/22

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 تقدّمت ملاحظات ثلاث على كلام السَّيِّد الهاشميّ حفظه الله وهناك ملاحظة رابعة وهي الأخيرة نذكرها فيما يلي:

رابعاً: أن ما ذكره حفظه الله فِي آخر كلامه من أن الاِنْحِلاَل فِي «أكرم العالم» إنّما هو لسبب أن اللاَّم تَدُلّ على أَنَّهُ مُقَدَّرُ الْوُجُود سواء كانت للعهد أو الجنس، كلام لم نفهمه؛ إذ ما هي علاقة اللاَّم بكون مدخولها مُقَدَّرُ الْوُجُود؟ فإن ما هو مُقَدَّرُ الْوُجُود هو الموضوع. أي: هو الَّذي يرجع الكلام بلحاظه إلى قَضِيَّة شرْطِيَّة (كما قلنا) ويكون هو شرط هذه الْقَضِيَّة الشَّرْطِيَّة باعتبار أن الموضوع يُفرض فِي مرتبة سابقة على الحكم، وهذا لا فرق فيه بَيْنَ أَنْ يَّكُونَ مُعَرَّفاً بِاللاَّم (سواء لام العهد أو الجنس) وَبَيْنَ أَنْ لاَّ يَكُونَ مُعَرَّفاً أصلاً، بل يكون نكرة وَمُنَوَّناً بتنوين التَّنْكِير كما فِي «أكرم عَالِماً» و«لا تكرم فَاسِقاً»؛ فكل هذا مُقَدَّرُ الْوُجُود.

 نعم، انحلال الحكم بلحاظه مشروط بِأَنْ لاَّ يَكُونَ مُنَوَّناً بتنوين النَّكِرَة الدَّالّ على الوحدة كما فِي «أكرم عَالِماً» (كما تقدّم شرحه). فانحلال الحكم بلحاظ الموضوع شيء، وكون الموضوع مُقَدَّرُ الْوُجُود شيء آخر، وَاللاَّم لاَ عَلاَقَةَ لَهَا بشيء من هذين، وإنَّما هي لِلتَّعْرِيفِ وَاِتِّكَاءِ الكلمة عليها فقط؛ إذ لا بُدَّ لِلْكَلِمَةِ من الاِتِّكَاءِ عليها أو على التَّنْوِين.

 وكيف كان، فلنرجع إلى ما كُنَّا بصدده، حيث ذكرنا أن لكلٍّ من الأَصْلَيْنِ استثناءً، وذلك بموجب قرينة، فذكرنا الاستثناء عن الأصل الأوّل الجاري فِي طرف الموضوع.

وأمّا الأصل العامّ الجاري فِي طرف الْمُتَعَلَّق (وهو عدم انحلال الحكم وعدم تَعَدُّده بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق) فيُستثنى منه مُتَعَلَّق النَّهْي؛ وذلك لوجود قرينة عُرْفِيَّة فيه تَدُلّ على الاِنْحِلاَل، وهي عبارة عن غلبة نشوء النَّهْي من وجود مفسدة فِي متعلّقه، وغلبة انحلال المفسدة وتعددها بعدد أفراد الطَّبِيعَة الَّتي تعلّق بها النَّهْي، أي: كون كل فرد من أفرادها مُشْتَمِلاً على المفسدة. وبعبارة أخرى: الغالب هو كون مطلق وجود الطَّبِيعَة الَّتي تعلّق بها النَّهْي مُشْتَمِلاً على المفسدة. فمثلاً إذا قال: «لا تكرم الفاسق..» فَحَيْثُ أَنَّ النَّهْي عن شيء ينشأ غالباً من وجود مفسدة فِي ذاك الشَّيْء، والمفسدة غالباً موجودة فِي كل مصداق من مصاديق ذاك الشَّيْء، فهذه الغلبة الارتكازية تُوَلِّدُ ظُهُوراً سِيَاقِيّاً لِمُتَعَلَّقِ النَّهْيِ فِي انحلال النَّهْي إلى نواهٍ عديدة بعدد مصاديق الْمُتَعَلَّق، فتكون كل مصاديق «إكرام الفاسق» فِي المثال مَنْهِيّاً عَنْهَا، وكل فرد من أفراد الْمُتَعَلَّق محرّماً بحرمة مستقلّة، فالإطلاق فِي مُتَعَلَّق النَّهْي شُمُولِيّ لا بدليّ؛ وذلك بموجب هذه القرينة الَّتي لولاها لكان مقتضى الأصل العامّ الَّذي شرحناه أن يكون الإطلاق فيه بَدَلِيّاً كما هو كذلك فِي مُتَعَلَّق الأمر، نظراً إلى عدم وجود هذه القرينة فيه؛ فَإِنَّ الأمر وإن كان ناشئاً غالباً من وجود مصلحة فِي متعلّقه، لكن ليس الغالب فِي المصلحة انحلالها وتعددها بعدد أفراد الطَّبِيعَة الَّتي تعلّق بها الأمر وكون كل فرد من أفرادها مُشْتَمِلاً على المصلحة. وبعبارة أخرى: ليس الغالب كون مطلق وجود الطَّبِيعَة الَّتي تعلّق بها الأمر مُشْتَمِلاً على المصلحة، بل الغالب هو كون صرف وجودها مُشْتَمِلاً على المصلحة. إذن، فالإطلاق فِي مُتَعَلَّق الأمر بدليّ وفي مُتَعَلَّق النَّهْي شُمُولِيّ. وقد اعترض السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ على هذه القرينة الَّتي ذكرها سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ فِي مُتَعَلَّق النَّهْي (أعني غلبة انحلال المفسدة) باعتراضين(- رغم أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَهُ اعترف بها فِي دراسات فِي علم الأصول: ج2، ص95-97.): الأوّل: أن هذه القرينة إنّما تصح على مبنى الْعَدْلِيَّة فحسب، وهو المبنى القائل بِتَبَعِيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد المحتواة فِي متعلقاتها، ولا تصح على مبنى الأَشَاعِرَة القائل بعدم تَبَعِيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد؛ إذ لا موضوع لها حينئذٍ؛ لأَنَّ النَّهْي بناءًا على هذا المبنى ليس ناشئاً من وجود مصلحة أصلاً كي يقال: إن الغالب فِي المفسدة أن تكون اِنْحِلاَلِيَّة، كما هو واضح. وَرَدَّهُ سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد رَحِمَهُ اللَهُ قائلاً: إن الكلام إنَّمَا هو في الظهور الْعُرْفِيّ واللغوي للنهي عن شيء، بينما النِّزَاع بَيْنَ الْعَدْلِيَّةِ وَالأَشَاعِرَة حول تَبَعِيَّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدمها إِنَّمَا هو نزاع ثُبُوتِيّ خاصّ بالأوامر وَالنَّوَاهِي الشَّرعيَّة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأَشَاعِرَةَ الَّذين ينكرون تَبَعِيَّة أوامر الله تعالى ونواهيه للمصالح والمفاسد لا ينكرون تَبَعِيَّة أوامر النَّاس والعقلاء ونواهيهم للمصالح والمفاسد، وهذا كافٍ فِي تَمَامِيَّةِ القرينة الْمُدَّعَاة؛ فَإِنَّ النَّواهي الْعُرْفِيَّةَ وَالْعُقَلاَئِيَّةَ إذا كانت ناشئة غالباً من مفاسد فِي متعلقاتها وكانت المفسدة غالباً اِنْحِلاَلِيَّة ثابتة فِي كل فرد من أفراد الطَّبِيعَة الَّتي تعلّق بها النَّهْي، أصبح النَّهْي ظاهراً عرفاً فِي الاِنْحِلاَل، وكان هذا الظُّهُور حجّة حتّى إذا صدر النَّهْي من الشَّارع. وهذا ما أردناه من القرينة.

 هذا هو الاعتراض الأول مع مناقشته وللبحث صلة تأتي إن شاء الله تعالى.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo