< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/18

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 كان البحث حول المقياس الَّذي ذكره السيد الشهيد الصدر رحمه الله لِبَدَلِيَّة الإِطْلاَق أو شُمُولِيَّته، وكان المقياس يقول: إن الأصل العامّ فِي طرف موضوع الحكم هو أن يكون إطلاق الحكم بِالنِّسْبَةِ إلى أفراد هذا الْمَوْضُوع إطلاقاً شُمُولِيّاً لا بَدَلِيّاً، أي: يَنْحَلُّ الحكم إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الْمَوْضُوع. هذا هو القانون العامّ الأولي.

 ثم ذكر استثناء قائلاً: إلاَّ إذا كان هذا الْمَوْضُوع مُنَوَّناً بتنوين الوحدة (كما فِي قولنا: >أكرم عَالِماً< و>اقرأ كتاباً<)، فلا يكون إطلاق الحكم بِالنِّسْبَةِ إلى أفراد هذا الْمَوْضُوع إطلاقاً شُمُولِيّاً؛ لأَنَّ تنوين الوحدة قيد الطَّبِيعَة بقيد الوحدة، وهذه الطَّبِيعَة لا يمكن أن يكون شُمُولِيّاً.

قلنا: إن السيد الهاشمي حفظه الله ناقش هذا الكلام فِي الهامش، وقال إِنَّه لَيْسَ استثناء عن القاعدة الَّتي أسسها السيد الشهيد الصدر رحمه الله، فدرسنا هذا النقاش وعلقنا عليه بتعليقين تقدما، ووصل الدّور إلى التَّعْلِيق الثَّالث على ما ذكره حفظه الله، وإليك التَّعْلِيق الثَّالث:

ثالثاً: أن ما اعتبره السَّيِّد الهاشميّ حفظه الله هو السِّرُّ في بَدَلِيَّة الإطلاق في مثل «أكرم عَالِماً» وعدم انحلال الحكم وعدم تَعَدُّده بتعدُّد الأفراد (وهو أن «عَالِماً» في هذا المثال ليس هو «الموضوع» بحسب المعنى والواقع، بل هو قيد في الْمُتَعَلَّق، فيكون حاله حالَ الْمُتَعَلَّق من حيث عدم انحلال الحكم بلحاظه) كلام غير صحيح؛ فَإِنَّ المقصود من «الموضوع» في قولنا: «إن الأصل دائماً في الموضوع هو انحلال الحكم بلحاظه إلاَّ إذا كان مُنَوَّناً بتنوين الوحدة» هو ما يكون خطاب الحكم ودليله ظاهراً في كونه سبباً لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ، بحيث يكون مرجع الكلام (بحسب الظُّهُور العرفي) إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ شرطها هو تحقّق الموضوع وَجَزَاؤُهَا ثبوت الحكم، وبالتَّالي يكون الكلام ظاهراً في كون الموضوع هو السَّبَب والشرط لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ، فما للكلام بحسب مقام الإثبات والفهم العرفي دلالة على كونه سبباً لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ نعتبره هو الموضوع، مثل «العالم» في قولنا: «أكرم العالم» ومثل «عَالِماً» في قولنا: «أكرم عَالِماً»، ومثل سائر الأمثلة المتقدّمة.

 وأمّا ما لا يكون للكلام دلالة عرفاً على كونه كذلك، مثل «الماء» في قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، ومثل «التُّرَاب» في قولنا: «تَيَمَّمْ بالتُّرَابِ»، ومثل «الطَّهَارَة» في قولنا: «صلِّ بطهارةٍ» ونحو ذلك، حيث لا ظهور للكلام (في هذه الأمثلة) بحسب المتفاهم العرفي في كون «الماء» أو «التُّرَاب» أو «الطَّهَارَة» سبباً لِفِعْلِيَّة وجوبِ الوضوء أو التَّيَمُّمِ أو الصَّلاة (أي: ليس الكلام ظاهراً في رجوعه إلى قَضِيَّة شرْطِيَّة وهي أَنَّهُ «إن وجد ماء فتوضأ به»، أو «إن وجد تراب فَتَيَمَّمْ به» أو «إن وجدت طهارة فصلِّ»؛ ولذا لولا الدَّلِيل الخارجيّ الدَّالّ على عدم وجوب إيجاد الماء على فاقده، وعدم وجوب إيجاد التُّرَاب على فاقده، لكنَّا نفهم من الكلامين في المثالين الأولين وجوب إيجاد الماء وَالتَّوَضُّأ به، ووجوب إيجاد التُّرَاب والتَّيَمُّم به، كما نفهم من المثال الثَّالث وجوب إيجاد الطَّهَارَة والصلاة بها.

 إذن، فمثل هذا لا نعتبره هو الموضوع ولا نقول بانحلال الحكم بلحاظه حتّى وإن لم يكن مُنَوَّناً بتنوين الوحدة (كما في المثالين الأولين).

 وعليه، فقياس «عَالِماً» في قولنا: «أكرم عَالِماً» بـ«الماء» أو «التُّرَاب» في قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ أو تَيَمَّمْ بالتُّرَابِ» كما فعله السَّيِّد الهاشميّ حفظه الله قياس مع الفارق، حيث أن قولنا: «أكرم عَالِماً» ظاهر عرفاً في كون «عَالِماً» هو السَّبَب والشرط لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ، أي: ظاهر في الرجوع إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ، وهذا بخلاف قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، أو «تَيَمَّمْ بالتُّرَابِ»؛ فإِنَّهُ ليس ظاهراً عرفاً في ذلك كما قلنا.

والأغرب من ذلك قياس «عَالِماً» في قولنا: «أكرم عَالِماً» بـ«مَسْجِداً» في قولنا: «اِبنِ مَسْجِداً»؛ فَإِنَّ «مَسْجِداً» في هذه الجملة حاله حال الْمُتَعَلَّق أساساً، لا الموضوع؛ فهو وإن وقع موضوعاً في التركيب اللَّفظيّ للجملة، إلاَّ أَنَّهُ بحسب المعنى والواقع كَالْمُتَعَلَّقِ؛ فَإِنَّ بناء المسجد ليس إلاَّ إيجاده، فالأمر ببنائه أمر بإيجاده، فحاله حال «الإكرام» في «أكرم عَالِماً» وحال «التَّوَضُّأ» في «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، فكما أن الأمر فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أمر بإيجاد الإكرام وبإيجاد الوضوء، كذلك الأمر فِي هذه الجملة أمر بإيجاد المسجد.

وعليه: فهذه الجملة تختلف اِخْتِلاَفاً جَوْهَرِيّاً عن جُمْلَتَيْ «أكرم عَالِماً» و«تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، كما أنَّ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أيضاً تختلف إحداهما عن الأخرى، والفارق بين هذه الجمل الثَّلاث هو أن «مَسْجِداً» فِي «اِبنِ مَسْجِداً» لا يمكن أن يكون موضوعاً، أيك سبباً لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ.

وبتعبير آخر: لا يمكن أن ترجع الجملة إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ وهي «إن وجد مسجد فَابْنه»؛ فَإِنَّ هذا تحصيل للحاصل كما هو واضح، ولذا قلنا: إِنَّه بحسب المعنى والواقع كَالْمُتَعَلَّقِ، فكما أن الكلام لا يمكن أن يرجع (بلحاظ الْمُتَعَلَّق) إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ، فمثلاً قولنا: «أَكْرِم العالم» لا يمكن أن يرجع (بلحاظ الإكرام) إلى قولنا: «إن وُجِد إكرام للعالم فأكرم العالم»؛ لأَنَّهُ لغو وتحصيل للحاصل، كذلك هذه الجملة لا يمكن أن ترجع (بلحاظ المسجد) إلى قَضِيَّة شرْطِيَّة؛ للزوم اللَّغْوِيَّةِ وتحصيل الحاصل، فالمحذور ثبوتي فِي رجوع الكلام إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ.

وأما «الماء» في جملة: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، فبالإمكان أن يكون موضوعاً وسببا لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ، وبتعبير آخر: يمكن أن ترجع الجملة إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ وهي «إن وجد ماء فتوضأ به»؛ إذ ليس فِي هذا محذور ثبوتي؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ اللَّغْوُ وتحصيل الحاصل، لكن الجملة بِحَسَبِ مَقَامِ الإِثْبَاتِ والفهم الْعُرْفِيّ ليست ظاهرة فِي كون «الماء» مَوْضُوعاً وَّسَبَباً لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ - كما قلنا - فالمحذور هنا (فِي رجوع الكلام إِلَى قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ) مَحْذُور إِثْبَاتِيّ لا ثُبُوتِيّ.

 وأمّا «عَالِماً» فِي جملة «أكرم عَالِماً» فلا مَحْذُور ثُبُوتِيّ ولا إِثْبَاتِيّ فِي أن يكون مَوْضُوعاً وَّسَبَباً لِفِعْلِيَّةِ الْحُكْمِ.

 إذن، فالخلط بين هذه الجمل الثَّلاث غريب.

 وهناك إِشْكَال رابع على ما ذكره حفظه الله يأتي - إن شاء الله - غداً.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo