< فهرست دروس

الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

30/10/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دلالة النَّهْي/البحوث اللُّغَوِيَّة الاكتشافية/دلالة الدليل/الدليل الشرعي اللفظي/الدليل الشرعي/الأدلة المحرزة/علم الأصول

 قلنا إن السيد الخوئي رحمه الله اعترض على كلام الْمَشْهُور القائلين بأن الأمر يَدُلّ على البعث نحو الفعل وَالنَّهْي يَدُلّ على الزَّجْر عن الفعل قائلاً: ما المقصود من البعث وَالزَّجْر؟ هل المقصود البعث وَالزَّجْر التكوينيان أو التشريعيان؟

 إن كان المقصود هو الأوّل فقد ذكرنا إشكاله بالأَمْسِ.

 وأمّا إن كان المقصود البعث وَالزَّجْر التَّشْرِيعِيَّيْنِ، فيقول السيد الخوئي: إِنَّه يرد عليه أن الأمر لا يَدُلّ على البعث، بل الأمر بنفسه بعث تشريعي، لا أَنَّهُ يَدُلّ على بعث تشريعيّ؛ فإنّ معنى قولنا: >يَدُلّ< هو أن الأمر يكشف عن بعث تشريعي، والمفروض أن يكون الكاشف غير المنكشف، بينما الأمر هنا هو بعث تشريعي؛ فَإِنَّ المولى حينما يأمر إِنَّمَا يبعثنا نحو الفعل تشريعاً. وكذلك النَّهْي فإِنَّهُ بوجوده الواقعي زجر تشريعي عن الفعل. وهذا مثل سائر الموارد، فحينما نقول: >أريد الماء< إِنَّمَا تَدُلّ كلمة >الماء< على السائل الخارجيّ، ولا يَدُلّ على صوت الماء الخارج من الفم.

 هذا حاصل اعتراض السيد الخوئي رحمه الله([1] ).

تحرير محلّ الإشكال على كلام السيد الخوئي:

 لنفترض أنّ النُّقْطَة المشتركة بين أصحاب التَّيَّار الحديث (بين الرَّأْي المشهور السَّائِد بينهم وبين رأي السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ) وهي النُّقْطَة القائلة بأن متعلّق الأمر وَالنَّهْي شيء واحد وهو الفعل، هي الصحيحة خلافاً لما اشتهر بين القدامى مِنَ الأُصُولِيِّينَ (حيث كانوا يقولون بأن مُتَعَلَّق الأمر طلب الفعل وَمُتَعَلّق النَّهْي طلب ترك الفعل، كما تقدّم بالأمس)، لنفترض ذلك كي نتفرّغ للبحث عن النُّقْطَة المختلف فيها بين أصحاب التَّيَّار الحديث، وهي عبارة عن معنى الأمر ومعنى النَّهْي، فهل أن معناهما هو ما يقوله الرَّأْي المشهور بين أصحاب التَّيَّار الجديد من البعث وَالزَّجْر، أم أن معناهما ما يقوله السَّيِّد الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ من اعتبار الفعل واعتبار الحرمان منه؟!

الإشكال على كلام السيد الخوئي: الَّذي نراه هو أنَّ الاعتراض المتقدّم الَّذي وجَّهه السَّيِّد الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ إلى الرَّأْي المشهور مبنيّ على مبناه في الوضع، حيث يقول: إن حقيقة الوضع عبارة عن التَّعَهُّد والالتزام مِن قِبَلِ الواضع (والواضع عند السيد الخوئي هو كل متكلم يتكلم بالعربية أو بالفارسية أو بأية لغة أخرى) بأَنَّهُ كلّما قصد تفيهم هذا المعنى المعيَّن أتى بهذا اللَّفظ الخاصّ.

 ومن آثار هذا المبنى وممَّا يتفرع عنه ما صَرَّح به رَحِمَهُ اللَهُ وصرح به غيره في بحث الوضع وفي غيره مراراً من أن الدِّلالة الوضعيَّة للألفاظ عبارة عن الدِّلالة التَّصديقيَّة الَّتي فيها جهة الكشف عمَّا فِي نفس الْمُتِكَلِّم، خلافاً لما هو المشهور والصحيح من أن الدِّلالة الوضعيَّة عبارة عن الدِّلالة التصورية، فالدلالة التَّصديقيَّة الموجودة في الجملة التَّامَّة (وهي دلالتها على وجود المعنى في نفس الْمُتِكَلِّم وكشفها عن أَنَّهُ قد أراده واقعاً) منشأها الوضع؛ وذلك لأَنَّهُ إذا كان الوضع عبارة عن أن الْمُتِكَلِّم قد تعهَّد بأَنَّهُ كلما قصد تفهيم هذا المعنى المعيَّن أتى بهذا اللَّفظ الخاصّ.

 فهو عندما يتلفّظ بهذا اللَّفظ الخاصّ يكشف هذا اللَّفظ عند السامع عن وجود هذا المعنى المعيَّن في نفس الْمُتِكَلِّم ويدلّ على أَنَّهُ قد أراده وقَصَده واقعاً؛ لأَنَّهُ قد تعهَّد بأَنَّهُ كلما أراد هذا المعنى تلفَّظَ بهذا اللَّفظ.

 فبناءًا على هذا المبنى يتوجّه الاعتراض الَّذي وَجَّهَهُ رَحِمَهُ اللَهُ إلى الرَّأْي المشهور؛ إذ يقال: إِنَّه لا يمكن أن يكون الأمر موضوعاً للبعث وَالنَّهْي موضوعاً لِلزَّجْر؛ لأَنَّ هذا معناه أن الْمُتِكَلِّم قد تعهَّد بأَنَّهُ كلّما قصد البعث وأراده أتى بلفظ الأمر وكلما قصد الزَّجْر وأراده أتى بلفظ النَّهْي، فإذا تَلَفَّظَ بالأمر كشف الأمر عن وجود البعث في نفس الْمُتِكَلِّم ودلّ على أَنَّهُ قد أراده وقصَده، وإذا تَلَفَّظَ بالنهي كشف النَّهْي عن وجود الزَّجْر في نفسه ودلّ على أَنَّهُ قد أراده وقصده.

 إذن، إن معنى وضع الأمر للبعث ووضع النَّهْي لِلزَّجْر هو أن الأمر وَالنَّهْي يكشفان عن البعث وَالزَّجْر، بينما هذا باطل؛ لأَنَّهُ إن كان المقصود عبارة عن البعث وَالزَّجْر التَّكْوِينِيَّيْنِ فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأمر وَالنَّهْي لا يَدُلاَّنِ عليهما، أي: لا يكشفان عن وجود بعث وزجر تَكْوِينِيَّيْنِ في نفس الآمِر وَالنَّاهِي؛ إذ ليس في نفس المولى بعث وزجر تَكْوِينِيَّانِ؛ إذ لو كان كذلك لَمَا كان يأمر وينهى، بل كان يدفع العبد نحو الفعل دفعاً تَكْوِينِيّاً ويجرّه إليه جَرّاً؛ فَإِنَّ الدَّفْع والمنع التَّكْوِينِيَّيْنِ لا يَتَحَقَّقَانِ بالألفاظ (أعني: بالأوامر وَالنَّوَاهِي)، بل يَتَحَقَّقَانِ بإعمال القوّة خارجاً.

 وإن كان المقصود عبارة عن البعث وَالزَّجْر التَّشْرِيعِيَّيْنِ، فمِنَ الْوَاضِحِ أيضاً أَنَّ الأمر وَالنَّهْي لا يَدُلاَّنِ عليهما ولا يكشفانِ عن وجودهما في نفس المولى الآمِر وَالنَّاهِي؛ لأنهما بنفسهما بعث وزجر تَشْرِيعِيَّانِ، لا أنهما يكشفان عن بعث وزجر تَشْرِيعِيَّيْنِ؛ إذ المفروض في الكاشف أن يكون غير المنكشَف لا عينه.

 إذن، فاعتراضه رَحِمَهُ اللَهُ على الرَّأْي المشهور هو في الواقع انسياق مع مبانيه رَحِمَهُ اللَهُ في باب الوضع.

 وأمّا بناءًا على المسلك الصَّحِيح عندنا في باب الوضع وهو القول بأن الوضع عبارة عن إقران اللَّفظ بالمعنى إقراناً أكيداً بحيث يتبادر المعنى إلى ذهن السامع كُلَّمَا سمع اللَّفظ، وكذلك بناءًا على المسلك المشهور القائل بأن الوضع عبارة عن جعل اللَّفظ بإزاء المعنى واعتبار ذلك، فَالدِّلاَلَةُ الوضعيَّة النَّاشِئَة من الوضع ليست دلالة تَصْدِيقِيَّة، بل هي دلالة تَصَوُّرِيَّة بحتة ليس فيها جهة كشفٍ عن شيء أصلاً، بمعنى أن اللَّفظ إنّما يوجب خطور المعنى وتبادره إلى ذهن السامع، فَالَّذِي يصنعه الوضع ويولِّده (سواء قلنا إِنَّه القرن الأكيد بين اللَّفظ والمعنى، أو قلنا: إِنَّه الجعل والاعتبار) ليس إلاَّ عبارة عن خطور المعنى إلى الذِّهْن عند سماع اللَّفظ، وهذا الخطور هو الَّذي نسميه بالدِّلالة التصورية، أي: أن سماع اللَّفظ وتصوّره يسبّب تصوّر المعنى في الذِّهْن.

 وأمّا الدِّلالة التَّصديقيَّة فهي ليست من صنع الوضع وليست ناشئة ومتولِّدة منه، بل مصدرها السِّيَاق والمناسبات وظهور حال الْمُتِكَلِّم. فبناءًا على هذا المبنى لا يتوجه الاعتراض المذكور الَّذي وَجَّهَهُ السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ إلى الرَّأْي المشهور، وذلك لإمكان القول بأن الأمر يدلّ على البعث التَّكوينيّ، وَالنَّهْي يدلّ على الزَّجْر التَّكوينيّ، بمعنى أنهما يُخطران هذا المعنى إلى ذهن السَّامِع ويوجبان ارتسام صورة البعث وَالزَّجْر التَّكْوِينِيَّيْنِ في ذهنه.

 وطبعاً نقصد بالبعث وَالزَّجْر معناهما الاِسْمِيّ في مادّة الأمر وَمَادَّة النَّهْي، ومعناهما الْحَرْفِيّ النِّسْبِيّ (أي: النِّسْبَة الْبَعْثِيَّة وَالإِرْسَالِيَّة، وَالنِّسْبَة الزَّجْرِيَّة) في صيغة الأمر وصيغة النَّهْي، على شرح وتفصيل سبق في بحث معاني الحروف وبحث معاني الهيئات، وأيضاً في بحث دلالة صيغة الأمر.

 إذن، فالمولى يأمر وينهى ليُخطر في ذهن المُكَلَّف صورة البعث وَالزَّجْر التَّكْوِينِيَّيْنِ، هذا ما يدلّ عليه الأمر وَالنَّهْي بالدِّلالة الوضعيَّة، وبعد ذلك نستكشف بالسياق والمناسبات وظهور حال الْمُتِكَلِّم أن الأمر وَالنَّهْي كان بداعي البعث التّشريعيّ وَالزَّجْر التّشريعيّ، بمعنى أنَّ الظُّهُور الحالي للمتكلم يكشف كشفاً تصديقيّاً عن أن المراد النَّفْسِيّ والداعي الحقيقي له وهدفه من إخطار صورة البعث التَّكوينيّ (في الأمر) وصورة الزَّجْر التَّكوينيّ (في النَّهْي) إنّما هو البعث التّشريعيّ هناك وَالزَّجْر التّشريعيّ هنا، وهذا الكشف هو الَّذي نسمّيه بالدِّلالة التَّصديقيَّة.

 هذا كله عن اعتراض السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ رَحِمَهُ اللَهُ على الرَّأْي المشهور، وقد عرفت عدم صحته.

 يبقى بعد ذلك أن نعالج رأيه رحمه الله حول معنى الأمر وَالنَّهْي حيث قال: إن الأمر هو اعتبار الفعل فِي العهدة ومعنى النَّهْي هو اعتبار الحرمان. وهذا ما يأتي إن شاء الله غداً.

[1] - راجع محاضرات في أصول الفقه: ج4، ص 84-85.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo