< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

40/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النهي عن العبادة او المعاملة هل يقتضي فسادها؟

     الصحة تحتاج إلى ملاك اقتضائي.

     اثبات الصحة يكون إما بالوجدان أو بوجود امر فعلي او انشائي.

     الفرق بين التخصيص والتقييد.

نكمل الكلام في النهي عن العبادات والنهي عن المعاملات، وقلنا ان النهي عن العبادة تارة يتعلق بعنوانها، وتارة يتعلق بعنوان آخر.

حتى نلخص الموضوع كله نقول: تارة النهي عن العبادة بعنوانها وتارة بعنوان آخر، مثلا: صوم العيدين حرام هذا نهي عن العبادة بعنوانها، اما إذا كان بعنوان آخر فمثاله: الصلاة واجبة والنهي لا تكن في مواضع التهمة، فصارت الصلاة في موضع التهمة محرّمة لاجتماع عنوانين، او النهي لا تغصب وصليت في ارض مغصوبة، صار اجتماع عنوانين، فكان النهي بعنوان آخر غير العبادة. وحتى في المعاملات: الظهار حرام، نكاح الشغار حرام، تارة يكون النهي بعنوانه وتارة يكون بعنوان آخر.

وقلنا ان الصحة تحتاج إلى ملاك لان الاحكام تبدأ بمرحلة الاقتضاء ثم الانشاء ثم الفعلية والتنجيز. فلا بد من اقتضاء يعني الملاك الذي على اساسه ينشأ الحكم. هذا الملاك كيف نستدل على وجوده؟ مثلا: كانوا يذبحون القرابين اللآلهة، هذه عبادة، من يقول انه فيها مصلحة؟ إذا كان فيها مصلحة يأمر الله بها. كان المصريون القدماء يرمون اجمل فتياتهم في كل سنة إلى النيل المقدس، هذه عبادة. قد يقال هنا: ﴿ وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ﴾ [1] وهذه عبادة عرفا فتصيح واجبة.

نقول: ان العبادة تحتاج إلى ملاك لتصحيحها، اما مجرد كونها عبادة عرفية في عرف عام او خاص فلا يكفي لاثبات الملاك. الملاك ما الذي يثبته؟ يثبته احد امرين:

اولا: الامر الفعلي به، مثلا: صلِ حج، ﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ [2] يعني في الحج مصلحة.

ثانيا: انطباق عنوان المأمور به ولو لم يكن امر فعلي. كما فعل صاحب الكفاية (ره) عندما رفض الترتب، قال: اذا تزاحم امران يكون احدهما هو الاهم والاخر لا يكون مأمورا به اصلا، وبناء على ان العبادة لا تصح إلا بالامر بها، أي بداعي الامر اصبحت العبادة فاسدة. صاحب الكفاية قال انه يمكن تصحيح العبادة بالملاك، صحيح انه لا يوجد امر فعلي بها ولكن الملاك موجود. ويرد السيد الخوئي (ره) بالشك في وجود الملاك بعد انتفاء الامر، فقد اجبنا عن ذلك ان الامر انتفى فعليا لكن الامر بالمهم موجود أنشاءا، مما يدل على وجود الملاك لان النشاء مترتب على الملاك.

انا اذكر بهذا الكلام لسبب واحد وهو انه عند انطباق عنوان المأمور به ولو مع عدم وجود امر فعلي به للتزاحم مثلا، يكون الملاك محرزا. فالكشف الثاني هو انطباق المأمور به بالامر الانشائي.

فإذن يستكشف الملاك اما من وجود الامر الفعلي أو من انطباق عنوان المأمور به بالامر الانشائي. وكلاهما عند النهي عن العبادة مفقود، فإذا حرم صوم العيدين فمن اين نثبت وجود الملاك مع عدم الامر الفعلي بسبب تعلق النهي؟ فإذا قلت: " لا تصم العيدين " " صوم العيدين حرام " قطعا معناه ان صوم العيدين لا يتعلق به الامر لاجتماع الامر والنهي حقيقة في واحد، وهذا عقلا محال لا يناقش فيه بشر، اما قبيح على المولى او انه تكليف محال، فمع الحرمة لا يوجد امر اصلا. ومع عدم وجود عنوان مطلق مأمور به بالصوم كيف نطبقه على صوم العيدين، ذلك ان ليس المراد من الصوم المأمور به هو الصوم اللغوي، بل صوم خاص شرعي، وهو لا يشمل الصوم المنهي عنه.

نعم، قد يدّعي وجود امر فعلي لفظي بمطلق الصوم بناء على القول بالحقيقة اللغوية، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [3] وكقوله (ص): " صوموا تصحوا " فكأن المولى قال: صوموا إلا صوم العيدين.

ونقول: هذا الادعاء غير بعيد، ولكن التخصيص [4] هو اخراج افراد من العموم، دون التصرف بمفهوم المتعلق، بل غالبا ما يكون التخصيص لوجود ملاك آخر في الفرد المخصص يزاحم ملاك العام، فيخرج عنه. فالعام هو الصوم فيه مصلحة، اما صوم العيدين فهناك ملاك آخر وهو مفسدة زاحم هو اهم من ملاك العام فخرج عنه.

هذا هو معنى " اكرم العلماء إلا الفساق " وهذا هو التخصيص، ولذلك قالوا: ما من عام الا وقد خص، لان العموم فيه افراد كثيرة كلها فيها مصلحة ويبقى بعض الافراد تخرج لمصالح اخرى.

وهنا، لا شك في ثبوت ملاك ومصلحة في جميع افراد الصوم، إلا انه توجد مفسدة في بعض افراده غالبة على مصلحة الصوم، فتقدّم عليها، ويتم التخصيص. هذا في عالم الانشاء. ولذا لا نحرز وجود مصلحة وملاك راجح في صوم العيدين فلا يقع صحيحا. " صوموا " هناك ملاك للصحة، صوم العيدين فيه ملاك للفساد، في عالم الانشاء ذكرنا سابقا ان كل شيء فيه مصلحة ومفسدة لكن يرجح احدهما على الاخر فيكون انشاء الحكم على طبقه. ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم. يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [5] في عالم الاقتضاء يكون هناك مصلحة ومفسدة، على طبق الراجح منهما يأتي الانشاء، وهنا نفس الشيء تماما.

الانشاء يكون فيه ملاك غالب، والملاك الغالب هو الذي يكون على طبق الحكم، فإذن انا احتاج إلى مصلحة غالبة حتى انشأ عليها. وكيف استطيع اثبات وجود هذه المصلحة الغالبة مع عدم وجود امر فعلي او انشائي بمتعلقها؟!

وبعبارة اخرى: الفرق بين عالم الفعلية وعالم الانشاء، ان الفعلية لو ارتفعت كما في التزاحم لا تعني ارتفاع الانشاء. اما في عالم الانشاء فلا يكون الجعل إلا طبق الراجح، ولو كان في البين مصلحة مرجوحة. والمرجوح لا يكون ملاكا لانشاء حكم . وفي النتيجة مع عدم وجود امر فعلي او انشائي من اين نثبت الملاك الاقتضائي، أي الذي ينشأ الحكم على طبقه؟!

وعالم الانشاء يختلف عن عالم الفعلية، عالم الانشاء فيه كسر وانكسار فيأتي الحكم على اساسه، اما في عالم الفعلية فيوجد امران فعليين تزاحما في الفعلية فارتفع احدهما، وهذا لا يعني ارتفاع الانشاء والمصلحة.

ملخص الكلام إذا تعلق النهي بعنوان العبادة لا تصح العبادة، لا لانه لا يجوز التقرب بالمبعد كما سيأتي، بل لعدم وجود الملاك الاقتضائي في العبادة.

واما في المعاملات فتجري فيها اصالة الفساد، او اصالة عدم ترتب الاثر. والمختار، غدا نكمل ان شاء الله.

 


[4] نحن يهمنا في درس الاصول ليس ضخ المعلومات، بل يهمنا ان نفهم المفاتيح، مع فهم المفتاح نفهم كل شيء ونصبح اصوليين. الفرق بين التخصيص والتقييد: ذكرنا ان التخصيص هو اخراج من الافراد مقابل العموم، والتقييد تصرف في متعلق الامر. لهذه النقطة ثمرات عديدة. عندما اقول: " اكرم العلماء إلا الفساق " اكون قد اخرجت بعض الافراد من عموم العلماء ولم اتصرف في متعلق الامر وهو اكرام العالم، لم اتصرف بالعلم ولا في مفهومه ولم اقيده. لذلك اشتبه الكثير من الاصوليين عندما قال ان التخصيص يؤدي إلى تقييد المفهوم. إذن: التخصيص اخراج من الافراد، والتقييد تصرف في مفهوم متعلق الامر. ومثال على التقييد: " اكرم العالم العادل " تقييد للعالم وليست اخراجا لبعض افراد العالم. وهنا في مطلبنا نفس الشيء، عندما اقول: " صوموا الا صوم العيدين " هذا تخصيص، وغالبا في التخصيص يكون اخراج بعض الافراد لمزاحم ولملاك آخر، " صوموا " الصوم فيه ملاك " الا عاشوراء " إذا صمنا يوم عاشوراء اتبعنا بني امية، ومفسدة اتباع بني امية اهم من مصلحة الصوم فخرجت حينئذ هذه الافراد. هذا هو التخصيص. فهناك ملاكان متزاحمان في عالم الانشاء وليس في عالم الفعلية والامتثال، فحصل التخصيص.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo