< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الأصول

36/12/28

بسم الله الرحمن الرحيم

العنوان: مقدمة الواجب، الشرط المتأخر.

المختار: لا مانع من تقييد مطلوب بأمر ما، متقدم أو متأخر، أو مقارن، سواء كان ذلك في الجعل أم في المأمور به، فهو عبارة عن قيد وليس جزء علّة. لأن الطلب هو من باب الاعتبارات لا من باب التكوينيات، ولو كان جزء علّة ولو اعتبارا دخل في قوانين التكوينيات، ويستحكم الإشكال.

وإنما نشأ الإشكال من الاشتراك اللفظي في كلمة " شرط " حيث جعلوا ما للتكوينيات للشرعيات.

توضيح ذلك: أما التكوينيات فهي جميعا تخضع للأحكام العقلية والنواميس الكونية، فالعلّة تؤثر في المعلول،، تخضع لقوانين العقل والتكوين، فلا يؤثر المعدوم في الموجود، ولا يجتمع الضدان ولا النقيضان [1] ، ولا المتخالفان [2] ، ولا يكون الواحد مع الواحد إلا اثنين، وهلمّ جرّا.

أما الاعتبار فلا ضابط له أصلا، فيمكن أن أعتبر أن الواحد مع الواحد يساوي أكثر من اثنين، ويمكن تأثير المعدوم في الموجود، وهلمّ جرا. وذلك لأن الاعتبار خفيف المؤونة، والجعل لا يحتاج إلى أكثر من أخذ القلم والكتابة في لوح الجعل.

فلو فرضنا أن زيدا كان أكبر من عمرو سنا فأقول لك: اعتبره أصغر منه، بمعنى اعطه أحكام الاصغر. أيضا ألا تلاحظ في الدوائر الرسمية الذين يصغرون أعمارهم لأجل الوظيفة، فيكون عمرهم واقعا هو فوق الأربعين عاما، لينزلوه بعد ذلك فيصبح دون الأربعين رسميا وعلى الأوراق الثبوتية. هذا نوع من الاعتبار خلاف الواقع التجريبي الملموس.

نعم الاعتبار من الحكيم يحتاج إلى مقدمات لما للاعتبار من آثار، بل قد تكون الأمور الاعتبارية أحيانا أهم بكثير من الأمور الحقيقية الواقعية. وكمثال: انظروا في محادثات الدول والقوى المتصارعة والمتنافسة كيف تأخذ طاولة المحادثات وقتا طويلا مع استمرار وبالات الحروب فيما بينهم. وهلمّ جرّا من الامثلة الكثيرة.

ولما كان الاعتبار له آثار كبيرة كان لا بد للحكيم من ملاحظة أشياء كثيرة ولذلك بحثوا مراحل الحكم، فقال بعضهم انها أربعة: المصالح، والانشاء، والفعليّة، والتنجيز. واختصرها اخرون باثنتين: الانشاء والفعليّة، أو الملاك والاعتبار والفعلية، او غير ذلك.

كذلك اختلفوا في تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، هل هي في متعلقاتها أو في نفس الحكم؟ ام في الجعل؟

وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي قالوا: إن اجتماع الأمر والنهي في واحد محال عقلا، فمن المستحيل أن تكون صلاة الجمعة واجبة ومحرّمة في آن واحد بعنوانها، ولذلك كان البحث في اجتماع العنوانين على معنون واحد، وما كانت الاستحالة العقلية لمجرد الاعتبار فأنه سهل المؤنة، وإنما كانت لكون الأمر يدل على شوق ورغبة في الحصول، والنهي يدل على كره ومقت له، وهما لا يجتمعان في نفس واحدة. وهذا لا يكون إلا في المعتبر الحكيم لا المعتبر العبثي.

ولذا عندما يعتبر الحكيم لا بد من ملاحظة أمور عقلية أو تكوينية فيقول تعالى: ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع ...[3] فهذا الكسر والانكسار ميزان لكيفية الاعتبار والجعل عند الله تعالى.

ولنطبق ما ذكرناه على مسألتنا فنقول: إذا وجد أمران لا علاقة لأحدهما بالآخر تكوينا، فلا يكون احدهما علّة للآخر، ولكن إذا اعتبر الشارع المقدّس الحكيم أحدهما علّة الآخر معلولا، فلا بد من وضعهما في خانة العلّة والمعلول، ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار كل قوانين العلّة والمعلول، إذ الاعتبار كان في جعله له علّة، وليس في قانون العلّية الذي هو مسألة تكوينيّة لا نستطيع ان نتحكم به.

نعم لو كان الشرط المتأخر في مسألتنا قد اعتبره الشارع من باب العلّية وكون الشرط جزء علّة، وكأنه جزء علّة حقيقي، فيكون الغسل الليلي قد اعتبره الشارع مشروطا بمعنى جزء علّة، فلا بد من تحكيم قانون العلية، ويستحكم الاشكال، الذي هو :كيف يؤثر المعدوم في الموجود؟!

لكن الظاهر أن الغسل الليلي لم يعتبره الشارع شرطا بالمعنى الفلسفي، أي بمعنى التأثير، بل هو مجرد قيد، والقيود ليست منحصرة في الشروط العقلية، بل أنواعها كثيرة والدوافع إليها كثيرة وعديدة، خصوصا أننا لا نعلم علل الاحكام واقعا: " فإن دين الله لا يصاب بالعقول "، كما ورد في الحديث الشريف.

وقوانين العلية لا تشمل إلا الشروط الحقيقية التكوينية، أما القيود التي تأتي من المعتبر فلا ندري المصلحة فيها ولا الدافع إليها فنأخذها كما وردت من دون خضوعها لقوانين العلّة.

واعطي مثالا على ذلك: أرسل أحد الخلفاء صرّة من المال إلى أحد الفقهاء مع عبد له، وقال للعبد: " إن أخذها منك فانت حرًّ. فأخذها العبد الرسول إلى الفقيه، فرفض الفقيه استلامها، فقال له العبد: إن اخذتها ففيها عتقي، فأجابه: ولكنَّ فيها رقّي.

لاحظوا أن شرط العتق هو قبول الفقيه لهبة الخليفة، وأي علاقة للهبة، بعتق العبد! فالقبول ليس شرطا بالمعنى التكويني ولا الاعتباري الذي ينزّل الاعتبار منزلة التكوين، بل هو قيد له مصلحة في نفس الخليفة يعرفها هو دون غيره.

ومسألتنا من هذا القبيل: هذه الشروط قيود لا نعرف مصالحها، فنسلّم بها بعد ثبوتها من الأدلة المعتمدة.

والذي أوقع الأصوليين في هذا البحث هو الاشتراك اللفظي في لفظ " الشرط ".

إذن الشرط المتأخر هو من باب القيد وليس من باب التأثير والتأثر حتى تأتي كل هذه الاشكالات، ولذلك نتعبّد بما ورد في الحديث، بان الغسل الليلي شرط، فلا اشكال في ذلك حينئذ.


[1] مثلا: استطيع اعتبارا ان اجمع الضدين واطلب النقيضين، فاطلب ان تذهب ولا تذهب في آن واحد، لكن عندما اجعلهما ضدين أو نقيضين اكون قد خضعت للقانون التكويني في الضدين والنقيضين. مثلا: يمكن ان اعتبر الاكل في التشريعيات ضدا للصلاة، حيث في الواقع لا تضاد بينهما وبمجرد هذا الاعتبار ادخلتها في قانون التضاد.
[2] تذكير: الفرق بين المتخالفين والضدين: الضدان: لا يجتمعنا ويرتفعان، كالاسود والابيض. كذلك المتخالفان : لا يجتمعان ويمكن ان يرتفعا كالكرسي والسجادة، يرتفعا في الحجر. والفرق بين المتخالفين والضدين: هو ان الضدين متغايران متنافران، مع زيادة قيد التنافر. أما المتخالفان فلا يشترط التنافر بينهما.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo