< قائمة الدروس

الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله

بحث الفقه

33/03/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب النكاح/ العقد الفضولي/ أدلة الصحة

كان الكلام في الماهية الواقعة في سياق النفي " لا بيع إلا في ملك " وذكرنا أن الإنصاف أن هذه الصيغة لو خليت وشأنها كما هي فإنها تدل على نفي الماهية، وإذا لم تدل على ذلك تدل على نفي الصحة، ولا تدل على نفي اللزوم، كما ادعى من رد الاستدلال بالرواية على فساد بيع الفضولي. ووجهنا هذه الروايات باتجاه أنها لا تدل على فساد بيع الفضولي بأنها موجهة لمعظم البشر وهم الأعراب.

قد يقال ما الدليل على أنها موجهة إلى هذه الفئة من الناس، بينَّا ذلك ولكن سأعود لهذا البيان بنوع من الاستدلال والتفصيل نظرا لبعض الاستفسارات، من أين استظهرت ذلك؟ وطبعا الظهور هو الحجة والدليل " لا بيع " ليس فيها بذاتها ظهور بهذا المعنى، من أين حصل هذا الظهور؟ " لا بيع " فيها اتجاهان: أنها تدل على فساد بيع الفضولي، والاتجاه الثاني أنها تدل على عدم لزوم بيع الفضولي. أي إما الصحة أو اللزوم.

بحث اليوم هو كيف استظهرنا أن هذه الروايات موجهة لهذه الشريحة من البشر أي الأعراب.

نقول اختصارا لما مضى، الظاهر من صيغ الماهية في سياق النفي مثل " لا بيع إلا في ملك " هو نفي الماهية.

بعد وجود الماهية وجدانا لا بد من الذهاب إلى أنها دالة على نفي الصفة، ومعه فان الظاهر هو نفي الصحة في العقود لكونها اقرب إلى نفي الماهية، بعضهم قال إن هذه قرينة، فوزان " لا بيع إلا في ملك " وزان " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " استظهروا منها أن الصلاة من دون فاتحة الكتاب باطلة وان الفاتحة جزء أساس.

وذكرنا سابقا أن العبادة لو خليت ونفسها لدلَّت على نفي الصحة ولكن بضميمة كونها موجهة إلى الأعراب تمَّ تقدير الأثر واللزوم. فما الدليل على هذا التوجه والاستظهار؟.

هنا بحث بسيط حول كلمة أعراب.

أعراب تستخدم بمفهومين:

المفهوم الأول: يعنى أهل البداوة مقابل أهل الحضارة، لذلك فسر المفسرون ومنهم الطوسي (ره) في البيان والسيد الطباطبائي في الميزان والمؤرخون ومنهم ابن خلدون، فسروا الأعراب بالبدو، وبهذا فسروا الآية الكريمة في سورة التوبة ( وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة : 98]

فسرت هذه الآية بالبدو الذين هم حول المدينة والذين استثنوا من الآية السابقة، وسموا بعض القبائل.

والآية التي بعدها ( وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 99]

الأعراب بمعنى البدو مقابل الحضر، البدو الذين هم حول المدينة. هذا هو المعنى الأول والذي كثيرا ما يفسر ويتبادر إلى الذهن وكثيرا ما تحمل كلمة أعراب على هذا المعنى.

المفهوم الثاني: الأعراب بمعنى الذهنية الذي لا يهمهم إلا بطونهم وفروجهم، لا قيم عندهم إلا أنانيتهم، لذلك يستبيحون النهب والسلب يعدونه حلالا، والظاهر أن هؤلاء، هم المقصودون بالآية الكريمة في سورة التوبة ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : 97] لاحظوا " الأعراب اشد كفرا " الآية بلحاظ أن ليس لديهم قيم ليس عندهم تشريعات، يعني لهم أنانيتهم شخصهم غرائزهم بطونهم وفروجهم. هؤلاء ذهنية عامة وجعلها الله عز وجل اسما ومعلما لهذه الذهنية.

وانظر إلى الآية الكريمة( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : 14]

ويؤيد هذا الكلام بل يدل عليه أن الأعراب هي عبارة عن ذهنية، ما رواه الكليني في الكافي عن علي بن محمد بن عبد الله عن احمد بن محمد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( تفقهوا في الدين فانه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي إن الله يقول في كتابه " ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون")[1] .

هذه الرواية من حيث السند معتبرة، وبحسب الاصطلاح الرواية موثقة لوجود البطائني وعثمان بن عيسى واقفي من أجلاء الفقهاء، وعلي من الواقفة الثقاة[2] .

أما من ناحية المفهوم الإمام (ع) قال: " من لم يتفقه " فأعطى مفهوما للأعرابي وليس لقوم أو سكان، أو لبقعة معينة أو عنصر معين أو قومية معينة، بل لذهنية، لصفة. والمفهوم هو التالي: من لم يتفقه في الدين فهو أعرابي. إذن أعطى هوية وجعلها مفهوما عاما ولم يحصره بقوم دون آخرين ومعللا هذا المفهوم بالأمر بالتفقه.

إذن دليلنا على أن " لا بيع " موجه لهذه الشريحة، للمعنى الثاني من الأعراب أمران:

الأول: إن هذا " لا بيع" لا معنى لهذا الجواب ولا معنى للسؤال بما هو، هل ينكر احد جواز بيع ما لا يملك، هل سمعت شخصا يسأل: هل تجوز السرقة؟ وهل يجوز الكذب؟ فما معنى سؤال السائلين، وما معنى تقبل الإمام (ع) وجوابهم.

الجواب: " إن هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" بطبيعة الناس في أعماقها أن هذا خطأ وان الصدق حسن وان الظلم قبيح، في أعماقها لا معنى للسؤال، هذا مسلَّم، من آدم (ع) إلى يوم يبعثون.

ما معنى أن يسأل احد الإمام (ع) وهو يؤكد، وكان سؤالا وليس مجرد كلام، هؤلاء أعراب وهم الشريحة الكبرى من المجتمع، يمدون أيديهم إلى ما ليس لهم. إذن إذا كنا نستنكر هذا السؤال لا بد أن نصرف " لا بيع إلا في ملك " عن ظاهرها إلى شريحة، فلا السؤال مقبول ولا الجواب مقبول، والشريحة إلى من تمد يدها ولو بشائبة، ولذلك الأسئلة التي وردت في الجواب عن سؤال، أن شخصا يملك جزءا من الأرض فيبيع الأرض كلها، وهذا موجود بين الناس، أملاك عامة يتعدى عليها، الشارع ملك عام، دون أن يلتفت أن هذا حرام يحاول أن يوهم نفسه بالمبرر ولذلك يسأل.

إنصافا إذا لاحظنا هذه القرينة وصرفنا " لا بيع " عن معناها نصل إلى نتيجة واضحة أن " لا بيع " معناها ليس نفي الصحة، ليس نفي الماهية، بل معناها هو نفي اللزوم، بيع موجود وجدانا، نعم ليس له اثر، لان العقلاء يلتفتون إلى العقود بلحاظ أثارها، ومن دون الآثار لا قيمة لها.

حينئذ يصبح دليلا على نفي الأثر، ولما كان البيع لازما فأصبح دليلا على نفي اللزوم بهذه الواسطة، والإنصاف أننا لو تركنا الروايات وشأنها لكان كلام صاحب الحدائق وفخر المحققين وصاحب البلغة وغيرهم صحيح أن " لا بيع " ينادي بفساد البيع. إن لم نحمل هذه الروايات على هذا المعنى إذ لا معنى للسؤال ولا للجواب من دون هذا التوجيه.

هذا الحمل لم نجده عند الآخرين، وقد استنكره البعض قال إن هذا المعنى لا دليل عليه ولذلك أكدت عليه وكررته.

والحمد لله رب العالمين.


[1] الكافي ج1 ص31 ح6.
[2] - كما عن العلامة وقبل العلامة أخذت من أبناء العامة وطورت: الصحيح والموثق والحسن والضعيف. المتداول في التعريف: الصحيح:سندها كلهم عدول إماميون الحسن:في سندها الممدوح الذي لم يرد فيه توثيق واضح وكان صحيح العقيدة. الموثق:في السند من كان ثقة لكن ليس صحيح العقيدة. الضعيف: ما بقي مما ليس معتبرا من مرسل ومضعف ومقطوع ومجهول وغير ذلك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo